غياب مارون بغدادي المباغت والمفجع، يضعنا مرة واحدة في مواجهة مسار سينمائي متفوق ومتميز شغل عشرين عاماً من حياة هذا الفنان الشاعر، وتمكن من أن يكون علامة أساسية من علامات السينما العربية الجديدة. هنا إطلالة شاملة على عالم مارون بغدادي السينمائي الذي توزع بين بيروت وباريس، وكان محوره الغياب. هل هي لعنة القدر، انهالت على بيروت مع نهاية العام؟ فخلال أسابيع قليلة فقدت الثقافة اللبنانية والعربية على التوالي واحداً من أنجح رجال المسرح نبيه أبو الحسن، وواحداً من أبرز رواد الحركة التشكيلية بول غيراغوسيان، وقبل أيام واحداً من أفضل السينمائيين الشباب في شخص مارون بغدادي الذي قضى بطريقة يصعب تصديقها راجع العدد الماضي من "الوسط"، فيما كان على وشك خوض مغامرة سينمائية جديدة. الفيلم الجديد الذي عمل عليه بغدادي مع الكاتب حسن داوود السيناريو، يتحدث عن شخص يعود الى لبنان بعد سنوات من الغياب. وكان مارون بغدادي نفسه في مغامرته الجديدة تلك، يعود الى لبنان بعد غيبة طويلة، حين اختار له القدر أن يُقتل على ذلك النحو، في منزل أمه الذي شهد ولادته قبل ذلك بثلاثة وأربعين عاماً. مع هذه النهاية الدراماتيكية، يهبط الستار على تجربة سينمائية، قصيرة وغزيرة الانتاج. واذا ببغدادي يعود الى مسقط رأسه، ليدفن في تربة وطن لم يكف عن الهيام به طوال حياته، وعلى الاخص بعدما اضطرته ظروف الحرب ومتطلبات المهنة الى الابتعاد خلال العقد الاخير. عشرة أعوام شهدت تألق مارون بغدادي، في فرنسا خاصة، حيث نجح في فرض نفسه كواحد من أفضل سينمائيي جيله. "بيروت" والسينما العربية الجديدة فهذا المبدع عرف كيف يكوّن لنفسه سمعة سينمائية، جعلته على حِدَة بين أقرانه. وعرف كيف يهتدي الى لغة سينمائية متميزة، تتجلى في مجموعة من الأفلام السينمائية والتلفزيونية التي حققها خلال عدد قليل من السنوات، فاذا بكل منها يعتبر عند عرضه حدثاً في مسار صاحبه. وربما وصل مارون بغدادي الى ذروة التكريس، عام 1991 خلال "مهرجان كان" حين فاز فيلمه "خارج الحياة" بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، والى ذروة نجاحه التجاري مع العرض الباريسي لفيلمه الأخير "فتاة الهواء" 1992. لكن هذين الفيلمين ليسا سوى المحطتين الاخيرتين في مسيرة عمرها عشرون عاماً، بدأها محققاً لأفلام تسجيلية في معمعة الحرب اللبنانية، ونهاها سينمائياً مكرساً له مكانته في تاريخ السينما العربية والاوروبية. أول ظهور لمارون بغدادي على الخريطة السينمائية، كان في العام 1974 حين عاد المخرج الشاب من فرنسا، بعد أن استكمل دراساته السينمائية في معهد "ايديك" الفرنسي، بدلاً من مواصلة دراسته في مجال العلوم السياسية. وصادف وصوله الى المعترك في لحظة خصبة احتضنت بروز جيل جديد ومفاجىء من السينمائيين اللبنانيين، من رموزه برهان علوية الذي كان يحقق فيلمه الروائي الطويل الأول "كفر قاسم"، وكذلك جان - كلود قدسي الذي رغم انتمائه الى ذلك الجيل سينتظر عشرين عاماً قبل أن يحقق فيلمه الأول، بهيج حجيج، وجان شمعون الذي سيكون أنشط أبناء جيله في مجال تحقيق الأفلام التسجيلية وغيرهم... مع مارون بغدادي، اكتملت حلقة السينمائيين الجدد الذين جمعتهم رغبة مشتركة في التعاطي مع الفن السابع بجدية كان يفتقر اليها في لبنان. ولعبت القضية الاجتماعية والسياسية التي يحملها المخرج الشاب، دوراً أساسياً في جعل فنه يجسد ويعكس توجهات فكرية وجمالية واعية. فأتى فيلمه الطويل الأول "بيروت يا بيروت" 1975 علامة مميزة، ليس فقط في تاريخ السينما اللبنانية، بل أيضاً في مسار السينما العربية الجديدة ككل. ومن المؤسف أن هذا الفيلم، اختفى تماماً من قائمة أعماله - ويبدو أن للسينمائي نفسه دوراً في ذلك - فحين يتحدث عنه الفرنسيون يشيرون، عن خطأ مقصود، الى كونه شريطاً وثائقياً قصيراً. مع أن الفيلم، كما هو معروف، روائي طويل من تمثيل المصري عزّت العلايلي وفيليب عقيقي وميراي معتوق وآخرين. تناول "بيروت يا بيروت" للمرة الأولى، بكل وضوح، مسألة التصادم الاجتماعي والطائفي في لبنان، في منتصف السبعينات. ومع أن أحداثه تتوقف مع سقوط أول شهيد جنوبي في الصراع مع اسرائيل، ومع رحيل الرئيس جمال عبدالناصر، فإنه في الوقت نفسه يتشكل - فكرياً - كنبوءة تنذر بالأحداث التي سيعيشها لبنان بعد ذلك. وليس من قبيل المصادفة، أن يكون العرض الأول - والأخير! - للفيلم في لبنان، تم قبل يومين من اندلاع الحرب الأهلية. إذا كانت أهمية "بيروت يا بيروت" تكمن في بعده السياسي الاستشرافي، وفي كونه واحداً من أول الأفلام التي تناولت القضية الاجتماعية والسياسية اللبنانية بشكل مباشر، فإن النقاد سيحفظون أولاً أنه احتوى على العناصر الجمالية التي طبعت كل أعمال مارون بغدادي اللاحقة. بل أن أسلوبه، يؤسس لتعاطٍ جمالي جديد مع السينما. وباكورة أعمال بغدادي تبدو اليوم، رغم بعض نقاط الضعف، عملاً رائداً في سياق نتاج ابناء جيله، وعلامة أساسية لا بد من أخذها في عين الاعتبار لدى التأريخ للسينما العربية الجديدة. بالنسبة الى السينمائي البالغ حينذاك الرابعة والعشرين من عمره، لم تكن هذه التجربة الاولى سوى بداية الطريق، والفيلم الذي كشف عن طريقته في التعاطي مع السينما: شاعرية ورهافة تستندان الى ثقافة واسعة، وولع واضح بكل ما يمت بصلة الى الفن السابع وتاريخه. صحيح ان الأفلام القصيرة العديدة التي حققها بغدادي خلال السنوات التالية، لن تتيح له أن يكشف بما فيه الكفاية عن مدى ارتباطه الفكري والجمالي بفنه وادواته. لكن نظرة متأنية الى تلك الأفلام التي صنعت خلال الحرب، ومن وحيها، مثل "تحية الى كمال جنبلاط" و"سبعون" و"كلنا للوطن" و"العيشية"، اضافة الى فيلمه الشاعري عن الشاعرة الراحلة نادية تويني، تكشف عن لحظات سينمائية استثنائية، وعن نظرة خلاقة: المشهد الأخير في فيلم "كمال جنبلاط"، حيث الفراغ الميتافيزيقي الذي يلي الاحتفال، الكاميرا الملتفة من حول ميخائيل نعيمة في حركة دوخان لا تنتهي في "سبعون"، المزج الخلاق بين نظرات نادية تويني والطبيعة... كما تنطوي تلك الافلام الوثائقية على رغبات جمالية دفينة يحاول بغدادي أن يتحين أي فرصة للتعبير عنها. فنحن، باختصار، أمام شاعر يعبر عن نفسه من خلال الكاميرا، ويفرض نفسه مبدعاً متميزاً منذ اللحظات الاولى. أول فيلم روائي يدين الحرب اللبنانية كان مارون بغدادي راغباً في التعبير عن موقف ضد الحرب. موقف يمتزج لديه بنظرة حنان الى المقاتلين الذين عرفهم وفهمهم وأحبهم، من دون أن يعني ذلك موافقته الكلية على "اللعبة" التي يخوضونها. هكذا جاء فيلمه الروائي الثاني "حروب صغيرة" الذي كان آخر ما صوره في لبنان، يشتمل على نظرة قاسية الى حرب أفلتت من دائرة المنطق، فلم يعد يفهمها حتى الذين يخوضونها! فمن خلال مصائر شخصياته، وانبهارهم الطفولي بلعبة السلاح والموت، وانبهاره هو بانبهارهم، قدم بغدادي في "حروب صغيرة" شريطاً يمكن النظر اليه اليوم على أنه الفيلم الأول الذي تصدى لادانة تلك الحرب، من داخلها وليس من خارجها كما هو حال الافلام الاخرى التي حاولت ادانة عبثية الحرب. "من داخلها" لأن مارون بغدادي اعتبر نفسه معنياً بها. ثم أدرك في لحظة من اللحظات أن عليه أن يأخذ مسافة عنها، فراح يبتعد أكثر وأكثر، جسدياً وعاطفياً، علّه يتمكن من طرح اسئلته بشيء من الصفاء والجدية. ومن هنا نراه، في العام 1983، يتأبط علب "حروب صغيرة" ويرحل الى فرنسا، حيث عرض الفيلم في "مهرجان كان" باعتباره أول أعماله الروائيّة الطويلة. النجاح الذي حققه الفيلم في فرنسا كان متوسطاً، لكنه كشف للنقاد عن وجود مخرج متميز، لديه ما يقول في ما لو توفرت له الفرصة المؤاتية. وكان على بغدادي أن يمرّ في مطهر فيلمه اللاحق "الرجل المحجّب" 1986، قبل أن يتمكن من الحصول على فرصته التالية. والفيلم المذكور هو، في مسيرة بغدادي، العمل الذي أثار القدر الاكبر من السجال. اذ اعتبره كثيرون عملية تصفية حساب، يقوم بها الفنان مع ماضيه ومع اختياراته الفكرية والسياسية السابقة. والحقيقة أن التباس موضوع الفيلم وتشابك العلاقات بين شخصياته، وتعاطف السيناريو مع الطبيب الفرنسي الذي وجد نفسه مستدرجاً الى فخاخ الحرب اللبنانية ومجازرها، كل هذا جعل سوء التفاهم من حول الفيلم مشروعاً. بيد أن المهم، بالنسبة الينا، ليس خطاب الفيلم بل مكانته في مسار مارون بغدادي السينمائي والجمالي. فمع الحرية التقنية الجديدة التي اتيحت له، ومع الممثلين الفرنسيين المتميزين الذين وضعوا انفسهم في تصرفه ميشال بيكولي، برنار جيرودو، ولور مارساك، تمكن المخرج اللبناني من أن يكشف عن تمايز لغته السينمائية، وظهرت بشكل مفاجئ بصمات المعلّمين الكبار، آثار مشاهداته السينمائية النهمة، حين كان مراقباً مجتهداً لسينما كوبولا وسكورسيزي وبول شرايدر. هكذا، فإن شفافية "الرجل المحجّب"، كشفت عن المخرج الحقيقي الكامن في اعماق مارون بغدادي. علاقة سوء تفاهم مع نقاده العرب؟ لكن صورة مارون بغدادي، المعروف بمواقفه "الوطنية"، والذي لازمته في بداياته صفة "اليسارية"، خرجت من هذا الفيلم مسودّة بعض الشيء. وكان لا بد من انتظار الاعمال اللاحقة كي تستعيد شيئاً من بريقها. أول فرصة أتيحت للسينمائي "المغضوب عليه" كي يعدل صورته، كانت تحقيق فيلم تلفزيوني للتلفزيون، بعنوان "أرض العسل والبخور". والمشروع حلقة ضمن سلسلة أفلام عهدت بها منظمة "أطباء العالم" الفرنسية ذات الاهداف الانسانية، الى مجموعة من المخرجين، للتعريف من خلال أعمال روائية بنشاطاتها في مناطق مضطربة من العالم. "أرض العسل..." 1990 الذي اعتبره نقاد بارزون أنجح أفلام السلسلة، يروي حكاية اختطاف طبيب فرنسي من قبل أطراف "تقدمية" خلال الحرب الأهلية اللبنانية. واذا ببغدادي يعود الى التعبير عن افتتانه بالمقاتلين - على الرغم من ممارساتهم - وعن حبه لهم، ويسلط الضوء على الوجه الانساني لهؤلاء، مكذباً الصورة الشائعة عنهم في الغرب. هذا الموضوع، سيعود بغدادي الى تناوله من جديد، في واحد من أفضل أفلامه، "خارج الحياة" الذي جعل المخرج ضحيّة لسوء الفهم، وأثار حوله عاصفة من الانتقادات، ظالمة وحمقاء. قبل "خارج الحياة" حقق مارون بغدادي فيلمين، أولهما للتلفزة الانكليزية بعنوان "الفزاعة"، وهو مأخوذ عن قصة قصيرة للكاتبة باتريشيا هاسميث من بطولة الممثل البريطاني الكبير جيمس فوكس. أما الفيلم الثاني الذي صوّره للتلفزة الفرنسية بعنوان "مارا"، فيتحدث عن حياة وموت جان بول مارا أحد أشهر رجالات الثورة الفرنسية، وأكثرهم عنفاً ومأسوية وتطرفاً. لا شك في أن "مارا" 1989 من أفضل ما حققه مارون بغدادي في مرحلته الفرنسية. وسر هذا التمايز يكمن ربّما في اهتداء المخرج الى خيوط خفية تربط بين البعد التراجيدي لشخصية مارا، ومناخات المأساة اللبنانية التي تخيم على العمل، من حيث لا ندري، بحدتها وتوترها. هكذا رأى بغدادي في شخصية مارا التي فتنته وأرعبته في آن، فرصة جديدة لاستعادة الصلة بتلك الحرب التي يلاحقه طيفها باستمرار... "خارج الحياة" والعودة المعلّقة كان واضحاً، منذ أول عهده بالكاميرا، أن الحرب اللبنانية تسكن مارون بغدادي، وأن كل محاولاته للخروج منها ستبوء بالفشل. في "خارج الحياة" 1991، مع إيبوليت جيراردو، نجدنا مرة أخرى امام حكاية صحافي فرنسي يخطفه مقاتلو "الصف الوطني" لسبب غير واضح تماماً، فاذا به يفتتن بهم رغم عذابه. هذا الافتتان يكشف عنه المشهد الاخير من الفيلم، ويجوز اعتباره من أجمل وأعمق ما حققه مارون بغدادي في تاريخه السينمائي القصير: يبدأ المشهد في مقهى فرنسي، وينتهي في شارع بيروتي ممزق ومهجور. وبين المكانين، يربط هاتف يرن ولا أحد يجيب. فهل نقول أن السينمائي، في تعبيره عن جحيم الانتظار ورعب الآتي، كان يحاول أن يتخلّص عن طريق الفن، من شعور ما بنهايته القريبة؟ المشروع الذي باشر مارون الاعداد له قبل رحيله، هو حكاية عودة الى لبنان. لكن القصة لم تكتمل كما كان يفترض بها. فلدى بغدادي تتوقف الاحداث عادة عند نقطة معينة قبل كلمة النهاية. وهذه الخاتمة المعلقة يعبّر عنها المشهد الاخير من فيلمه الاخير "فتاة الهواء" 1992، مع بياتريس دال وروبان رينوتشي خير تعبير، مع العلم أن الفيلم المذكور من أكثر أعمال السينمائي الراحل ابتعاداً عن لبنان. مع أن صاحب "بيروت يا بيروت" حاول هنا أن يترك بعض بصمات تجربته الذاتية - عبر تركيزه، مثلاً، على انتماء شخصياته الى جيل أيار مايو 1968 الفرنسي. مهما يكن فان هذا الفيلم الاخير، يعكس تجلي لغة مارون بغدادي السينمائية، ووصولها الى درجة رفيعة من النضج والتماسك والاستقلال عن مراجع وتأثرات السنوات الاولى. وهنا أيضاً لا مفرّ من التوقف عند النهاية المفتوحة، الشبيهة بكل نهايات مارون بغدادي، وعند ظاهرة الافتتان بالموت وحس المخاطرة، وهما من الصفات الملازمة للشخصيات الرئيسية في الفيلم. حتّى أن المتابع المتمهل، لا يمكنه أن يمنع نفسه من التساؤل عن سرّ هذا الافتتان بالموت الذي تنتظم حوله مسيرة الرجل كعمود فقري: من موت عبدالناصر والمقاتل الجنوبي في "بيروت يا بيروت"، الى موت المقاتل القاسي في "خارج الحياة" مروراً بموت كمال جنبلاط ونادية تويني وجان بول مارا وأبرز شخصيات "حروب صغيرة"...