للمرة الأولى منذ خمس سنوات تتدهور أسعار النفط في الأسواق الدولية لتبلغ 14 دولاراً للبرميل، كما حصل اثر مؤتمر أوبك في فيينا في 24 تشرين الثاني نوفمبر 1993. وساهم في ذلك، بالطبع، قرار المنظمة عدم تغيير سقف الانتاج البالغ 24.5 مليون برميل يومياً. لماذا فشلت أوبك في الحفاظ على السعر المستهدف البالغ 21 دولاراً للبرميل؟ اذا كان انتاج النفط هدفاً "استراتيجياً" في "لعبة الأمم"، فإن لعبة تحريك الاسعار، صعوداً أو هبوطاً، عملية "تكتيكية" تدخل في حساب المصالح من خلال الصراع الدولي بين الدول المتنافسة. وأسعار النفط الخام تحددها عادة قوى السوق في وقائع العرض والطلب، وهي التي تحدد بدورها كمية الانتاج وخطط التنقيب في مختلف البلدان المنتجة، فضلاً عن تمويل ذلك من قبل الشركات الكبرى المتعددة الجنسية، وفي مقدمها الشركات الأميركية التي تقوم باستثمارات نفطية داخل الولاياتالمتحدة وخارجها، الامر الذي يبين بوضوح مدى ارتباط تطور الأسعار، صعوداً او هبوطاً، بالأمن الأميركي للطاقة، الذي ساهم مساهمة كبيرة في نشوب حرب الخليج الثانية نتيجة الاحتلال العراقي للكويت، مع كل خلفياتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والمالية والاجتماعية. وقبل ان يحتل العراقالكويت، وبالتحديد بين حزيران يونيو وتموز يوليو 1990، سجلت اسعار النفط تراجعاً كبيراً وصل الى أقل من 12 دولاراً للبرميل، نتيجة حصول خلاف بين دول اوبك على الانتاج والاسعار، خصوصاً ان دولاً تجاوزت الحصص المحددة لها رسمياً. غير انه بعد الثاني من آب اغسطس واثر غزو الكويت، عادت الاسعار الى الارتفاع حتى تجاوزت الأربعين دولاراً للبرميل، ثم تراجعت بفعل زيادة انتاج اوبك، لا سيما السعودية والامارات، للتعويض عما خسرته السوق بوقف انتاج حصتي العراقوالكويت. ومع اندلاع الحرب في منتصف كانون الثاني يناير 1991، وفي اطار خطة تهدف ليس الحد من ارتفاع الاسعار بل الى خفضها، بعدما كانت في حدود الثلاثين دولاراً للبرميل، قررت وكالة الطاقة الدولية خصم أوبك الدائم وللمرة الأولى منذ انشائها قل 19 عاماً، سحب كمية اضافية من المخزون الاستراتيجي بما لا يقل عن مليونين ونصف مليون برميل يومياً، وساهم المخزون الاميركي وحده البالغ حوالي 600 مليون برميل، بطرح حوالي نصف الكمية، وبالتحديد مليون و125 ألف برميل يومياً، الأمر الذي أدى الى تراجع السعر الى أقل من 20 دولاراً للبرميل، ما حمل منظمة أوبك في مطلع العام 1993 على تأكيد حرصها على ضرورة الحفاظ على سقف الحصص الانتاجية للدول الاعضاء والبالغ 23.5 مليون برميل يومياً، من أجل الدفاع عن سعر مرتفع لا يقل عن 21 دولاراً للبرميل. وفي الوقت نفسه، وفي اطار عملية "التكتيك" التي تحصل عادة في السوق لجهة العرض والطلب والتحكم بالأسعار، وحيال تراجع انتاج أوبك، برزت خطة جديدة للوكالة الدولية للطاقة، تقضي باجراء خفض حاد على تقديراتها للنمو في الطلب العالمي على النفط. وجاء في تقديرات الوكالة ان مجموع استهلاك النفط في العالم هبط بمقدار 800 ألف برميل ووصل الى 68 مليون برميل يومياً في الربع الاول من العام 1993 بالمقارنة مع العام الماضي، على ان يستمر هذا الهبوط الى 65.9 مليون برميل في الربع الثاني، ثم يرتفع قليلاً الى 66.4 مليون برميل في الربع الثالث، والى حوالي 69.6 مليون برميل في الربع الرابع فيكون المعدل الوسطي للعام 1993 حوالي 67.5 مليون برميل يومياً. اما حصة أوبك من الطلب العالمي فقد قدرته الوكالة الدولية للطاقة ب24.7 مليون برميل في الربع الأول، اي بزيادة 1.2 مليون برميل عن الانتاج الرسمي الذي حددته المنظمة في اجتماعها الأخير، ولكن تقديرات الوكالة خفضت هذا الطلب الى 23.6 مليون برميل في الربع الثاني، ثم زادت تقديراتها الى 25 مليون برميل في الربع الثاني، ثم زادت تقديراتها الى 25 مليون برميل في الربع الثالث والى 26.5 مليون برميل في الربع الرابع على ان يكون المعدل الوسطي لعام 1993 حوالي 25 مليون برميل يومياً. وعلى رغم الاغراء الوارد في تقديرات الوكالة عن توقع زيادة حصة أوبك في استهلاك النفط في العالم، فقد قادت المملكة العربية السعودية اعتباراً من آذار مارس الماضي حملة تطبيق حصص الانتاج الرسمية، انطلاقاً من سياستها التي برزت في اجتماعات المنظمة والتي تهدف الى تخفيض الانتاج لأنه اهم الوسائل التي يجب اعتمادها لرفع الأسعار، او على الأقل منع انخفاضها ولذلك واعتباراً من نيسان ابريل خفضت انتاجها بمقدار 450 ألف برميل يومياً ليصل الى ثمانية ملايين برميل، وحذت حذوها الامارات العربية المتحدة التي خفضت انتاجها بمقدار 110 آلاف برميل الى حوالي 2.1 مليون برميل يومياً. ولكن في مقابل هذا التطور الايجابي، حصلت تطورات سلبية عدة، ما أدى الى زيادة انتاج أوبك الى 24.4 مليون برميل يومياً في حزيران يونيو 1993، ومن هذه التطورات: أولا: اقدام ايران على تجاوز سقف حصتها بحوالي 350 ألف برميل يومياً حيث نتنج 3.69 مليون برميل. ثانياً: تجاوز الكويت حصتها الرسمية بمقدار 150ألف برميل يومياً، ليصل انتاجها الى 1.75 مليون برميل. اضافة الى ذلك دخلت الأممالمتحدة للمرة الأولى في لعبة "تكتيك" الاسعار، عندما أطلق رئيس اللجنة الخاصر بمراقبة نزع السلاح في العراق رولف ايكوس بضع كلمات عن احتمالات عودة العراق الى تصدير نفطه. وساهمت كل هذه العوامل مجتمعة في خفض اسعار أوبك من 18.2 دولار للبرميل في نيسان ابريل الى 16 دولاراً في تموز يوليو، لكن بالمقارنة مع السعر المستهدف لأوبك والبالغ 21 دولاراً، يكون مقدار الخفض خمسة دولارات، وأدى ذلك الى خسارة مليار ونصف مليار دولار بين كانون الثاني يناير وتموز يوليو 1993. وفي محاولة من أوبك لضبط نظام الحصص، قرر وزراء نفط الدول الاعضاء في اجتماع عقد في ايلول سبتمبر 1993 رفع سقف الانتاج الي 24.52 مليون برميل يومياً. غير ان بعض الدول المنتجة لم يتقيد بحصته ما أدى الى تجاوز السقف الانتاجي بحدود 200 ألف برميل يومياً. وساهم ذلك في خفض السعر الى 14 دولاراً للبرميل في تشرين الثاني نوفمبر الماضي. وهكذا تزداد الخسائر مع استمرار تراجع الأسعار، ويمكن ان تقاس هذه الخسائر على حصص الدول الاعضاء، مثال على ذلك ان الدولة التي تنتج مليوني برميل يومياً، تخسر مع انخفاض السعر 14 مليون دولار يومياً، او ما يعادل 420 مليون دولار شهرياً، ولتعويض هذه الخسائر عليها ان تزيد انتاجها حوالي مليون برميل يومياً، لكن زيادة الانتاج من شأنها ان تساهم في المزيد من تراجع السعر وبالتالي في مزيد من الخسائر. وجاء انخفاض الأسعار في وقت ارتفع فيه انتاج البلدان خارج أوبك، وبالذات بريطانيا والنروج، وتقدر زيادة انتاج بحر الشمال في العام 1993 بحوالي 900 ألف برميل يومياً في الفصل الأول من العام 1994، ما يعني ان انتاج بحر الشمال سيصل الى 5.3 مليون برميل يومياً في العام المقبل، الامر الذي يساهم في زيادة العرض في الاسواق. ومع ازدياد العرض يلاحظ ضعف الطلب على النفط نظراً الى الركود الاقتصادي في الدول الصناعية. وللمرة الأولى منذ العام 1988 شهدت اواخر العام 1993 تراجعاً في الطلب على نفط أوبك، خصوصاً بعدما بدأ الركود يشمل اليابان والدول الصناعية الآسيوية التي خفضت من استهلاكها المتزايد للنفط. غير ان وكالة الطاقة الدولية رفعت تقديراتها للطلب على النفط لدى بلدان منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي خلال الفصل الرابع من العام 1993 بحوالي 200 ألف برميل يومياً، ليصل الى 38.5 مليون برميل يومياً، وذلك بسبب تحسن الطلب الاوروبي على النفط عما كان متوقعاً. وتوقعت رابطة البترول الأميركية المستقلة، في تكهناتها السنوية للمدى القصير، ارتفاع الواردات الاميركية الى ما فوق 8.7 مليون برميل يومياً بحلول العام 1994، وذلك لتلبية الطلب الاميركي المتزايد والمتوقع ان يصل الى 17.4 مليون برميل يومياً، مع الاشارة الى ان انتاج النفط الاميركي سيتراجع الى 6.7 مليون برميل، وهو ادنى مستوى له منذ ثلاثين عاماً. اما منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول اوابك، فتوقعت ان يصل الطلب العالمي على النفط الى 67.1 مليون برميل يومياً، بزيادة مئة الف برميل عن العام 1992، وتشير تقديراتها الى انه قد يرتفع الى 69.4 مليون برميل يومياً خلال الربع الاول من العام 1994 بالمقارنة مع 68.2 مليون برميل في الربع الاول من العام 1993. كما توقعت المنظمة ان يرتفع متوسط الطلب في الدول الصناعية من 39.1 مليون برميل في العام 1993 الى 40.7 مليون برميل في الربع الاول من العام 1994، مع العلم بأنه كان في حدود 39.8 مليون برميل في الربع الأول من العام 1993. فائض المخزون لقد أثبتت الوقائع اهمية حركة المخزون الاستراتيجي وتأثيره على الاسعار، حيث يعتبر العامل الموازن بين العرض والطلب، فعندما يكون الطلب اكثر من العرض، تتم السحب من الخزون، اما عندما يكون العرض اكثر من الطلب، تتم الاضافة الى المخزون. وساهم الانتاج المرتفع لدول اوبك في العام 1993 في تكوين مخزون جيد، ساهم بدوره في التأثير على الأسعار. ويرى التقرير الشهري للمركز العالمي لدراسات الطاقة الذي صدر في منتصف تشرين الثاني نوفمبر الماضي، ان الطلب العالمي على نفط أوبك، باستثناء المخزون، وصل الى 25.5 مليون برميل يومياً، ويتوقع ان يصل الى 26 مليوناً في الربع الأول من العام 1994، ما يعني سحباً من المخزون في حدود المليون برميل يومياً. وفي حال التزمت الدول الاعضاء حصصها المقررة، فإن الفائض في المخزون يمكن خفضه في بداية الربع الثاني من العام المقبل. وفي ذلك الوقت يمكن توقع تحسن في معدلات الأسعار. لكن تبقى الاشارة هنا الى انه اذا كان المخزون الاستراتيجي في لعبة تحريك اسعار النفط صعوداً او هبوطاً لجني الأرباح، هو عملية "تكتيكية"، فإن استقرار الأسعار حسب خطط الولاياتالمتحدة بين 22 و30 دولاراً للبرميل، هو هدف "استراتيجي" يفرضه امن الطاقة الاميركي وتشجيع الشركات على زيادة الانتاج حتى يتوازن نسبياً مع الكميات المستوردة من الخارج لتأمين حاجة الاستهلاك المحلي، لكن يبدو ان هذا الهدف لا ينسجم مع هدف آخر يقضي بأن تحصل الولاياتالمتحدة على النفط المستورد بسعر منخفض لدعم الاحتياط الاستراتيجي ولو بمعدل تعبئة منخفض 13 ألف برميل يومياً لتوفير النفقات على الخزينة والأموال على المكلف الأميركي.