في سياق رصد تحولات المدن اللبنانية اجتماعياً وسياسياً، وفي محاولة لرسم خريطة لنفوذ الطوائف والأحزاب صعوداً أو هبوطاً في صوغ الحياة العامة، تأتي زيارة"الحياة"لمدينة زغرتا الشمالية استكمالاً لسلسلة تحقيقات بدأت في طرابلس والنبطية. وقد تبدو زغرتا، العاصمة المارونية للريف الشمالي خارج سياق الأحداث الآنية حيث يتنازع لبنان والمنطقة صراع سنّي- شيعي تبدو فيه تلك الخاصية ممعنة في المحلية. لكنها تلك الخاصية المارونية الشمالية، هي نفسها ما يجعل من"الاستثناء الزغرتاوي"، محطة رئيسة في سياق البحث في تاريخ"المارونية السياسية"منذ سقوط السلطنة العثمانية. وهو الاستثناء ما يفسر في كثير من الأحيان ما آلت اليه تلك الزعامة من انكماش عززته تحالفات سياسية وعائلية. ذاك أن زغرتا نشأت على عصبية العشيرة والإقطاع وما يحمله ذلك من هرمية بين العائلات والولاءات التابعة لها. زغرتا التي ترد الزائر إلى أجواء صقلية الإيطالية، تعيش اليوم في عزلة تعكس الكثير من الصورة الأكبر لموارنة لبنان. فهي على خصومة مع جوارها المباشر من بشري، معقل"القوات اللبنانية"، وطرابلس"قلعة المسلمين"، والكورة التي سبق ليوسف بك كرم أن أحرق عاصمتها أميون. إنه التاريخ يطالعك عند كل منعطف ويدفع عاصمة الريف الماروني الى"تحالف أقليّات"يأخذ النائب سليمان فرنجيّة إلى"حزب الله"البعيد عن الشمال. يكاد لا يجتمع اثنان في زغرتا، من أهلها البالغين ثلاثين ألفاً، إلاّ يكون ثالثهما يوسف بك كرم، فالرجل الجالس على حصانه فوق إحدى ذرى إهدن، مصيف الزغرتاويّين الجبليّ، لا يزال مادّة استلهام يوميّ لأبنائه وأحفاده. وهذا الحضور الثقيل الوطأة للسياسيّ الطموح والمغامر الذي قاتل متصرفيّة جبل لبنان، علامة لا تخطئ على"فائض التاريخ"في الوعي الزغرتاويّ، فيوسف كرم هو الذي حوّل زغرتا عاصمةً لزعامة مارونيّة خارج جبل لبنان، منذ انتزاعه، أواسط القرن التاسع عشر، النفوذ من مقدّمي بشرّي. أمّا الأخيرة، التي لا تبعد سوى كيلومتر عن إهدن، فتبقى خصماً يُعتدّ بخصومته، ذاك أنّ الدم سال بينهما من أيّام اليعاقبة، وحتّى اليوم لا تزال تندر الزيجات بين البلدتين. ويوسف كرم، قبل هذا وبعده، مؤسّس الاستثناء المارونيّ الذي وجد أكثر من تعبير لاحق عنه: مرّةً في الخمسينات من القرن الماضي، حين وقف حميد فرنجيّة، زعيم زغرتا حينذاك، ضدّ كميل شمعون، رئيس الجمهوريّة ومعبود موارنة الجبل، ومرّةً حين وقف شقيقه سليمان، في أواخر السبعينات وفي الثمانينات، ضدّ"الجبهة اللبنانيّة"، والآن مع سليمان فرنجيّة الحفيد. هذه الاستثنائيّة كانت شعبيّةً دائماً، فإلى صفّ يوسف كرم انحاز أعيان الطائفة الزغرتاويّون وعامّة موارنتهم وصغار كهنتهم. إلاّ أنّها، وككلّ استثناء، متعبة ومكلفة، وبعض هذه الكلفة أنّ زغرتا تخلّفت عن جبل لبنان وصار يومُها مثل أمسه. العائلة السياسيّة يصعب الحديث عن زغرتا، التي تذكّر البعض بصقلّية في إيطاليا، من دون الحديث عن عائلاتها، مثلما يصعب الحديث عن العائلات من دون التوقّف عند زعمائها. فمع سقوط السلطنة العثمانيّة وبداية الانتداب، حصل في الريف المارونيّ الشماليّ ما يسمّيه أستاذ الأنثروبولوجيا والكاتب شوقي الدويهي بدايات تكوّن العصبيات العشائريّة على نحو سياسيّ. وكان للانتخابات النيابيّة أن فاقمت الوجهة هذه، باعثةً على تماسك الزعامات المحلّيّة ومانعةً لعقود تالية دخولَ الأحزاب السياسيّة إلى زغرتا. لكنّ الفرنسيّين، وبعدما جعل يوسف كرم من بلدته مقرّ الزعامة المارونيّة الشماليّة الأولى، اعتمدوا في العشرينات وديع طربيه نائباً في البرلمان. وطربيه ليس من زغرتا، بل من قضائها المعروف ب"الزاوية"، الذي يضمّ 49 قرية ويبلغ ناخبوه ضعف ناخبي زغرتا عدداً. وفي 1929، حين حاول الانتداب إيصال طربيه مجدّداً إلى البرلمان، استُنفرت النعرة الزغرتاويّة التي لا يملك فلاّحو الزاوية المفتّتون مثلها. ولأنّ زعامة آل كرم شرعت تَضمُر بعد يوسف بك، التفّ أهل العصبيّة حول قبلان فرنجيّة، مؤسّس السلالة الأطول عمراً في التاريخ الزغرتاويّ. وفي الغضون هذه وقعت اشتباكات وسقط قتلى وانضافت الزاوية إلى بشرّي على قائمة كارهي زغرتا ومكروهيها. مذّاك هُمّشت سياسيّاً عائلات الزاوية، كطربيه وإسطفان والضاهر، من غير أن يُسعفها سبقُها إلى التعليم وإلى الهجرة. أمّا عند آل فرنجيّة و"لفيفهم"، وفق التعبير الزغرتاويّ الدالّ إلى مؤيّديهم من عائلات صغرى، فنشأ تحفّظ عن الفرنسيين الذين دعموا خصومهم. ووفق مذكّرات الرئيس بشارة الخوري، نزل الزغرتاويّون كي يحتجّوا في مركز المحافظة في طرابلس، وقرّر الفرنسيّون ألاّ يردّوا بالسلاح، لمعرفتهم ما يمكن أن تكون عليه استجابة الزغرتاويّين العاشقين للسلاح، لكنّ مجنّدين في القوّات الفرنسيّة من علويّي سوريّة أطلقوا النار عليهم، فكان ما كان من قتلى وجرحى. وفي تحفّظ أهل زغرتا عن الفرنسيّين بدوا مرّة أخرى استثنائيّين بالقياس إلى موارنة الجبل المتيّمين بفرنسا، تماماً مثلما كانوا مع يوسف كرم، الذي أخذهم بعيداً من المتصرفيّة ومن بطريركيّة الموارنة. ووفق ما يضيف شوقي الدويهي، لم يحمل العهد الاستقلاليّ جديداً، فالأحزاب المارونيّة التي نشأت في جبل لبنانوبيروت، كالكتلة الوطنيّة والكتلة الدستوريّة، وصلت إلى البترون وتوقّفت هناك. صحيح أنّ حميد فرنجيّة، نجل قبلان الذي ورث عنه الزعامة، كان قريباً من الدستوريّين، إلاّ أنّ الزغرتاويّين كانوا معنيّين بحميد بوصفه زعيمهم، لا بهواه الدستوريّ الذي يمارسه وحده في بيروت. وكان للانتخابات، من دون مقدّمات سياسيّة وثقافيّة أخرى، أن ضربت ضربتها الثانية مطالع الخمسينات، فإذ غدت زغرتا تحظى بمقعدين في البرلمان، تمدّدت اليقظة العائليّة من عائلتي كرم وفرنجيّة إلى سائر العائلات الطامحة، فقد حمل حميد فرنجيّة إلى الحلبة السياسيّة المحامي الشابّ رينيه معوّض، بينما اصطحب يوسف كرم الحفيدُ فؤاد الدويهي، وبعدما كانت اللعبة حكراً على عائلتين صارت تتّسع لأربع. حروب العائلات قد تكون زغرتا الندّ الأبرز للشوف في المدى الذي تبلغه شخصنة الزعامة ووقوف الزعيم وسيطاً كاملاً بين المواطن والدولة. ووفق شوقي الدويهي، تملك الزعامة الزغرتاويّة أجهزة ثلاثة متلازمة: فهي غالباً ما تعمل برأسين، واحد للداخل وآخر للخارج، على ما كانت الحال خصوصاً إبّان زعامة حميد فرنجيّة وتولّي شقيقه سليمان تدبير شؤونها داخل البلدة، ثم هناك أركان الزعامة، وهم غالباً من خارج العائلة الموالين لها، وأخيراً هناك جهاز القبضايات، ويكونون من أبناء العائلة ذاتها. والأُسَر في زغرتا تملك تقليديّاً أحياءها، فحيّ الصليّب مثلاً لآل معوّض، وحيّ العبي لآل فرنجيّة. والحال أنّ الفرز السكنيّ هذا هو ما ضاعفه الدم الذي سال بين عائلتي فرنجيّة ومعوّض من جهة وعائلتي الدويهي وكرم من جهة أخرى أواخر الخمسينات، بحيث طرأ نوع من التطهير العائليّ الذاتيّ كان وحده شرط أمان الفرد بين أهله وجماعته الخالصة. وعلى رغم الانتشار النسبيّ للزيجات المختلطة، ظلّ السكن نادر الاختلاط وبقيت الكنائس حكراً على عائلات بعينها. هذه الخريطة الساكنة وجدت ما يهزّها عميقاً في الخمسينات، حين تحوّل العداء الضامر إلى عداء صارخ، ففي محاولته الضغط على حميد فرنجيّة الذي كان منافسَه في انتخابات 1952 الرئاسيّة، لجأ شمعون إلى تعزيز نفوذ آل الدويهي، مقوّياً الأب سمعان الدويهي، علّه يواجه به نفوذ فرنجيّة. وقد بدأ التوتّر والاحتكاكات بين العائلتين في 1954، ثمّ توّج العنف نفسه بعد ثلاث سنوات في"حادثة مزيارة"التي سقط فيها أكثر من عشرين قتيلاً ومئة جريح في كنيسة القرية المذكورة. ويرى الروائيّ جبّور الدويهي، الذي أرّخ تلك"الحادثة"في روايته المتعدّدة الأصوات والسرود"مطر حزيران"، أنّ الزعامات العائليّة اكتسبت بسبب مزيارة"شرعيّة"الدم والشهادة فأضافتها إلى ما تراه حقّاً لها في التمثيل والتمكّن. وعلى العموم، باتت زغرتا مذّاك تُعرف بنسائها الملفّحات بالسواد حداداً على أبناء أو أزواج قضوا في لعبة الثأر والثأر المضادّ، وصارت صورة الأمّ المحرّضة على الانتقام فدًى للعائلة ولزعيمها، بعضَ ألبوم الحياة الزغرتاويّة الفعليّة والمتخيَّلة. معوّض قطباً وسليمان رئيساً ومثلما كان لرئاسة كميل شمعون 1952-1958 أثرها الكبير على زغرتا، كان لرئاسة فؤاد شهاب 1958-1964 ومعظم سنوات عهد الرئيس"الشهابيّ"شارل حلو 1964-1970 أثر آخر، فقد صعد رينيه معوّض، الذي كان من أركان الشهابيّين، بوصفه الوجه الذي يقاسم سليمان فرنجيّة زعامةً آلت إليه بسبب المرض الذي ألمّ بشقيقه حميد. وهنا ارتسمت لمعوّض في مقابل سليمان فرنجيّة، صورةُ"رجل الدولة"، فيما وجد الكثيرون من عائلته في الدولة والوظيفة العامّة ما كان يجده كثيرون من آل فرنجيّة خارج الدولة والوظيفة. لكنْ في 1966 و1967، وبالتوازي مع معارضة سليمان فرنجيّة للشهابيّة، تصدّع التحالف بين عائلتي فرنجيّة ومعوّض، كما تصدّع التحالف المقابل بين عائلتي الدويهي وكرم، ولم يخلُ الأمر في الحالتين من احتكاكات دمويّة عابرة. بيد أنّ فرنجيّة لم يندمج في المعارضة المارونيّة الجبليّة للشهابيّة كما عبّر عنها"الحلف الثلاثيّ"، الذي ضمّ شمعون وريمون إدّه وبيار الجميّل، بل آثر الحفاظ على الاستثناء ودخول المعارضة من باب"تكتّل الوسط"الذي ضمّه إلى صائب سلام وكامل الأسعد. على أنّ 1970 كان العام الذي شهد التحوّل الكبير، لا لزغرتا وحدها بل للبنان كلّه، فقد اختير سليمان فرنجيّة، الذي كان نجله طوني أسّس"المردة"كواحدة من أوائل الميليشيات، رئيساً للجمهوريّة، وهو ما اعتُبر هزيمة للشهابيّة ونهايةً مُرّة. هكذا بدأت المعادلات التي تحكم زغرتا تتحوّل معادلاتٍ لحكم لبنان كلّه، فقد استُخدمت السلطة على أوسع نطاق لمصلحة فئات مقرّبة، فيما صير إلى تصليب مواقع العائلة وزعامتها. وفي النطاق هذا، وفضلاً عن الإتيان بطوني سليمان فرنجيّة نائباً عن بلدته في 1972، ليحلّ محلّ أبيه، جيء بصهره عبد الله الراسي نائباً عن عكّار. أهمّ من ذلك أنّ التراجع الذي مثّلته رئاسة سليمان على الصعيد السياسيّ إنّما تزامن مع بلوغ الازدهار الاقتصاديّ اللبنانيّ ذروته، بحيث بات لبنان أوائل السبعينات يملك أعرض طبقة وسطى في الشرق الأوسط. هكذا بدت السلطة السياسيّة التي تُدار صقلّيّاً أشبه بخوّة تُفرض على العمليّة الرأسماليّة، فتطبّق على نطاق البلد ما كانت تطبّقه على القرى المزدهرة في الزاوية. ولم يمرّ ذلك من دون اعتراض في زغرتا، كما في الزاوية، ففي هذه الأخيرة بدأ يتنامى"حزب الكتائب"الذي تزعّمه هناك يوسف الضاهر، ومن بعده"القوّات اللبنانيّة"، ردّاً على"الإقطاع"الزغرتاويّ ممثَّلاً بآل فرنجيّة. أمّا في زغرتا نفسها، فوُلدت"حركة الشباب الزغرتاويّ"، وظهر رجال كالأب هكتور الدويهي، ممّن التفّ حولهم عشرات الشبّان الذين انتمى كثيرون منهم إلى أحزاب اليسار. وقد لوحظ أنّ أقلّ المنتمين إلى الموجة الاعتراضيّة هذه كانوا من آل فرنجيّة، فيما توزّع معظم المقبلين عليها على الأسَر المهمّشة سياسيّاً أو الفقيرة، مشكّلين ما يمكن اعتباره شياطين زغرتا الصغار الذين يتحدّون أعرافها، فقد انخرط فيها شبّان من"العرّة"، أي قاموسيّاً القطعان الصغيرة التي تلتحق بقطيع كبير، وهي التسمية التي تُمنح محلّيّاً لعائلات صغرى توالي آل كرم من دون أن تكون منهم. كذلك انتسب إليها أفراد من آل الدويهي، أفقر العائلات وأكبرها عدداً وأبعدها منذ نهاية العهد الشمعونيّ عن مراكز القرار. والحال أنّ آل الدويهي هم أيضاً الأكثر تفتّتاً في داخلهم ما بين زعامات طامحة صغرى، وأشدّهم إقبالاً على الإكليروس، حيث تقع في حيّهم الكنيسة الأهمّ، كنيسة سيّدة زغرتا، فمنذ القرن السادس عشر هناك بطاركة ومطارنة من تلك العائلة، أبرزهم البطريرك إسطفان الدويهي، فيما كان آل فرنجيّة، وعلى الدوام، أقلّ العائلات دخولاً في السلك الدينيّ. ولم يكن الرسّام صليبا الدويهي الاسم اللامع الوحيد بين الدويهيّين الذي عُرف على نطاق لبنانيّ في القرن العشرين. على أيّ حال، تولّى اندلاع حرب السنتين في 1975 إنهاء تلك التجربة الاعتراضيّة، التي سبق أن أضعفها، وفق جبّور الدويهي، بعض شعاراتها المتطرّفة ودفاعها المعلن عن السلاح الفلسطينيّ. حرب السنتين وما يلي وفي حرب السنتين، بدا لوهلة أنّ الطائفة تطغى على العائلة. هكذا تضامنت العائلات الزغرتاويّة، لكنّ كلّ واحدة منها شيّدت متاريسها الخاصّة بها، والمهيّأة في أيّ لحظة لأن تغيّر وظائفها وأعداءها. والواقع أنّ هذا الانضواء العابر في القاعدة المارونيّة والتخلّي عن الاستثناء كان أملاه وجود سليمان فرنجيّة في رئاسة الجمهوريّة لحظة اندلاع حرب السنتين. هكذا بدا أنّ التحالف الفلسطينيّ ? السوريّ ? الإسلاميّ ? اليساريّ إنّما يستهدف زعيم زغرتا، فيما هو يستهدف الموقع المارونيّ الأوّل في الدولة. وبالفعل، كان للزغرتاويّين معاناتهم الخاصّة مع النظام السوريّ: فقد هاجمتهم مطالع 1976 قوّات اليرموك التابعة لجيش التحرير الفلسطيني المرعيّ سوريّاً، وكادت زغرتا تسقط في الهجوم الذي قُتل فيه عشرات من أبنائها وأبناء الزاوية، كما قضى أضعافهم من المهاجمين. هنا استعاد الزغرتاويّون شعوراً بالافتخار، مؤسَّساً هذه المرّة على قاعدة الطائفة، لا العائلة، ذاك أنّ"تركيّا نفسها لم تستطع دخول زغرتا"، كما قال زغرتاويّ فخور،"فكيف يدخل هؤلاء؟". لكنْ لئن تولّى الاستثناء وضع زغرتا في مواجهة بشرّي والزاوية، فإنّ الانضواء في القاعدة وضعها في مواجهة طرابلس، فقبل حرب السنتين، كانت هناك 400 إلى 500 عائلة زغرتاويّة تقيم في عاصمة الشمال، موظّفين ومدرّسين وأصحاب مهن حرّة على عمومها، يدرس أبناؤهم في مدارسها الإرساليّة. وهؤلاء انسحبوا تباعاً إلى بلدتهم، خصوصاً وقد راح أداء المستشفيات والمدارس والحياة الاقتصاديّة في طرابلس يتراجع بخطى متسارعة، وهذا قبل أن تثقل على صدر المدينة قبضة الشيخ سعيد شعبان. كذلك توقّفت لسنوات وفادة عائلات وأفراد طرابلسيّين للاصطياف في إهدن. بيد أنّ الاستثناء ما لبث أنّ أطلّ برأسه مجدّداً، ففي 1978، وبعد خلاف اندلع في شركة الترابة في شكّا حول تقاسم عائداتها، اغتيل الكتائبيّ جود البايع، فردّ الكتائبيّون بمذبحة في إهدن كانت إحدى أبرز مآسي الحروب اللبنانيّة وإحدى أبشعها. يومها قُتل في منزله النائب والوزير طوني سليمان فرنجيّة وزوجته وابنته وعدد من مناصريه، وانفجرت بين المارونيّة الزغرتاويّة ومارونيّة جبل لبنان، ممثّلةً ب"الكتائب"، حربٌ حصدت 400 قتيل. ولمّا كان الشابّ الكتائبيّ والبشراويّ سمير جعجع مشاركاً في الهجوم، وجد التنافر التقليديّ"الزغرتاويّ ? البشراويّ"ما يشحذه، عاملاً على أيْقَنَة المأساة وإسباغ الجوهريّة عليها. وبالفعل، تكرّست عزلة زغرتا عن جبل لبنان، فيما تضامنت الأُسر الأخرى مع آل فرنجيّة ضدّ الكتائب، ولو أنّه تضامن لم يستمرّ طويلاً.