كنت، ذات يوم أتهيّأ لدخول أحد دروب تونس العتيقة، من ناحية باب المنارة، عندما أخذني شعور مفاجئ بالحيرة والانقباض كالذي ينتاب رجلاً أفاق فألفى نفسه مغترباً في المكان! لم أجد في بادئ الأمر علّة واضحة لذاك الشعور، كان بائع الثياب القديمة كالعادة واجماً بين أطماره، وبائع الفواكه يرصد من مكانه حركة المارة بفضول لا يهدأ، ودكاكين سوق السرّاجين غارقة في غبش بارد منعش في ذلك النهار الصيفي الشديد الحرارة. وجال نظري مراراً في ما حولي والحرارة ترهقني، ثم وقف عند ضريح "أنسلمو تورميدا" الذي كان قسّيساً اسبانياً، ثم أصبح في نهاية القرن الثامن للهجرة مترجماً لملوك بني حفص، فعُرف باسم محمد الترجمان. لم يكن مبعث انقباضي رؤية الضريح الجديد لسيدي "تحفة" كما يسميه أهل تونس إشارة الى كتابه "تحفة الأريب" رغم أنه بدا لي ناووساً كثيف الكتلة من الحجارة المنحوتة، لا يبعث منظره على الارتياح. أقول ضريحه الجديد لأن القديم كان، قبل بضع سنين، بناء مربعاً واطئاً يبدو من ضالته كبيت دميةٍ تعلوه قبّة صغيرة مطلية بالجير الأبيض. غير أن أنفساً بارة من بلديّتي تونس وميورقة، مسقط رأس "تورميدا"، اتفقوا على هدم القبة العتيقة، وتعويضها بذلك الناووس الموحش الذي قدمه أهالي المدينة الاسبانية تكريماً لذكرى مواطنهم، مع تحية نُقشت بالعربية و"القشتالية" على حجارته الصفراء الباهتة. وفجأة اتضح لي سر انقباضي وحيرتي. أين الشجرة؟ نعم، كانت هناك شجرة وارفة من فصيلة التينيات تظلل قبة الترجمان. أصبت بصدمة وملأت صورة الشجرة نفسي لبرهة كحضور فاجع مؤلم! مَنْ قطعها؟ وتعاقبت في خاطري صورها الكثيرة متسارعة من رؤى متلاشية من أيامي الماضية. كنت على مدى سنوات أعبر مع صحبي أمامها مرات عدة في الاسبوع لتناول الغداء في مطعم شعبي صغير آخر السوق. وكم شاهدتها في لوحات الفنانين الأجانب والتونسيين، تحنو على صاحبها وتؤنس غربته. وكان يحلو لي تخيل جذورها متصلة برفاته، وحفيف أوراقها واشياً بأسرار حياته العجيبة. لبثت أياماً أعاني من شعور بالقهر، باحثاً عمن يفسر لي اختفاء الشجرة التي سرى حديثها بين الناس، وتواترت عنها أسئلة اتهام واستنكار: من استأصلها، ومن سمح بذلك ومن سكت عنه؟ يجب أن أعترف أنني شديد التحمس لقضايا الطبيعة، فالأشجار والنباتات، في كل مكان فوق هذا الكوكب، كائنات مهددة، ولها فعلاً قضية ولها أعداء وأنصار. ولكن أنصار الطبيعة أو "الخضر" كما يسمونهم اليوم، إنما يخافون على الانسان المهدد في حياته من جراء تدمير البيئة النباتية، أكثر من خوفهم على النباتات ذاتها. أما أنا فإني أجلّها وأحبها لذاتها، وأبدأها بالسلام حين أمر بها، لأنها كائنات عظيمة ورائعة وذكية، لا بمقاييس الأنانية والكبر الزائف للانسان بل بمقاييس مملكة الحياة الواسعة التي تَزِنُ الذكاء بمعيار الصبر والاستمرار في العطاء. إن شجرة "السيكويا" العملاقة التي شهدت عصر الديناصورات لا تزال شامخة في كاليفورنيا، وأرز لبنان قد يحدثنا - لو أمكنه الكلام - عن رأيه في الانسان، هذا الطفل السادر في عجرفته وسوء تدبيره وافساده للمجال الحيوي. فتلك الأشجار وغيرها تتحدث لغة لا نفهمها، أو أننا لا نكلّف أنفسنا عناء فهمها. إنها فعلاً ذكية، لأنها باقية على وجه الأرض بقاء السلاحف والتماسيح منذ عصور سحيقة، ولأنها لا تجهل، مثلما يجهل الانسان، على نحو مخجل، أسرار الحياة. وبعد فترة من الزمن، عدت الى قبر محمد الترجمان، فوجدت شيخاً طاعناً في السن، جالساً أمام أحد الدكاكين المجاورة. ووجدت عوداً صغيراً زرع حديثاً في موضع الشجرة المفقودة. استفسرت الشيخ عن الأمر، فانطلق بي في حديث طويل عن "أنسلم تورميدا" امتزج فيه الواقع بالخرافة. قال لي إن أحفاد الترجمان هم الذين أشاروا بهدم القبة وبناء الناووس على ذلك الشكل. ولم يبدِ اقتناعاً عندما لاحظت أنه لا يمكن - لبعد الزمن - أن يكون مجددو مرقد "تورميدا" من أهله وعشيرته في مايورقة. ثم تطرق الحديث الى الشجرة، فقال انه لا يعرف من اقتلعها، ولكنه رأى أعوان البلدية يغرسون العود الصغير مكانها. فهي في رأيه قد شاخت وهرِمت مثله إذ ولدا معاً في السنوات الأولى من القرن. وأضاف أن أباه أخبره عن شجرة توت عظيمة كانت هناك من قبل تغطي بفروعها مدخل السوق. ثم نظر اليّ نظرة طويلة مليئة بالعتاب على اهتمامي المفرط بتلك الأمور الزائلة. كأنني به أراد أن يقول "كل شيء يموت يا ولدي!". واكتشفت فجأة في لحظة تجلي أن انشغالي بالشجرة، إنما كان جزعاً على ذهاب ردح من حياتي دون رجعة... * شاعر وناقد تونسي.