قد لا يكون اسم رومانوس مكرزل معروفاً على صعيد واسع بين هواة الفن، فهو لم يحتل بعد موقعه على ساحة الفن التشكيلي في العالم العربي، ولم يشارك الا في بضعة معارض. لكن الفنان اللبناني المقيم في الغرب منذ سنوات، والذي سيعرض رسومه بالفحم قريباً في "كريستيز"، لفت الأنظار بمتانة أسلوبه وشفافية لوحته وهو لم يبلغ عقده الثالث. ولأنه من طينة المبدعين الكبار، لم يخش مكرزل الابحار عكس التيار، فاذا به يتفرد عن فناني جيله بالعودة الى كلاسيكية صارمة. "الوسط" وقعت تحت تأثير تجربته، وقامت بالغوص في تفاصيل لوحته التي يطغى عليها الأسود، لا يكسر عتمته سوى ضربات لبقة بمرونة الأبيض ودفء الأحمر... رومانوس مكرزل رسام لبناني شاب يطلب الأشياء البطولية وغير العادية ويسعى الى المثال. "في رأسي صور للوحة مثالية افتش عنها"، يقول وكأنما يخاطب نفسه. ورومانوس رومانطيقي مثل اسمه. يبحر في الطبيعة الانسانية ودوافعها، ويعود الى كلاسيكية عصور مضت هرباً من عبث حياة المدن الحديثة وعاديتها. وفي محترفه في منطقة تشيلسي، ملاذ الفنانين في العاصمة البريطانية، التقينا وهو في غمرة الاعداد لمعرضه المقبل في صالة "كريستيز" اللندنية. "أنا لست حبيس الماضي ولكني لا استطيع التعامل مع الفن الحديث". هكذا يبرر رومانوس الشاب 28 عاماً اختياره أسلوب المعلّمين القدامى في الرسم. كانوا مثاليين أيضاً، لذلك يعجبه أسلوب فيلاسكيز، وروبنز "الذي يظهر البشرة كأنها شفافة، وتحتوي أعماله حركة وعمقاً رغم كونها ثنائية الابعاد". والوجه في بورتريه رومانوس دراماتيكي يذكر بلوحات رامبرانت، وزيتياته وفحمياته مشغولة بدقة وعناية تتعدى الأكاديمية المتقنة. أما أمانته في النقل والتصوير، فربما كان سرّها يكمن في اشمئزاز الفنان من الحركة التشكيلية الحديثة: "يستطيعون فعل أي شيء يريدونه في الفن الحديث. لا مهارة في الصورة، والألوان محدودة تخسر من قيمتها لأنها مكبلة بقيود الطباعة والاستهلاك التجاري". والألوان في لوحة مكرزل قليلة وداكنة، ولو انها تبدو في المشاهد الطبيعية أكثر تنوعاً ما هي عليه في لوحات البورتريه. لكنه يهتم بمزج الألوان، واستعمالها على القماش والخشب في طبقات سميكة فاتحة أو شفافة غامقة تستغل مهارات ال "كوراسكورو" أي لعبة الضوء والظل. الأمر الذي يشحن نتاجه بزخم في التعبير يخلق توازناً مع نزوعه الى الاقتصاد في اختيار اللون. ويغلب على لوحاته الزيتية اللون الأسود بمختلف تدرجاته، لا يكسر عتمته هنا وهناك، سوى ضربات ريشة لبقة تحمل برودة الأبيض ودفء الأحمر المستعار من لوحات معلّميه... عبث الحياة الانسانية فحميات رومانوس مكرزل تذكر بالمدرسة الايطالية التي تبرز الجسد العاري. لكنه يستعمل أقلام الفحم ليظهر دوافع الانسان وطبيعته. فعن استيحائه أسطورة سيزيف مثلاً، كمادة لاحدى لوحاته، يشرح لنا بعفويته المعهودة انه اختار شخص حامل الحجر، المسافر الأبدي الى القمة المستحيلة، كي يبرز "عبث الحياة كما جسّدتها الأسطورة الاغريقية". الاسطورة هي إذاً، كما عند الكلاسيكيين، اطار للتعبير عن الشمولي والمطلق في المعاناة الانسانية. رسم مكرزل ايضاً عيسى الناصري وآلامه وعذاباته الدنيوية، وهو يعمل على نقل معاناة المتشردين في أحياء لندن وأزقتها الخلفية. ويرفض الفنان اعطاء لوحاته الزيتية أية عناوين، تاركاً إياها مفتوحة على الاحتمالات والقراءات، هنا متسكع فرنسي كث الشاربين، وهناك سيدة اسبانية ألقت شالها بغنج ودلال... وبينهما حمّال انكليزي لم يفته الاعتناء بربطة عنقه. وربما عبّر البورتريه الذاتي الذي يصور صاحبه قبل أن يحلق ذقنه، معتمراً قبعة سوداء غريبة، خير تعبير عن الملامح الخفية لشخصية رومانوس مكرزل. خلافاً للكثير من زملائه يرفض الفنان الشاب أيضاً القيام بتصوير موديلاته والمشاهد التي تصلح نماذج لعمله الفني. لا مجال هنا لتحنيط التفاصيل والوجوه التي يستمد منها موضوعاته: "أنا أكره التصوير... والشخص موضوع اللوحة يجلس أمامي ساعات ثلاث يومياً لمدة اسبوعين على الأقل. فأنا أرسم أيضاً حسب الطلب، ضمن قياسات وأسعار محددة، ولكني توقفت عن قبول طلبات جديدة حتى انهاء التحضيرات لمعرضي الجديد". وربما كان سر نجاح هذا الفنان الواعد أنه مستعد لنقد نفسه وأسلوبه. فهو يقول عن أعماله السابقة انها "لم تكن متقنة، واحتاج الى وقت لتطوير أدواتي الفنية والوصول الى مستوى يرضيني. وأنا سعيد لأني تخلصت من لوحاتي القديمة التي رسمتها خلال العامين الماضيين كي أركز على أفكار جديدة". بين الأكاديمية والتجديد المعرض الفردي الأول الذي أقامه في بلاده لاقى من النجاح والاقبال ما اعتبره رومانوس مكرزل تشجيعاً وحافزاً على المضيّ في حقل تجربته وبلورتها... كان ذلك خلال شهر أيار مايو الماضي، حين استضاف بهو "مسرح بيروت" ثماني وعشرين لوحة من أعماله بين لوحات زيتية ورسوم بالفحم، فساهمت تلك المؤسسة في اكتشاف هذا المبدع الشاب وتقديمه لجمهوره واطلاقه في بلاده التي غادرها قبل أحد عشر عاماً. شارك مكرزل في معارض عدة بين فلورنسا ولندن، وتسنى له زيارة معارض عالمية، مما دفعه الى اختيار "تحدي العمل الصعب الذي يميز الرسام المبدع عن سواه". هل يقع الفنان في شرك الأكاديمية الجافة، والتكرار الرتيب لتجارب مر عليها الزمن؟ السؤال يمكن طرحه للوهلة الأولى، لمن لم يدخل في عالم رومانوس مكرزل الفني، ولم تسنح له فرصة الغوص في تفاصيل لوحته وتراكيبها. لكن ثقافة الفنان الواسعة، والخبرة التي اكتسبها على امتداد سنوات التجريب والممارسة والتحصيل بين انكلترا والولاياتالمتحدة وايطاليا، وتوجهه نحو الفن منذ سنوات المراهقة، كل ذلك ساهم في اضفاء النضج على لوحته وفي اكسابها عمقاً وحيوية هما في أساس كل تجربة فنية مجددة. رومانوس مكرزل منشغل الآن في وضع اللمسات الأخيرة على معرضه المقبل في صالة "كريستيز". سيضم المعرض آخر أعماله من الرسم بالفحم، لكن الفنان الساعي الى "لوحة مثالية" يبحث جدياً في مشروع انجاز أعمال كبيرة وجداريات، تفيض معها لوحته لتصبح "أكبر من الحياة نفسها" كما يحب أن يقول، وهو قلما خرج حتى اليوم عن الطبيعة الصامتة والبورتريه... لكنه مؤمن ان الاسلوب الذي اختاره في العودة الى المبادئ القديمة في الرسم "بتشجيع من استاذه في فلورنسا"، يعطيه زخماً كافياً، كي يمضي في مغامرته وتجربته المغايرة التي تجعله بين أبناء جيله طائراً يغرد خارج سربه. فرومانوس مكرزل ينطلق من يقين ثابت لا يتزعزع بأن الفن، أياً كان منحاه، ومهما اقترب من الكلاسيكية أو ابتعد عنها، ليس في نهاية المطاف الا بحثاً متواصلاً عن النموذج المطلق، عن اللوحة المثالية، في ظلمة الأعماق... بطاقة شخصية - ولد في لبنان عام 1965. - درس في مؤسسة "سيرجون كاس" للفنون في انكلترا بين العامين 1984 و1985. - درس في "معهد مانهاتن للفنون" في الولاياتالمتحدة بين الأعوام 1986 و1988، وجرب الفن التجريدي قبل اختياره الرسم الكلاسيكي. - درس الرسم الزيتي الواقعي في "استديو سيسيل غرايف" في مدينة فلورنسا الايطالية بين الأعوام 1988 و1991، ثم عاد الى لندن، مكان اقامته الحالي. - معارضه: 1990 - "المعهد البريطاني" في فلورنسا. 1991 - "غاليري بيتون براون" في لندن. شتاء 1993 - "مركز كودا في لندن لاكاديمية فلورنسا للفن التشكيلي". ربيع 1993 - "مسرح بيروت" - عين المريسة في لبنان. خريف 1993 - صالة "كريستيز" في لندن.