* - بوتو تخسر مواقع وشريف منافس خطر ... وبدء نظام الحزبيين * البديل الاصولي يزدهر في ظل الدكتاتورية جرت في الاسبوع الماضي ثالث انتخابات وطنية تشهدها باكستان خلال خمس سنوات، وكانت هذه الانتخابات حرة ونزيهة. وفازت بنازير بوتو زعيمة حزب الشعب بستة وثمانين مقعداً من مقاعد الجمعية الوطنية التي يبلغ عددها 217. وهي تتوقع الآن ان تصبح رئيسة للوزراء بتأييد من الاحزاب الصغيرة والنواب المستقلين. ومن المرجح ايضاً ان يشكل حزبها الحكومة الاقليمية في اثنتين من مقاطعات باكستان الاربع. ففي السند يتمتع حزبها بغالبية كافية للحكم، وهي تحاول الآن تشكيل حكومة إقليمية ائتلافية في البنجاب اكثر ولايات البلاد ازدحاماً بالسكان وموطن الجيش الذي له سلطة سياسية قوية. لكن من المرجح ان تكون حكومات حزب الشعب الباكستاني مهزوزة، إذ أن الغالبية الضئيلة التي تتمتع بها في الجمعية الوطنية وجمعية البنجاب تعتمد على حلفاء اعتادوا على تغيير ولائهم من حزب لآخر في مقابل مكاسب شخصية صغيرة. كما ان المخاطر التي ستواجه بوتو في البنجاب أعظم لأن حزب خصمها نواز شريف رئيس الوزراء السابق فاز بمئة وستة مقاعد من مجموع مقاعد الولاية وهي مئتان وأربعون مقعداً، بينما حصل حزب بوتو على أربعة وتسعين مقعداً. ولهذا اضطرت بنازير الى تشكيل ائتلاف مضطرب مع الجماعات الاسلامية والمحافظة. وحتى في السند، موطن بوتو، تلوح علائم الخطر في الافق، فهناك تاريخ مألوف من عدم الثقة والمواجهات العنيفة بين حزبها وحزب المهاجرين، حزب المعارضة الرئيسي في الولاية. وخلال توليها رئاسة الحكومة للمرة الاولى كانت الاضطرابات في السند عاملاً أساسياً في حلّ حكومتها عام 1990. ومما يزيد من تعقيد الساحة السياسية في هذه الولاية شخصان آخران من عائلة بوتو هما: ابن عمها ممتاز وشقيقها مرتضى الذي يعيش في المنفى في سورية بعدما دخلا المعترك لمعارضتها، إذ فاز كل منهما الآن بمقعد في الجمعية الوطنية الاقليمية في السند. وفي مثل هذه البيئة الاقطاعية سترتكب بنازير خطأ جسيماً إن هي استهانت بقدرتهما على إثارة المشاكل الصعبة لها. ربما كان كبار البيروقراطيين وجنرالات الجيش سعداء بنتائج الانتخابات. فهم يفضلون، بصفتهم ورثة النمط الاستعماري من الحكم، الحكومات المنتخبة الضعيفة التي يستطيعون ممارسة نفوذهم القوي عليها. والحكومات الائتلافية وما تنطوي عليه من مساومات يسهل استغلالها. وهناك اعتقاد واسع بأنه سُمح لممتاز بوتو الذي لا يزال يواجه تهماً بالهجمات الارهابية بخوض المعركة الانتخابية غيابياً من اجل اعطاء المؤسسة البيروقراطية - العسكرية المزيد من المجال للضغط على بنازير. وهناك ايضاً ضغوط مماثلة على خصمها نواز شريف. اما الشعب الباكستاني فاستقبل النتائج بمشاعر من التحسب وعدم الارتياح، إذ تبدّد امله في ان تعطي الانتخابات حكومة مستقرة قوية. وهناك قلق من احتمال العودة الى سياسة المناحرات والمساومات التي تميزت بها عودة البلاد الى الديموقراطية البرلمانية منذ عام 1988. وكما حدث في عامي 1990 و1993 قد لا تصمد الحكومة المنتخبة. وإذا ازداد عدم الاستقرار فان عملية تعزيز النظام الديموقراطي ستصبح صعبة بل ربما مستحيلة. ومع ذلك فان معظم المراقبين يتفق على ان هذه الانتخابات كانت مهمة لأن الاتجاهات التي كشفتها ربما كانت تاريخية. كما انها تقدم دروساً قيمة للدول الاسلامية الاخرى ولصناع السياسة في الولاياتالمتحدة. نظام الحزبين وهناك ثلاثة تطورات تستحق الاهتمام الخاص: أولاً، بدأ يظهر في البلاد نظام بحزبين. إذ أن حزب الشعب الباكستاني بزعامة بوتو خسر أرضية كبيرة بعدما ظل الحزب الوطني الاساسي والأول في البلاد من دون منافس منذ انفصال بنغلادش عن باكستان عام 1972. اما الرابطة الاسلامية، وهي الحزب الذي قاد الكفاح من اجل اقامة الدولة الباكستانية فكان في حالة من السبات منذ أن توفي مؤسسوه الاوائل مطلع الخمسينات، لأنه اصبح خادماً للعسكريين وأداة لحكم الاقلية وملاذاً للسياسيين التافهين... لكن هذه الانتخابات شهدت تراجع حزب الشعب وانبعاث الرابطة الاسلامية. ويبدو ان الناخبين في المدن ومن أبناء الفئة العاملة بدأوا يهجرون حزب الشعب. صحيح ان الحزب احتفظ من الناحية الفنية برصيده وهو 38 في المئة من اصوات المقترعين، لكن إقبال الناخبين على الادلاء بأصواتهم كان منخفضاً الى درجة غير عادية و40 في المئة من الناخبين المسجلين مما لا يعكس مجرد لامبالاة الرأي العام فحسب، بل فقدان الحزب قدرته على تعبئة المؤيدين. ومما يبعث على القلق الشديد في اوساط حزب الشعب أنه مني بهزيمة ساحقة، خلافاً لكل التوقعات، في مناطق المدن حيث يزداد السكان بسرعة كبيرة. وللمرة الاولى ايضاً تحولت الفئة العاملة والفئة المتوسطة وأعداد كبيرة من المثقفين من حزب الشعب الى منافسه. إذ أن بوتو طالما فضلت ترشيح كبار ملاكي الاراضي، لأن العائلات الاقطاعية هي التي تحدد انماط التصويت في المناطق الريفية. وفي هذه الانتخابات ازداد العنصر الاقطاعي في حزبها حين تحولت أسر اقطاعية مرموقة عدة كانت تؤيد عادة الرابطة الاسلامية الى تأييد حزب الشعب ما ضمن نجاحه في ريف البنجاب. لكن ثمن هذا النصر ربما كان باهظاً. الا ان الناخبين تصرفوا عموماً ضد الوجوه القديمة. ولهذا فان نصيب حزب الشعب من مجموع الاصوات في انتخابات نزيهة تخلف للمرة الاولى عن نصيب الرابطة. كما ان سمعة الحزب الشعبية تضررت لأن ما حدث كان انعكاساً للصورة المألوفة. ولهذا فان الرابطة الاسلامية المحافظة التي طالما كانت تجمعاً من الاقطاعيين العنيدين اكتسبت وجهاً حديثاً نسبياً كتجمع من الطبقة الوسطى وسكان المدن، بينما ظهر ان حزب الشعب والنظام الاقطاعي القديم صنوان لا يفترقان. كما ان تحالف بنازير الانتخابي مع احد الأحزاب الدينية ساهم في إعطاء هذا الانطباع. شريف منافس خطير ثانياً، خرج نواز شريف - وهو رجل اعمال - من هذه الانتخابات منافساً خطيراً يقود رابطة اسلامية جديدة. فقبل عقد من الزمن دخل المعترك السياسي كصنيعة للجنرال ضياء الحق وأصبح بدىل المؤسسة العسكرية - البيروقراطية من السيدة بوتو. وفي انتخابات عام 1988 التي اعقبت مقتل الجنرال ضياء الحق وعدد من مرافقيه في انفجار طائرة، ساعدته الاستخبارات واقامت تحالفاً بين الرابطة الاسلامية والاحزاب الاسلامية. وفي 1988 خسر شريف رئاسة الحكومة امام بوتو، لكنه اصبح رئيس وزراء البنجاب. وحين حاولت بنازير عزله نجح في مقاومتها. وبدأت الحرب بين الطرفين. وفي انتخابات 1990 التي اعقبت عزل الرئيس حكومة بوتو تعسفاً، قاد شريف تحالف الرابطة مع الاحزاب الاسلامية وفاز بسهولة في انتخابات يعتقد الناس على نطاق واسع انها كانت مزورة. وهو رجل داهية وطموح - إذ أنه بدأ يبتعد تدريجاً عن حلفائه الاصوليين ويتودد الى مصالح الاعمال ببرنامجه لنقل الصناعات التي أممها ذو الفقار علي بوتو الى القطاع الخاص، وعرض نفسه كمصلح. كذلك حاول الغاء تعديلات بوتو الدستورية التي منحت رئيس الدولة صلاحية حل البرلمان وحاولت حتى توسيع نطاق سيطرته على الجيش. ولهذا فقد الحظوة عند الرئيس اسحق خان الذي كان بيروقراطياً في الثمانينات من عمره فحل البرلمان وحكومة شريف. وإثر ذلك استأنف شريف ضد القرار الى المحكمة العليا التي اعادت تثبيت حكومته. وهنا تدخل ضباط الجيش ليضعوا نهاية للمواجهة الجديدة بين الرئيس ورئيس الوزراء باجبار الاثنين على الاستقالة. وبعدئذ دخلت باكستان مرحلة من مراحل العذاب في تاريخها. فعُين معين قرشي النائب السابق لرئيس البنك الدولي الذي لم يكن معروفاً اطلاقاً في باكستان رئيساً للحكومة الانتقالية المكلفة تنظيم اجراء انتخابات جديدة. وفعل قرشي ذلك بكفاءة تستحق الثناء. وخلال فترة حكمه التي دامت ثلاثة اشهر فضح الفساد الهائل والمحسوبية والتبذير الحكومي. وعانى شريف، كونه رئيس آخر حكومة، من النتائج السلبية التي ترتبت على كشف تلك الفضائح في وسائل الاعلام اسبوعياً تقريباً خلال الحملة الانتخابية. يضاف الى ذلك ان الاحزاب الاسلامية الرئيسية تخلت عنه. كما أن حزب الرابطة الاسلامية الذي يتزعمه أصبح يعاني من الانقسام، اذ انشق جناح منه وتحالف مع حزب الشعب. وهكذا بدا شريف في موقف ضعيف. من هنا يمكن القول ان نواز شريف هو الفائز الحقيقي في هذه الانتخابات. فبعدما كان شخصاً ترعاه ديكتاتورية ضياء الحق اصبح سياسياً ناضجاً ايقظ الحزب الذي اسس باكستان من سباته وتحدى القوة الهائلة لحزب الشعب وفاز بأصوات اكثر منه، كما نجح في اقصائه الى المناطق الريفية وانتزع منه الكثير من دوائره الانتخابية في المدن وبين اوساط الطبقة الوسطى. وأصبح أول سياسي من خارج السند يكسر احتكار حزب الشعب في السند. وفوق كل هذا كشف من دون تعمد الاحزاب الدينية وأثبت انها فاشلة. هزيمة الاسلاميين لقد دخلت الطليعة الايديولوجية الداعية الى دولة دينية في باكستان، وهي حزب الجماعة الاسلامية، الحملة الانتخابية وهي تتصدر الجبهة الاسلامية الباكستانية. وكانت تتوقع، نتيجة تقارب النتائج بين حزب الشعب والرابطة الاسلامية، ان تتحكم بميزان القوى. فهي حزب جيد التنظيم والانضباط ولا يماثلها في نهجها العقائدي سوى جماعة "الاخوان المسلمين" في مصر. كما ان دورها المركزي في الحرب الافغانية وكحليف للجنرال ضياء الحق عاد عليها بالكثير من الاموال والسلاح والحظوة في الدوائر العليا. وكانت الاحزاب التي تسعى الى تشكيل حكومات ائتلافية تتودد اليها بشروط سخية. لكن الجبهة الاسلامية منيت بهزيمة منكرة في أول اختبار حقيقي لقوتها. إذ لم ينجح سوى اثنين فقط من مرشحيها المئة في الوصول الى الجمعية الوطنية ولم تحصل على اكثر من ثلاثة في المئة من أصوات الذين توجهوا الى صناديق الاقتراع، بينما أبلى المرشحون المستقلون بلاء حسناً. كما ان الاحزاب الاسلامية التي خاضت المعركة الانتخابية خارج إطار الجبهة الاسلامية لقيت مصيراً أسوأ. فحتى كبار زعمائها خسروا وفي مقدمتهم مولانا عبدالستار نيازي الذي كان وزير الشؤون الدينية في حكومة شريف. لكن أداء الاحزاب الدينية التي تسلقت على ظهر حزب الشعب او الرابطة الاسلامية كان افضل. ومع هذا فهي تواجه احراجاً جديداً الآن. فمثلاً كان مولانا فضل الرحمن زعيم جمعية علماء الاسلام يقول في الماضي إن من المغاير للاسلام ان ترأس امرأة حكومة. اما الآن، بعدما فاز بمقعده في الجمعية الوطنية كحليف لبوتو فقد اصبح يتفادى الرد على الاسئلة المتعلقة بآرائه السابقة. ازدهار الاصولية في ظل الديكتاتورية ثالثاً، ان هذه النتائج تثبت ما هو واضح منذ زمن في معظم انحاء العالم الاسلامي، وهو ان البديل الاصولي يزدهر في ظل الديكتاتورية، لكنه يفقد جاذبيته في البيئة الديموقراطية. ففي بعض الاماكن كما حدث في باكستان في عهد ضياء الحق، وفي السودان في عهد جعفر نميري، ازدادت قوة الاحزاب الاسلامية نتيجة التحالف مع الديكتاتوريات. اما في الاماكن الاخرى كما كان الحال في احدى المراحل في ايران، وكما هو الحال في الجزائر، فتجد الحركات الاسلامية الشعبية، بصفتها معادية للديكتاتوريات الحليفة للغرب او الموالية للسوفيات مثلما حدث في افغانستان. وعلى رغم كل الحديث في الولاياتالمتحدة عن خطر الاصولية الاسلامية فان المسؤولين والباحثين على السواء اخفقوا في الاعتراف بحقيقة جلية وهي ان الاصولية الاسلامية تتغذى بطرق ايجابية وسلبية على الديكتاتوريات القريب معظمها من اميركا. والتحول الى الديموقراطية هو العلاج الوحيد لهذا المرض السياسي. اذ ان ديموقراطية اسلامية نادرة كتلك القائمة في ماليزيا ظلت بعيدة عن التحدي الاصولي. اما حيث تستعاد الحريات الديموقراطية جزئياً او كلياً كما هو الحال في دول مثل باكستان وبنغلادش واليمن وغيرها فان قوة الاصولية تنحسر وتتراجع.