اخيراً، حصل ما كانت تخشاه الادارة الاميركية في الصومال، وهو احتجاز اميركيين رهائن لدى "التحالف الوطني الصومالي" بزعامة الجنرال محمد فارح حسن عيديد الذي تلاحقه قوات "عملية الاممالمتحدة الثانية في الصومال" يونوصوم - 2 لاعتقاله. اذ اتسعت دائرة التورط الاميركي مع العملية العسكرية التي نفذتها قوات من "يونوصوم - 2" مطلع الشهر الجاري وجاءت حصيلتها مروعة للأميركيين، اذ فقدوا طائرتي هليكوبتر من طراز "بلاك هوك" وقتل 12 عسكرياً اميركياً على الاقل وأصيب نحو 80 آخرين بجروح، فيما اعتبر نحو ثمانية آخرين في عداد المفقودين، وتأكد أسر واحد منهم على الاقل. وجاءت تأثيرات هذه العملية مروعة ايضاً للرأي العام الاميركي الذي شاهد صوراً حية بثتها شبكات التلفزة الاميركية تظهر أسيراً اميركياً يتحدث عن قتل مدنيين صوماليين. كما شاهد جثة جندي اميركي آخر مربوط بحبل يطوف به صوماليون في شوارع مقديشو. وزادت هذه المشاهد من الاصوات الاميركية المطالبة بالانسحاب فوراً من الصومال. لكن في المقابل وجدت الادارة الاميركية نفسها تتجه نحو مزيد من التورط في المستنقع الصومالي الذي يعيد الى الاذهان التورط الاميركي في فيتنام. فأمر الرئيس بيل كلينتون بارسال قوات اضافية تدعمها مدرعات وحاملات جنود مصفحة وطائرات هليكوبتر الى الصومال. وحذر في الوقت نفسه محتجزي الاسرى الاميركيين من اية محاولة لايذائهم. وعكس التوجه الاميركي الاخير ما اعلنه الرئيس كلينتون مطلع الشهر الجاري عندما تحدث امام الجمعية العامة للامم المتحدة عن سياسة بلاده الخارجية، وقال انه يسعى لدى المنظمة الدولية لعقد مؤتمر مصالحة وطنية في الصومال قبل نهاية الشهر المقبل، وانه سيساعد "يونوصوم - 2" في اعادة بناء الهيكل السياسي والمؤسسات الاجتماعية في الصومال. وتظهر السياسة الاميركية المتقلبة ازاء الصومال عجزاً واضحاً بدت نتائجها في الخسائر الفادحة التي لحقت بالقوات الاميركية في العملية العسكرية الاخيرة. كذلك صار من الصعب على الادارة الاميركية سحب قواتها بسرعة من الصومال قبل تحرير اسراها على الاقل من ايدي انصار الجنرال عيديد، وهي في الوقت نفسه تواجه ضغوطاً محلية قوية تطالبها بالانسحاب. واعترف مسؤولون اميركيون اخيراً بالمأزق الذي وقعت فيه ادارة كلينتون التي ورثت "الموضوع الصومالي" من الرئيس السابق جورج بوش الذي كان نجح في ارسال اكبر قوة عسكرية اميركية الى الخليج واستطاع مع القوات الحليفة طرد القوات العراقية من الكويت. لكن بوش الذي كان قرر قبل اقل من شهر على مغادرته البيت الابيض، ارسال قوات اميركية الى الصومال، لم يكن يتوقع ان تبقى هذه القوات اكثر من ثلاثة اشهر في اطار "عملية اعادة الامل" التي انتهت بانتهاء المجاعة في الصومال. ويبدو ان امام الرئيس كلينتون حالياً خيارات قليلة لكنها كلها تحتاج الى عامل الوقت الذي لا يسمح له بالبقاء طويلاً في الصومال. اذ يتوقع ان يمارس الكونغرس الاميركي الصلاحيات التي منحها لنفسه ابتداء من منتصف الشهر الجاري، وهي حق طلب سحب القوات الاميركية فوراً من الصومال. ففي الكونغرس طالب السيناتور بوب دول زعيم الجمهوريين، الذي من المرجح ان ينافس كلينتون في انتخابات الرئاسة لعام 1996، الرئيس الاميركي ان يقدم الى الكونغرس "خطة الادارة التي تبين كيف ومتى ستنسحب الولاياتالمتحدة من الصومال الى الأبد". كذلك دعا السيناتور روبرت بيرد، وهو ثاني اهم اعضاء الكونغرس عن الحزب الديموقراطي وزعيم الاغلبية الديموقراطية سابقاً، الى الانسحاب الكامل من الصومال بحلول اواسط شهر تشرين الثاني نوفمبر المقبل. كما هدد بيرد بالغاء مخصصات العملية الصومالية من موازنة الدفاع. وأعلن بن غيلمان العضو الجمهوري في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، وهو يمثل وجهة النظر الاسرائيلية في المجلس عادة، تأييده دعوة بيرد. وهناك اعتقاد بأن البيت الابيض منقسم على نفسه بين مؤيد لمساعد وزير الخارجية بيتر تارنوف الذي يقول ان الوضع في الصومال يثبت انه يجب على الولاياتالمتحدة ألا تتورط في كل ازمة عالمية، وبين مناد بوجوب انتهاج سياسة جريئة اكثر اندفاعاً وإقداماً. ومن الملاحظ ان الرئيس كلينتون لم يرفض في خطابه، الذي القاه في سان فرانسيسكو وتعرض فيه الى الاخبار التي وردت من مقديشو، وجهة نظر دول وبيرد التي تحبذ الانسحاب. وهناك اعتقاد بأن كلينتون وهو أول رئيس اميركي يتفادى الخدمة العسكرية منذ عهد الرئيس ويلسون الذي توفي عام 1920 يميل نحو الرأي العام الذي يفضل الانسحاب. لكن وزير الخارجية وارن كريستوفر قال في مقابلة تلفزيونية "يجب علينا ان نرد بحزم على القوات المنشقة". ومن المرجح ان يعكس وزير الدفاع ليس اسبن رأي العسكريين الذين يرفضون غريزياً فكرة "التراجع" ويفضلون "معاقبة العدو". ويتوقع ان يبدي الجنرال جون شاليكاشفيلي رئيس هيئة الاركان المشتركة الذي تولى منصبه الجديد في الأول من الشهر الجاري حزماً في بداية مهمته، لا سيما ان الجيش هو الذي عانى من اصابات اكثر من غيره. كذلك يؤيد لي هاملتون رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الذي سيكون الخلف المرجح للوزير كريستوفر اذا ما استقال انتهاج سياسة صارمة ومتشددة. وهناك السيناتور ريتشارد لوغار رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ في عهد ريغان الذي يؤيد موقف هاملتون - اما الرئيس الحالي لهذه اللجنة وهو الديموقراطي كليربورن ييل فلم يعرب عن رأيه حتى الآن، مع ان من المرجح ان يحذو حذو كلينتون. ومن الذين لم يفصحوا عن موقفهم ايضاً السيناتور سام نن رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ وهو خلف محتمل لوزير الدفاع أسبن اذ قال: "على الولاياتالمتحدة ان تنسحب او ان تجعل قواتها في وضع منيع وقوي". ومن المرجح ان ينتهج مستشار الامن القومي انطوني ليك موقفاً يجمع فيه بين كل الآراء ويعرب عما اصبح نكتة في واشنطن: وهو "الوسط المتطرف"! وتقول مصادر وزارة الدفاع الاميركية ان القوات الصومالية لديها اسلحة جيدة من منصات الصواريخ التي تستخدمها في اطلاق القنابل، والمدافع الثقيلة والخفيفة. كما ان بعض تلك الاسلحة من صنع اميركي حصل عليها الصوماليون بعد نجاح الثورة في اثيوبيا عام 1974. وتقول المصادر ان تلك الترسانة فعالة في شكل خاص ضد طائرات الهليكوبتر حين تكون على ارتفاعات منخفضة لتمكين رجال الكوماندو من النزول منها باستخدام الحبال. وكانت القوات الاميركية لجأت الى هذا الاسلوب حين اغارت على فندق "اوليمبك" حيث كان عدد من مساعدي عيديد يعقدون اجتماعاً، واستطاعت أسر عدد منهم، وبينهم عثمان صالح الذي يوصف بأنه "مستشار سياسي" ومحمد حسن عوالي وهو سائق تاكسي سابق في واشنطن يوصف بأنه مستشار عيديد للسياسة الاميركية. في هذه الاثناء قال الرئيس الاريتري اساياس أفورقي في مؤتمر صحافي عقده في واشنطن انه عرض على عيديد الانتقال الى اريتريا وانه اذا ما قبل عرضه فانه لن يفرض عليه الاقامة الجبرية بل سيترك له حرية العمل السياسي. وأضاف افورقي: "انني لا اعتقد ان الولاياتالمتحدة ستنجح في العثور على عيديد". ويشك المراقبون في امكان قبول الأممالمتحدة وجود عيديد على بعد اميال قليلة من الحدود الصومالية حيث يتمتع بحرية العمل السياسي. ولهذا فهم يتوقعون استمرار المحاولات لالقاء القبض عليه تمهيداً لمحاكمته او نفيه الى مكان بعيد عن الصومال.