يحرص مؤلف المسلسل التلفزيوني على ان يشد اهتمام المشاهد من حلقة الى حلقة بأن يثير لديه اكبر قدر من الانفعال والتطلع الى تطور الاحداث ومصائر الشخصيات، ويتجاوب المشاهد العربي - في الاغلب - مع الانفعالات العنيفة والعواطف الحادة، وكأنما يستعيض بها عما قد يكون في حياته من رتابة وركود. ومن الوسائل المألوفة، لكي تبلغ اثارة الانفعال والتوقع حدها او اقصى مداها لدى المشاهد، ما يمكن ان يسمى "لقاء الاضداد" او "تقابل الابيض والاسود": الفقر والغنى، الشر والخير، الاستقامة والانحراف، المكر والغفلة، الطمع والقناعة، وغير ذلك من الصفات والميول النفسية المتقابلة. ولا شك ان هذه المواضيع كانت - ولا تزال - محوراً لكثير من الاعمال القصصية والدرامية وسبيلاً الى ابداع كثير من النماذج البشرية الناجحة، لكنها حين توضع في العمل الدرامي وجهاً لوجه، وفي اقصى درجات التناقض تصبح مجرد وسيلة للاثارة ولا تقدم الى المشاهد الا احداثاً مفتعلة ونماذج وشخصيات مصنوعة، يكون الخير فيها خيراً محضاً والشر شراً خالصاً، ولا تترك في نفسه الا انفعالاً وقتياً قد يكون حاداً، لكنه سرعان ما يزول بعد المشاهدة، لما تتضمنه الشخصيات والاحداث من مبالغات مسرفة او بعد عن المنطق او مجافاة لطبيعة الواقع. وكثيراً ما يكون هدف كاتب السيناريو الكشف عن وجوه من الفساد في المجتمع، او تصويراً لنماذج بشرية تسيطر عليها روح الشر وانتصاراً لمعاني البراءة والخير. لكن التصوير النمطي لتلك المواجهة يظهرها في النهاية وكأنها - على نقيض ما اراد المؤلف - هزيمة للخير امام الشخصية الشريرة النمطية التي يزودها المؤلف بالذكاء المنحرف وسعة الحيلة والمضي بلا تردد الى غايتها المقصودة. ومن خلال الاداء المبالغ لدور الشر الكامل، والمزاوجة احياناً بين المهادنة الخبيثة والمواجهة الصريحة يتجاوب المشاهد مع ممثل الشر، وينقلب ما اريد به ان يكون كشفاً عن فساد وانحراف الى اعجاب بذكاء الشخصية ودهائها وسعة حيلتها امام طهارة مغلوبة لا حيلة لها الا التوجه الى المشاهد بالصراخ او الخطب المنمقة عن الشرف والضمير في عبارات تفوق في اغلب الاحيان قدرة الشخصية ومستواها في الفكر والتعبير، وتترجم عن فكر المؤلف نفسه وقدرته على البيان. * * * وحين تكون الشخصية ذات لون واحد - بيضاء او سوداء بلا ظلال - او تكون ذات بعد واحد سطحي غير مركب، يصبح تحولها عن طبيعتها وموقفها عسيراً، الا اذا اعد لها المؤلف من التجارب العديدة ما يعدل بها عن سلوكها النمطي الواحد الذي يتوقعه المشاهدون. والمسلسل الذي يتسم غالباً بمتابعة الاحداث والشخصيات الكثيرة لا يتيح لمثل هذه الشخصية النمطية التحول النفسي البطيء الذي يقتنع به المشاهدون، فإذا اقتضى سير الاحداث ان يتغير كيان تلك الشخصية جاء تغيرها مفاجئاً بعيداً عن منطق النفس والواقع. وفي المسلسل العربي - والمصري خصوصاً - كثير من النماذج النمطية المكررة التي يستغني بها المؤلف عن ابتكار شخصيات متميزة، وكثيراً ما يقصد المؤلفون والمخرجون بتقديم تلك النماذج الى الفكاهة والطرافة التي يرحب بهاپالممثلون بدورهم، اذ شاع عن المشاهد العربي انه يضيق بالعمل الدرامي الجاد وينشد الخفة ويقبل على كل ما يثير الضحك. ومن الشخصيات التي تمثل قضية، في اطار غالب من الكوميديا، بعض الشخصيات "الشعبية" في المدينة. وهي تقدم في صورتها النموذجية النمطية لقاء الابيض والاسود متمثلين في بعض من يتمسكون بالتقاليد "العريقة الطيبة"، وتحرص على الانتماء الى "الحارة" القديمة الصامدة امام اغراء المدينة بمالها ومباهجها، وفي المقابل هناك من يتطلعون من ابناء الحارة بإغراء بعض الوافدين اليها من ابناء المدينة الحديثة الى الثراء السريع بالقضاء على الحارة وفضائلها الموروثة. وتبدو الشخصيات الطيبة ضعيفة مغلوبة على امرها امام كيد المنحرفين واغراء المتطلعين. وتغلب على الحوار لغة نموذجية انقرضت من زمن بعيد، لكن المخرجين والمؤلفين ما زالوا يتشبثون بها كعنصر من عناصر العراقة والاصالة، وهو موقف رومانسي تجاوزه الزمن، قد يذكرنا بموقف بعض شعراء من الجيل الاول للشعر الحر وتحاملهم الرومانسي على "المدينة" بعد ان هجروا قريتهم الوادعة في احضان الريف الطيب. وفي ريف المسلسل المصري يلتقي الضدان لقاء غير متكافئ في صورة انسان ظالم متسلط بالغ الانانية والقسوة الى حد يتجاوز الواقع بكثير، وفلاحين يشكون ويصرخون ويتحركون في مجموعات تغدو وتروح بلا هدف معلوم، ويتحدثون بلهجة "نمطية" يفترض المخرج انها لغة اهل الريف واهل الريف منها براء. وفي كلا الاطارين - المدني والريفي - يتخذ المخرج من الاكل وسيلة فجة لما يفترض انه يثير الضحك، ويصور الممثل وهو يتحدث وفمه مليء بالطعام، يأكل في شراهة بشعة ويسيل الطعام احياناً على شدقيه ويديه ويبتلعه في عجلة منهومة. ولا يفطن المخرجون الى قبح هذا السلوك الغليظ البعيد عن الواقع، والى ما يمكن ان يثيره عند المشاهدين من نفور واشمئزاز. وفي المسلسل الاجنبي الذي يجتذب المشاهد العربي بفنه المتميز - مهما تكن طبيعة مضمونه الخلقي والاجتماعي - يبدو الاكل مشهداً رمزياً يتخذه المخرج في الاغلب وسيلة الى تشكيل جمالي او لجمع بعض الشخصيات في وضع يتيح التحاور من دون حركة او انتقال. * * * وتقترن قصص العمل والوظيفة في المسلسل العربي بقصص حب موازية يوليها المؤلف والمخرج كثيراً من العناية حتى تطغى احياناً على قصة العمل او التجارة او الوظيفة او غيرها من الوان النشاط الاجتماعي. بل لعل هذه الالوان من النشاط تكون في اغلب الاحيان مجرد اطار لقصص الحب، وهو حب ينطوي على كثير من المراهقة والسطحية يعجز ان يصل معها الى وجدان المشاهد الناضج. ومن خلاله ينفذ المؤلفون والمخرجون الى موضوع اثير لديهم اذ يمثل جانباً مهماً من جوانب التطور الحضاري في المجتمعات العربية هو "خلاف الاجيال". وتتنوع طبيعة هذا الخلاف بحسب القضايا السائدة في كل مجتمع عربي، ففي بعضها يبرز - مثلاً - زواج البنات على غير رغبتهن من شيخ ثري او من قريب وعده والد الفتاة بزواجها. وغلاء المهور، والتمسك بالقيم والعادات القديمة عند الاباء، وتطلع الابناء الى اسلوب عصري جديد في الحياة يكاد ينسلخ عما الفه الاباء واستطابوا العيش في ظله وما زالوا يحنون اليه على الرغم مما جد على حياتهم من مظاهر المدنية الحديثة. وفي المسلسل المصري يتمثل الخلاف بين الاجيال احياناً في قضية الحب والزواج غير المتكافئ في نظر الآباء المتكافئ عند الشباب لانه يطرح الاوضاع الاجتماعية والفقر والغنى جانباً، وينظر الى الشخصية والثقافة والسلوك الحضاري. وفي تلك المواقف تتردد عبارات مألوفة على ألسنة الشباب يحتجون بها على ما يرون انه تسلط غير مشروع من الكبار "فهم الذين سيتزوجون لا آباؤهم ولا امهاتهم، وقد يرغب الشاب في ان يبدأ حياته في وظيفة صغيرة او عمل متواضع لكي "يبني نفسه"، في حين يرى الاب ان آماله المعقودة على مستقبل ولده قد خابت بعد ان اتاح له تعليماً عالياً وهيأ له كل اسباب النجاح. وفي كل هذه الاحوال نشهد المواجهة المألوفة الحادة بين الاضداد فيكثر الجدل والنقاش وينسى المخرج ان هناك احداثاً ومشاهد اخرى في العمل الدرامي، فيحيل الموقف الى ما يشبه "المناظرة" ويتخذ المؤلف من موقف الجدل وسيلة لابداء رأيه من خلال شخصيات تتحدث بالحكمة والاعتدال. فحيناً ينصح الابناء بالطاعة وطول التدبر قبل الاقدام، وحيناً ينصح الآباء بأن يكونوا اقل تسلطاً وأكثر فهماً لعقلية ابنائهم من الجيل الجديد. وخلال ذلك الجدل الطويل والحكمة الكلامية المكررة والغضب والاحتجاج يسيطر الملل على المشاهدين وتتجمد المواقف ويضيع التمثيل ويتحول الى احاديث وخطب ليس للممثل فيها الا فضل "الالقاء". وقد ينتصر المؤلفون والمخرجون للجيل الجديد ويحاولون ان يمحوا من نفوس الآباء ما يرون من عقوق، ويرضوا طموح الشباب ويثبتوا جدارتهم، فنرى الواناً من النجاح السريع غير الميسور في واقع الحياة، ونسمع احاديث غير مفهومة في الاقتصاد والمال والتجارة، وشركات ومصانع وصفقات تقوم وتنمو وتنجح في بضعة شهور، والمشاهد يستقبل كل ذلك - على علاته - كمجرد اطار للعلاقات العاطفية او المنافسة بين الشر والخير. ويبقى المشاهد العربي على الرغم من ذلك كله مشدوداً - بحكم الضجر - لما يعرض عليه من مسلسلات حافلة بالعثرات الموضوعية والفنية الى ان تجود عليه المصادفة بعمل درامي عربي جيد او مسلسل اجنبي يفتنه بصنعته الفنية، ويتسلل الى وجدانه وفكره من خلال قيم كثيرة لا يرضى عنها. * كاتب وناقد مصري بارز.