لم يخطئ الرئيس العراقي صدام حسين، هذه المرة، في حساباته: سعى الى المواجهة مع دول التحالف، من خلال اثارته "أزمة الصواريخ" واتخاذه اجراءات مختلفة ضد الكويتوالاممالمتحدة، فحصل على المواجهة. ويمكن القول ان صدام حسين لم يفاجأ، كلياً، بالضربة العسكرية التي وجهتها اليه دول التحالف الثلاث، الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا، مساء 13 كانون الثاني يناير الجاري. فقد تولى رئيس مجلس الامن الدولي كما تولت جهات دولية عدة، ابلاغ المسؤولين العراقيين ان "الضربة العسكرية آتية" قبل العشرين من هذا الشهر اذا لم يتراجع صدام حسين عن الخطوات والاجراءات المختلفة التي اتخذها في الايام القليلة الماضية والتي تشكل انتهاكاً لقرارات مجلس الامن الدولي المتعلقة بالعراق وتحدياً لدول التحالف. لكن صدام حسين لم يتراجع بل صعّد من اجراءاته. والواقع ان "أزمة الصواريخ" وما رافقها من حوادث على الحدود العراقية - الكويتية وتوتر بين بغدادوالاممالمتحدة تشكل بداية عملية يقودها صدام حسين تحت شعار: "تحريك الأزمات لفتح باب الحوار". ويحاول صدام حسين من خلال ذلك تحقيق 3 أهداف كبرى: فتح ثغرة في الجدار الهائل الذي يطوق العراق ويفرض عليه وعلى نظامه عزلة عربية ودولية وعقوبات متعددة. شنّ نوع من "حرب الاستنزاف" ضد المنطقتين الآمنتين المحميتين دولياً في جنوبالعراق وشماله، لاضعاف الالتزام الدولي تجاه المنطقتين وإنهائه مما يتيح للنظام استعادة سيادته الكاملة على أراضيه وذلك للمرة الأولى منذ وقف حرب الخليج في شباط فبراير 1991. السعي الى فتح حوار مع ادارة الرئيس الاميركي الجديد بيل كلينتون على أمل تحقيق ما فشل في تحقيقه مع الرئيس بوش. قد تبدو هذه الاهداف صعبة بل مستحيلة المنال في الظروف والأوضاع الاقليمية والدولية الراهنة. بل قد تبدو، للوهلة الأولى، من الأمور المبالغ فيها بالنسبة الى الذين يعتبرون ان "أزمة الصواريخ" وما تبعها هي مجرد "مناوشات عابرة" بين صدام حسين من جهة ودول التحالف الثلاث، الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا والأممالمتحدة من جهة اخرى. ومع ان هذه الاهداف صعبة، بل مستحيلة التحقيق في الظروف الراهنة، الا ان ذلك لا يمنع صدام حسين من السعي اليها. فالرجل اثبت، خلال تعاطيه مع ازمة احتلال الكويت ونتائجها، انه يتعامل مع الاحداث والمعطيات الاقليمية والدولية بمزيج من العناد والنظرة الخاصة غير الواقعية الى الامور، وهي نظرة قائمة على أساس ان رغباته وطموحاته "حقائق قائمة"... وهي "حقائق" لا يراها أحد سواه، لأن لا وجود فعلياً لها. وما يدعم صدام حسين في مساره هذا انه قادر، بواسطة أجهزته المختلفة، على الاستمرار في الحكم، ولو اخطأ مجدداً في حساباته، كما أخطأ في السابق، مهما تكن مشاعر وظروف ومعاناة الشعب العراقي. فصدام حسين أشبه بلاعب يراهن بأموال وأوراق غيره: اذا خسر يدفع الآخرون الثمن، وإذا ربح يقبض هو وحده الثمن. هكذا كان الحال بعد هزيمته الكبرى في مواجهة دول التحالف: فهو بقي في الحكم ودفع الشعب العراقي - ولا يزال يدفع - وكذلك المنطقة العربية عموماً ثمن المغامرة التي قام بها صدام في الكويت. "أزمة الصواريخ" بدأت في الاسبوع الأول من هذا الشهر حين أقام العراقيون بطاريات صواريخ "سام - 2" و"سام - 3" مضادة للطائرات قرب المنطقة المحظورة على طيرانه في جنوب البلاد، مما يشكل تهديداً لطائرات دول التحالف التي تحمي هذه المنطقة منذ انشائها في آب اغسطس الماضي. ويوم 6 كانون الثاني يناير الجاري وجهت الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا وروسيا انذاراً رسمياً الى العراق تطالبه بسحب بطاريات الصواريخ خلال مهلة 48 ساعة، وإلا فانه سيعرّض نفسه "لعواقب وخيمة". لكن قبل انتهاء مهلة الانذار اعلنت الادارة الاميركية رسمياً - استناداً الى الصور والمعلومات التي التقطتها وجمعتها الاقمار الصناعية وأجهزة التجسس الاميركية - ان "العراقيين نقلوا صواريخهم الى مناطق اخرى وان هذه الصواريخ لم تعد تشكل تهديداً" لطيران التحالف الذي يواصل طلعاته فوق المنطقة المحظورة في الجنوب. ورافق "أزمة الصواريخ" او تبعها، رفض النظام العراقي السماح لخبراء الاممالمتحدة، المكلفين ازالة اسلحة الدمار الشامل، استخدام طائرات غير عراقية للتوجه الى العراق او مغادرته، وقيام قوة عسكرية عراقية بعبور الحدود مع الكويت قرب مدينة ام قصر يوم 10 كانون الثاني يناير الجاري والاستيلاء على محتويات ستة مخابئ للأسلحة من مخلفات الجيش العراقي تشمل صواريخ أرض - أرض صينية الصنع من نوع "سيلكوورم". وقامت القوة العسكرية العراقية بهذه العملية على رغم احتجاج مراقبي الأممالمتحدة المرابطين على الحدود العراقية - الكويتية. ثغرة في الجدار الهائل قدم المحللون تفسيرات عدة للأسباب التي دفعت صدام حسين الى اثارة "ازمة الصواريخ" وما تبعها، منها انه يريد دعم مركزه ونفوذه داخل بلاده من خلال تحديه الدول الكبرى، ومنها أنه يريد ان يثبت للجميع وجوده، ومنها أنه يريد اسقاط طائرات لدول التحالف رداً على قيام الطائرات الحربية الاميركية باسقاط طائرة عراقية من نوع ميغ يوم 27 كانون الأول ديسمبر الماضي بعد دخولها الى منطقة الحظر الجوي في الجنوب، ومنها انه يريد ان يمتحن مدى صلابة التحالف الدولي ضده، ومنها انه يريد الدخول في "مبارزة أخيرة" مع خصمه الرئيس بوش، ومنها انه يريد ان "يختبر" الرئيس الجديد كلينتون قبل تسلمه مهامه رسمياً في العشرين من هذا الشهر. بعض هذه التفسيرات سطحي أو جزئي والبعض الآخر غير صحيح. وفي اعتقادنا ان "أزمة الصواريخ" وما تبعها هي الخطوة الأولى في عملية مثلثة الاهداف يقودها صدام حسين. الهدف الأول هو محاولة فتح ثغرة في الجدار الهائل الذي يطوق العراق ويفرض عليه عزلة عربية ودولية وعقوبات عدة. هذا الجدار يتألف من 3 "طبقات" اذا جاز التعبير: الأولى، قرارات مجلس الامن التي تضع العراق، عملياً، تحت الوصاية الدولية منذ انتهاء حرب الخليج الثانية وتفرض عليه مجموعة عقوبات لم يسبق ان واجهتها أية دولة عربية، اذ ان أية دولة عربية لم تفعل ما فعله صدام في الكويت. وهذه القرارات تعطي شرعية دولية لازالة اسلحة الدمار الشامل في العراق وتقليص قدرات هذا البلد العسكرية الى أدنى حد ممكن، وتفرض على نظام بغداد دفع تعويضات هائلة تقدر بعشرات المليارات البلايين من الدولارات الى الكويتيين والمتضررين من احتلال الكويت ونتائجه، كما ان هذه القرارات تفرض رسم حدود برية وبحرية مضمونة دولياً بين العراقوالكويت، وتمنع النظام العراقي من التصرف، كما يشاء، بأفراد شعبه، كما كان يفعل في السابق. الثانية، العزلة العربية التي يعاني منها نظام صدام. فلم يكسب هذا النظام، منذ انتهاء الحرب، أي صديق جديد، بل ان "أصدقاء" النظام العراقي العرب السابقين يحاولون الابتعاد عنه - بصورة غير معلنة - وفتح جسور حوار وتقارب مع الدول الأخرى ادراكاً منهم ان لا مجال لمصالحة عربية شاملة ما لم يسقط نظام صدام. الثالثة، العزلة الدولية التي يعاني منها النظام العراقي وتصميم الدول الكبرى والمؤثرة على عدم تطبيع العلاقات مع بغداد إلا بعد سقوط نظام صدام. يواجه صدام حسين هذا الجدار ويحاول فتح ثغرة فيه معتمداً السياسة الآتية: 1 - إثبات وجوده وقدرته على ان يشغل العالم والدول الكبرى ويتحداها، ولو اضطر الى التراجع في اللحظة الأخيرة. وقد أراد صدام من وراء "أزمة الصواريخ" ان يظهر للعالم انه لا يزال قادراً على "إثارة القلق". وهو سيواصل اثارة الازمات المختلفة مراهناً على ان مثل هذه السياسة ستدفع الدول الكبرى، او بعضها، الى "مهادنته" او فتح حوار معه، على أساس ان المواجهة مع العراق لم تحل "المشكلة". ولم تكن صدفة ان يصدر مجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية لحزب البعث في العراق، بعد "أزمة الصواريخ" وإثر اجتماع برئاسة صدام، بياناً يوم 10 كانون الثاني يناير الجاري يؤكد "استعداد العراق للحوار من أجل تحقيق السلام بعيداً عن التهديد والوعيد". 2 - السعي الى استغلال القلق العربي والدولي من إيران ودورها المتنامي، سياسياً وعسكرياً وأمنياً، ومن طموحات النظام الايراني لفرض وجوده وهيمنته على بعض اجزاء المنطقة العربية، ومن محاولات هذا النظام زعزعة الاستقرار في دول عربية، كمصر والجزائر وتونس. 3 - السعي الى اقناع عدد من الدول الاجنبية - عن طريق اتصالات سرية جارية معها - بضرورة الغاء او تخفيف العقوبات الدولية المفروضة على العراق على اساس انه تم القضاء على 90 في المئة من أسلحة الدمار الشامل في هذا البلد، وفقاً لما أكده رسمياً رولف ايكوس رئيس اللجنة الخاصة التابعة للأمم المتحدة والمكلفة ازالة هذه الأسلحة. حتى الآن لم يتمكن صدام حسين من احداث اية ثغرة في الجدار. لكن هذا لن يدفعه الى التراجع بل سيزيد من تصميمه على التحرك، في مجالات عدة، لمحاولة فتح الثغرة. "حرب" استعادة السيادة الهدف الثاني الذي يسعى صدام الى تحقيقه هو شن نوع من "حرب الاستنزاف" ضد المنطقتين الآمنتين المحميتين دولياً في جنوبالعراق وشماله، لاضعاف الالتزام الدولي تجاههما، مما يمكّن النظام من استعادة سيادته على هذه الأراضي. فالنظام العراقي يعتبر، وهذا ما تم ابلاغه الى دول عدة، ان "لا شرعية دولية" لانشاء المنطقتين الآمنتين في الشمال والجنوب، وان الحكومة العراقية لا تعترف بهما "لأنهما نتيجة اجراءات من جانب بعض الدول الغربية لا مجلس الامن". ولا بد من التوقف عند هذه المسألة. صحيح ان مجلس الامن الدولي لم يصدر قراراً محدداً يدعو صراحة الى انشاء هاتين المنطقتين، الا ان انشاء المنطقتين الآمنتين في شمال العراقوجنوبه يستمد شرعيته من قرار مجلس الامن الرقم 688. هذا القرار صدر في نيسان ابريل 1991 وهو يدين قمع المواطنين العراقيين في انحاء عدة من البلاد ويطالب النظام بوقف عمليات القمع فوراً وضمان احترام الحقوق السياسية والانسانية للمواطنين العراقيين. وقد اعتبرت دول التحالف الثلاث اميركا وفرنسا وبريطانيا ان القرار 688 يسمح، ضمناً، باستخدام القوة العسكرية ضد العراق اذا ما خالف النظام مضمونه، من جهة لأن القرار 688 مرتبط بقرارات مجلس الامن الاخرى المتعلقة بالعراق وبشروط وقف اطلاق النار، ومن جهة ثانية لأن القرار 688 نفسه يحذر من انعكاس ما يجري في العراق على الأمن والسلام العالميين مما يبرر استخدام القوة. كما اعتبرت هذه الدول ان "حماية المواطنين العراقيين من الاضطهاد وعمليات القمع" تشكل "حقاً انسانياً دولياًَ" يبرر استخدام القوة للدفاع عنه. ورأت دول التحالف الثلاث ان مخالفة صدام للقرار 688 ومواصلته عمليات القمع ضد مواطنيه تشكل خرقاً وانتهاكاً لشروط وقف اطلاق النار. واعتبرت هذه الدول، انطلاقاً من ذلك، ان لا حاجة لاصدار قرار جديد عن مجلس الامن لتأمين الحماية الدولية لشمال العراقوجنوبه ولاستخدام القوة العسكرية مجدداً ضد صدام ونظامه. وفي ضوء القرار 688 تم انشاء "منطقة آمنة" محمية دولياً في شمال العراق بعد انتهاء حرب الخليج الثانية، و"منطقة آمنة" محمية دولياً في جنوبالعراق في آب اغسطس الماضي. وتم ابلاغ القيادة العراقية في آب اغسطس الماضي ان عليها التوقف عن ارسال طائراتها ومروحياتها الى جنوب خط العرض 32 ووضع حد لعمليات "القمع والابادة" ضد اهالي الجنوب. ومنذ ذلك الحين اصبحت منطقة الجنوبالعراقي خاضعة لمراقبة دائمة من دول التحالف الثلاث في الوقت الذي تتولى طائرات حربية اميركية وبريطانية وفرنسية حماية عملية المراقبة هذه واسقاط أية طائرة عراقية تحلق في المنطقة المحظورة ومهاجمة أية صواريخ أو أهداف عسكرية عراقية تهدد طائرات الحلفاء. والواقع ان انشاء هاتين المنطقتين أدى الى تقليص سلطة ونفوذ نظام صدام على الأراضي العراقية، اذ ان مساحتهما التي تشكل اكثر من 60 في المئة من مساحة الأراضي العراقية لا تخضع، فعلياً، لسلطة نظام بغداد بل تقع تحت حماية الحلفاء. وهذه هي المرة الأولى التي يتقلص فيها نفوذ النظام العراقي على اراضيه بهذا الشكل منذ استقلال هذا البلد، مما يشكل تحدياً لصدام و"اذلالاً" له، وتحذيراً من ان العراق يمكن ان يكون مهدداً بالتقسيم اذا استمر النظام الحالي، وانه كلما طال عمر هذا النظام كلما ازداد الخطر على وحدة العراق وسلامة اراضيه. وسيحاول صدام حسين القيام بعمليات وتحركات وإجراءات متنوعة، في المرحلة المقبلة، لمحاولة استعادة السيادة على هاتين المنطقتين عن طريق اضعاف الالتزام الدولي بحمايتهما الى أقصى حد. وعلى رغم ان هذا الهدف يبدو مستحيل التحقيق، في ضوء المعطيات الراهنة، الا ان ذلك لن يثني صدام ولن يضع حداً لمساعيه. يد ممدودة نحو كلينتون الهدف الثالث الذي يسعى صدام الى تحقيقه هو فتح حوار مع ادارة الرئيس الجديد كلينتون. وقد تبدو "أزمة الصواريخ"، بما تشكله من تحد، متناقضة مع الرغبة في الحوار، لكن صدام حسين هو من الذين يؤمنون بأن الازمات هي التي تفتح، احياناً كثيرة، أبواب الحوار. وحرص صدام حسين على عقد "صفقة كبرى" مع الولاياتالمتحدة ليس جديداً. فقد أخذ يعمل في هذا الاتجاه، جدياً، بعد توقف الحرب العراقية - الايرانية عام 1988. وما شجعه في توجهه هذا وجود رغبة لدى ادارة بوش لتطوير العلاقات مع العراق في ذلك الحين. لكن صدام حسين اخطأ في تحليل وتقييم سياسة الانفتاح والتقارب الاميركية تجاهه. فالواضح من مضمون مجموعة وثائق اميركية رسمية سرية حصلت عليها "الوسط" ونشرتها في عددها الرقم 37 الصادر يوم 12 تشرين الأول اكتوبر الماضي، ان ادارة بوش لم تكن تريد، من خلال تقاربها مع العراق، عقد صفقة مع صدام على حساب دول اخرى في المنطقة، ولم تكن تريد "تشجيع" صدام على السيطرة على الخليج، أو فرض مطالبه بالقوة على الدول الأخرى، ولم تكن تريد تغيير موازين القوى في الشرق الأوسط لمصلحة العراق، بل ان ما سعت اليه ادارة بوش من خلال سياسة الانفتاح والتقارب هذه هو احداث تغيير اساسي وتدريجي في سياسة العراق، داخلياً وخارجياً، بحيث يصبح هذا البلد عنصراً من عناصر الاستقرار في المنطقة ويتبع خطاً معتدلاً في تعامله مع الدول الاخرى. غير ان صدام حسين أخطأ اذ اعتبر انه يستطيع "استغلال" سياسة الانفتاح الاميركي هذه لفرض سيطرته على منطقة الخليج، واعتبر ان العراق "يستطيع ان يضمن مصالح الاميركيين" اذا "تفهمت" واشنطن تصرفات العراق. بل ذهب صدام الى حد القول لوزير خارجية دولة اوروبية بارزة: "العراق لديه كل المؤهلات لأن يكون قوة رئيسية في الشرق الأوسط، بعدما انتهى الاتحاد السوفياتي، وهو مستعد للتعامل مع الولاياتالمتحدة على هذا الأساس". واعتبر صدام ان الكويت "ليست خطاً احمر بل هي خط برتقالي" بالنسبة الى الولاياتالمتحدة، وبالتالي فلن تدافع عنها بالقوة. وعلى أساس هذاالتحليل الخاطئ للسياسة الاميركية قام صدام بغزو الكويت. واليوم يطمح صدام الى فتح حوار مع ادارة كلينتون، ويسعى الى ذلك علناً وبصورة سرية. فوفقاً للمعلومات التي حصلت عليها "الوسط" من مصادر اميركية مسؤولة، فان طارق عزيز نائب رئيس الوزراء العراقي حاول، خلال زيارته لنيويورك في الأسبوع الاخير من تشرين الثاني نوفمبر الماضي، اجراء اتصالات مع بعض مستشاري الرئيس الجديد كلينتون والمقربين منه للاجتماع بهم، لكن هذه المحاولات باءت بالفشل. وبدوره حاول نزار حمدون سفير العراق لدى الأممالمتحدة، اقامة حوار او علاقات مع بعض مستشاري كلينتون قبل انتخابات الرئاسة الاميركية وبعدها، لكن هذه المحاولات فشلت أيضاً، وفقاً لما تؤكده المصادر الأميركية المطلعة. واللافت للانتباه في هذا المجال ان الوثائق الاميركية السرية التي نشرتها "الوسط" في عددها الرقم 37 ذكرت ان 3 أشخاص مكلفون بشكل اساسي من قبل صدام بالعمل على تطوير وتحسين العلاقات مع الولاياتالمتحدة وهم: طارق عزيز ونزار حمدون وحسين كامل المجيد زوج ابنة الرئيس العراقي. وقد حرص نزار حمدون، في عز "أزمة الصواريخ" هذه، على التصريح علناً بأن العراق "يريد حواراً اميركياً - عراقياً" وان "الوقت حان لوضع الماضي وراءنا وحل الأزمات لتحقيق السلم والاستقرار في المنطقة بدلاً من النزاع والتصعيد الذي من شأنه ان يزيد من المشاكل". ووجّه دعوة الى وفد من الكونغرس الاميركي لزيارة بغداد والاطلاع على الاوضاع مباشرة "انطلاقاً من الرغبة في تحسين العلاقات مع الولاياتالمتحدة". بل ان صدام حسين نفسه عبّر عن رغبته في فتح حوار مع ادارة كلينتون في مقابلة مع صحيفة "ميلييت" التركية أجريت نهاية الشهر الماضي. ويبدو، وفقاً لمعلومات مصادر عربية وأميركية مطلعة على تطورات هذه المسألة، ان صدام حسين يراهن على ثلاثة امور يعتقد ان من شأنها ان تفتح باب الحوار مع الادارة الاميركية الجديدة وهي: 1 - رغبة كلينتون في بدء "عهد جديد" مختلف عن عهد بوش من حيث اعطاء الاولوية القصوى للاهتمام بالمشاكل الداخلية، الاقتصادية والاجتماعية، وإيجاد حلول لها، وعدم الانشغال بأزمات عسكرية خارجية. 2 - رغبة كلينتون في إحياء عملية السلام لحل النزاع العربي - الاسرائيلي وتحريكها وتجاوز او حل مشكلة المبعدين الفلسطينيين. وهذا يتطلب، في نظر صدام، عدم اثارة ازمات مسلحة وحدوث مواجهات كبرى في الشرق الأوسط تتورط فيها الولاياتالمتحدة. 3 - شخصية وزير الخارجية الاميركي الجديد وارن كريستوفر الذي يؤمن بالتفاوض والمساومة اكثر مما يؤمن بالمواجهات واستخدام القوة العسكرية. ووفقاً للمعطيات الراهنة، يبدو صدام حسين مخطئاً في حساباته مرة اخرى. ففتح الحوار مع العراق ليست له أية شعبية في الولاياتالمتحدة، كما اظهر الاستطلاع الشامل الذي اجرته "الوسط" في الولاياتالمتحدة ونشرته في عددها الماضي ويتبين منه ان اكثر من 90 في المئة من الأميركيين يعتبرون نظام صدام خطراً على السلام والاستقرار في الشرق الأوسط. وبغض النظر عن تصريحات كلينتون العلنية والمكررة والتي جاء فيها انه ينوي مواصلة السياسة الأميركية الحازمة نفسها تجاه العراق والزام صدام بتنفيذ كل قرارات مجلس الامن، فان الرئيس الجديد ليست له أية مصلحة في اعادة الاعتبار الى نظام صدام وتقويته، اذ ان ذلك سيلقى معارضة قوية من الرأي العام الأميركي كما انه سيثير بلبلة ومشاكل ويفتح الباب مجدداً لاحتمال قيام العراق بمحاولات جديدة لتغيير موازين القوى، لصالحه، في المنطقة. وبامكان الولاياتالمتحدة والدول الاخرى مواجهة أية اخطار يمكن ان تهدد الخليج، بما في ذلك الخطر الايراني، بشكل افضل اذا ما بقي نظام صدام مطوقاً ومحاصراً. ضرب بلا انذار في مواجهة مساعي وخطط صدام حسين هذه، اعتمدت دول التحالف الثلاث استراتيجية جديدة يمكن تسميتها "استراتيجية ضرب العراق بلا انذار مسبق" ونفذت المرحلة الاولى منها مساء الاربعاء 13 كانون الثاني يناير الجاري حين شنت 112 طائرة اميركية وبريطانية وفرنسية غارة على اهداف عسكرية مختلفة في جنوبالعراق. وشملت الغارة ضرب وتدمير مواقع صواريخ أرض - جو مع شبكات الرادار الخاصة بها ومواقع رادارات الانذار المتقدمة والدفاعات الجوية والحقت "اضراراً فادحة" فيها، على حد قول المصادر الرسمية البريطانية. في الوقت نفسه طلبت دول التحالف الثلاث من الاممالمتحدة تعزيز بعثة المراقبة الدولية عند الحدود العراقية - الكويتية لمنع العراقيين من التسلل الى الكويت، كما قررت الولاياتالمتحدة ارسال كتيبة من 1100 جندي الى الكويت "لتنفيذ أي عمل تقتضيه الضرورة". وتم ابلاغ العراق رسمياً انه سيتحمل "المسؤولية كاملة" اذا لم ينفذ كل قرارات مجلس الامن المتعلقة به. لكن كان لافتاً للانتباه ان تنشر صحيفة "النيويورك تايمس" صباح 14 الشهر الجاري مقابلة مع كلينتون حدّد فيها الرئيس الاميركي الجديد، للمرة الاولى بشكل مفصل، السياسة التي ينوي اتباعها تجاه صدام حسين. فقد أكد كلينتون، قبل كل شيء، انه لا يستبعد استئناف الحرب البرية ضد العراق اذا دعت الضرورة لارغام نظام بغداد على الالتزام بقرارات مجلس الامن المتعلقة به. وأكد ان الولاياتالمتحدة مصممة على تنفيذ قرارات مجلس الامن هذه. واعترف "بان شعب العراق سيكون في حالة أفضل كثيراً لو كان لديه حاكم آخر" غير صدام حسين. لكن في مقابل ذلك ترك كلينتون الباب مفتوحاً لعدد من الاحتمالات، اذ قال انه سيحكم على الرئيس العراقي "من خلال أفعاله"، وأضاف انه اذا اراد صدام حسين اقامة "علاقة مختلفة مع الولاياتالمتحدةوالاممالمتحدة فكل ما عليه هو أن يغير سلوكه" اي ان ينفذ قرارات مجلس الامن، اذ شدد كلينتون على ان ادارته "لن تسمح للجهود التي قامت بها الاممالمتحدة - في ما يتعلق بالعراق - بأن تتبدد وتتحلل لان الولاياتالمتحدة تفتقر الى قوة العزيمة". من الخطأ الانطلاق من هذا الكلام للقول ان كلينتون يريد "ملاقاة صدام في منتصف الطريق". الواقع ان العقبة الاساسية الكبرى تبقى قرارات مجلس الامن التي يريد صدام التملص من تنفيذها وعقد "صفقة ما" مع الولاياتالمتحدة ودول اخرى "لتجاوزها"، اذ ان هذه القرارات تضعف نظامه، وتقضي على اي دور يطمح الى لعبه في المنطقة، وتضع العراق، ولفترة طويلة، تحت الوصاىة والرقابة الدولية. * * * هذا كله يعني ان 1993 سيكون عام الصدام بين استراتيجية الرئيس العراقي "تحريك الازمات لفتح باب الحوار" واستراتيجية دول التحالف "ضرب العراق بلا انذار مسبق" لتنفيذ قرارات مجلس الامن. ولا بد ان ترافق هذا الصدام تطورات مثيرة على الجبهة العراقية وما يرتبط بها.