«هيئة الإحصاء»: معدل التضخم في السعودية يصل إلى 1.9% في أكتوبر 2024    البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت    الذهب يتراجع لأدنى مستوى في 8 أسابيع وسط ارتفاع الدولار    اختتام مؤتمر شبكة الروابط العائلية للهلال الأحمر بالشرق الأدنى والأوسط    الوداد تتوج بذهبية وبرونزية في جوائز تجربة العميل السعودية لعام 2024م    وزير الخارجية يصل لباريس للمشاركة في اجتماع تطوير مشروع العلا    صندوق الاستثمارات العامة يعلن إتمام بيع 100 مليون سهم في stc    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    "محمد الحبيب العقارية" تدخل موسوعة جينيس بأكبر صبَّةٍ خرسانيةٍ في العالم    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    ماجد الجبيلي يحتفل بزفافه في أجواء مبهجة وحضور مميز من الأهل والأصدقاء    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    رقمنة الثقافة    الوطن    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    عصابات النسَّابة    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    استعادة التنوع الأحيائي    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    المنتخب يخسر الفرج    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    بوبوفيتش يحذر من «الأخضر»    أجواء شتوية    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    الذاكرة.. وحاسة الشم    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



توم ايبركرومبي اعتنق الاسلام وجال في بلدانه رحالة العصر الحديث اميركي اقتفى آثار ابن بطوطة وكتب عنها
نشر في الحياة يوم 11 - 01 - 1993

في العدد 30 نشرت "الوسط" ص48 الى 54 تحقيقاً مطولاً عن الرحالة المغربي ابن بطوطة ومغامراته المثيرة، مما يقارنه البعض برحلات ماركو بولو وكريستوف كولمبس في الزمن القديم.
في هذا العدد، تكشف "الوسط" ابن بطوطة جديداً، هو الكاتب الاميركي توماس ايبركرومبي الذي يقوم برحلات مثيرة ويكتب عنها، وآخر جولاته كانت تلك التي قام بها ابن بطوطة قبل 666 سنة.
عن تاريخ ابن بطوطة 1304 - 1368 انه جال في 44 بلداً طوال 29 سنة. وعن نشاط توماس ايبركرومبي انه جال في 25 بلداً اسلامياً من المغرب الى كازاخستان في سنة واحدة كي يكتب موضوعاً واحداً: "السيف والموعظة" لعدد تموز/يوليو 1972 من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" التي يشغل فيها منصب "كبير المحررين". ومتى علمنا ان "ناشيونال جيوغرافيك" مجلة اميركية شهرية "متواضعة" تأسست عام 1890 ويبلغ عدد مشتركيها 11 مليوناً، وقراؤها في المكتبات العامة ومشترو اعدادها متفرقة من المكتبات واكشاك الصحف والمجلات ما يضاعف هذا العدد، ويحصى جهازها البشري في واشنطن بنحو 3280 عنصراً، ندرك ماذا يعني ان يكون توم ايبركرومبي "كبير محرري" هذه المجلة.
واذا كان ابن بطوطة قام في حياته بثلاث رحلات رئيسية ليضع كتاباً واحداً، فان توم ايبركرومبي قام باضعاف هذا العدد ليضع بالقلم، واحياناً بالكاميرا ايضاً، مقالات هي اليوم مراجع تاريخية جغرافية ووثائقية لكل من يكتب عن اي بلد زاره هذا الرحالة الاميركي الذي كرس حياته الصحافية للاكتشافات المثيرة والرحلات "الاكزوتيكية" والكتابة عنها بأسلوب لافت خاص ومميز. وبين انجازات عدة يعتز اليوم بها، غير الكتابة، ان الحكومة اليمنية اختارت ستة مشاهد من صوره الفوتوغرافية عن اليمن، واصدرتها على ست قطع من عملتها الوطنية.
البداية
كان ابن بطوطة في الثانية والعشرين 1326 حين "اتم علومه المستقرة وسعى الى الاستزادة من العلوم المتحركة" فابتدأ رحلاته التي انتهت عام 1354 وانتهى من املائها على ابن ُجزيّ عام 1357. وكذا توم ايبركرومبي وعى في اواسط عشريناته الاسلام، فاعتنقه ديناً ولغة وثقافة، وابتدأ عام 1956 رحلاته التي لم تنته بعد. وهو اليوم في الثانية والستين، نشاطه مطرد الحيوية، يتمتع بصفاء الذاكرة والذهن، وموهبة الكتابة عن رحلاته في اسلوب اخاذ يجمع الرشاقة الصحافية الى المتانة الادبية الى المعلومة العلمية، ويوثق مواضيعه دائماً بصور فوتوغرافية من رفيقه شبه الدائم في معظم رحلاته: جيمس ستانفيلد منها منشورة في هذا التحقيق مع سواها المأخوذة باذن خاص ل "الوسط" من ادارة "ناشيونال جيوغرافيك" في واشنطن.
خمس وثلاثون سنة وهو يجول بالقلم والكاميرا على "مغاور الزمرد والياقوت" في بلدان الغربة والغرابة. لفّ الكرة الارضية حول قلمه ولف قلمه حول بوصلة المغامرة. ولم يتعب. في كل مغامرة جديدة إثارة جديدة واكتشاف جديد: عودة بحصيلة كتابية، و"تذكارات" صغيرة الحجم كبيرة القيمة يحملها معه من اسفاره السندبادية العصرية، يحفظها في مكتبه الواشنطني الانيق بقية مومياء فرعونية قديمة حملها من مصر، قذيفة فارغة لمدفع 155 حصلها من جنوب لبنان،... لان بيته حي ريفر رود في مدينة باوي يطل على خليج شيسابيك في ولاية ميريلاند، وهو معرض للرطوبة التي تتلف الموجودات الثمينة.
ومع انه في خمس وثلاثين سنة جال على معظم خطوط الطول والعرض، فهو في الثلاثين سنة الاخيرة تخصص في رحلاته الى البلدان الاسلامية هو الذي يتقن العربية بفضل اسلامه ومختلف بلدان الشرق الاوسط حتى بات بها خبيراً ومحاضراً ومرجع ثقة. وها مقالاته في "ناشيونال جيوغرافيك" تستقر في المكتبات والمصادر: "الجزائر: العيش في رحاب الاستقلال" ايلول/سبتمبر 1968، "خلف حجاب اليمن المضطرب" آذار -مارس 1964،"المغرب: أرض المغرب الأقصى" حزيران - يونيو 1971، "العربية السعودية: أبعد من رمال مكة" كانون الثاني/يناير 1966"، "لبنان التاريخ يعيش اليوم على التجارة" نيسان/ابريل 1958، "مصر: التغيير يدخل على الارض التي لا تتغير" آذار/مارس 1977، "عُمان حارس الخليج" ايلول/سبتمبر 1981، "البحرين: صرة الخليج العربي" ايلول/سبتمبر 1979، "الاردن: مملكة في الوسط" شباط/فبراير 1984، "لُبان الوعر في الجزيرة العربية" تشرين الاول/اكتوبر 1985، "حين كان العرب يحكمون اسبانيا" تموز/يوليو 1988.
أحدث مؤلفاته
على ان احدث ما كتبه توم ايبركرومبي واثار اصداء ايجابية عديدة آخرها في العدد 255 من "المجال" الشهرية التي تصدرها في واشنطن "وكالة الاعلام الاميركية" كان مقاله "ابن بطوطة: امير الرحالين" الذي تصدر غلاف العدد السادس المجلد 180 من مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" وامتد على تسع واربعين صفحة ص2 الى 499 زخرت بنص توم وصور جيمس ولوحات جميلة عن رحلة ابن بطوطة من وحي المقال بريشة بيرت سيلفرمان.
يضحك توم، تتهدج لحيته الشيباء المحيطة بوجهه المدور، يعلق في سخرية جادة:
- لو كان ابن بطوطة يعيش على ايامنا لكانت ال "ناشيونال جيوغرافيك" تلقفته حتماً ونشرت له نصوص رحلاته.
ولكن، خلف الضحكة الساخرة، يتجلى تقدير توم لرحلات ابن بطوطة ووعيه اهمية ان تنشر نصوص رحلاته احدى اوسع المجلات انتشاراً في العالم.
من اجل ذلك، وكي لا تفوت الفرصة على قراء اليوم، ولا نفوت المقارنة على الاختصاصيين وعشاق الرحلات، وكي يظهر الفرق في الجغرافيا بين القرن الثالث عشر واليوم وفي التاريخ بين حكام تلك الحقبة وحكام اليوم حزم توم حقائبه ليقطع ال 75 الف ميل التي قبل 666 سنة قطعها ابن بطوطة في 29 سنة اي ثلاثة اضعاف المسافة التي قطعها ماركو بولو في القرن الثالث عشر الى امبراطورية المغول وعاد الى البندقية عام 9531 مدوناً مشاهدات اعتبرها الغرب فترتئذٍ افضل مرجع له عن بلاد الشرق.
وكانت مغامرة توم: مطالعات بالفرنسية والانكليزية لمدة سنة حول ابن بطوطة والعالم الاسلامي امس واليوم، بما يفوق 160 كتاباً، ومراجعة نحو 200 خريطة والتدقيق بها، ثم القيام بأربع رحلات متتالية، واحدتها من نحو 15 اسبوعاً، فعودة الى واشنطن واستغراق في الكتابة نحو سنة، حتى خرج هذا المقال الذي بات اليوم مرجعاً اول في الكلام على رحلة "ابي عبدالله محمد بن عبدالله بن محمد بن ابراهيم اللواتي ثم الطنجي المعروف بابن بطوطة" والتي تبدأ بقوله: "كان خروجي من طنجة مسقط رأسي يوم الخميس الثاني من شهر الله رجب الفرد عام خمسة وعشرين وسبعماية 13 حزيران/يونيو 1325 معتمداً حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول عليه افضل الصلاة والسلام" وتنتهي بعودته عام 1354 الى فاس بطلب من واليها المغربي، وتفرغه لاستذكار وقائع رحلته واملائها على ابن جزي الذي ختم الكتاب هكذا: "انتهى ما لخصته من تقييد الشيخ ابن عبدالله محمد ابن بطوطة، اكرمه الله. ولا يخفى عن كل ذي عقل ان هذا الشيخ هو رحال العصر، ومن قال رحال هذه الملة، لم يبعد ولم يجعل بلاد الدنيا للرحلة. وكان الفراغ من كتابتها عام سبعة وخمسين وسبعماية".
وفي حين ان ابن جزي نفسه اعطى سيده "الشيخ الفقيه، الناسك الأبر" لقب "رحال العصر"، ها هو توم ايبركرومبي يلقبه "أمير الرحالين" مبرراً ذلك بانه "كان دائماً يسافر بصورة مرفهة، فتنفتح امامه القصور ويلقى الحفاوة والتكريم. لم يخلع طوال رحلته عباءة رجل الدين، فاستقبله الحكام والامراء والولاة محتفين به فقيهاً لامعاً، وشيخاً متديناً، وقاضياً نزيهاً، وعالماً طلعة".
مصداقية ابن بطوطة
ثمة مؤرخون ودارسون وباحثون شككوا لاحقاً في صحة ما اورده ابن بطوطة في كتابه "تحفة النظّار في غرائب الامصار وعجائب الاسفار" الذي بقيت مخطوطته محفوظة في المكتبة الوطنية في باريس نحو ستة قرون قبل ان يتم تحقيقها ونشرها وترجمتها الى لغات عالمية. توم ايبركرومبي اعتمد الترجمة الفرنسية لانها دقيقة ومفصلة، وبرحلته اليوم حسم ذينك الجدل والتشكيك، واثبت مصداقية ما وصفه ابن بطوطة، وحزم جازماً ان "المناطق التي زارها ابن بطوطة لا تزال على ما هي اليوم، مع تغيير لحق بعض المدن بصورة خاصة، ومع ملاحظة ان البلاد الوحيدة التي عرفت تغييراً شبه جذري بين ايام ابن بطوطة واليوم هي الصين".
ولكي يكون ايبركرومبي دقيقاً مع قارئه، ويشركه مثلما كان يفعل ابن بطوطة في تفاصيل تنقلاته، استعان بكتب وادلة سياحية من المكتبات المتخصصة، حتى يستدل تماماً على المعالم العصرية للاماكن القديمة التي وطئها ابن بطوطة في المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر والسودان والصومال وتانزانيا وعدن واليمن والحجاز والجزيرة العربية وسورية ولبنان وفلسطين وبلاد فارس وتركيا والقسطنطينية والهند والبنغال والبحر الاسود وشبه الجزيرة الهندية وسيلان سيرلانكا وسومطرة وفلوات الصين الهائلة الاتساع والاندلس فالعودة الى فاس المغربية.
وفي حين اعتمد ابن بطوطة النقل البري، كان على توم ان يعتمد الجو والبحر والبر، ف "احياناً لم يكن امامي سوى وسيلة ابن بطوطة نفسه: الجمل، لانني توغلت الى اماكن نائية بعيدة كل البعد عن المناطق المدنية، كأنها تعيش خارج هذا العصر".
دون ايبركرومبي مشاهداته، فالتقت اجزاء منها مع ما دونه ابن بطوطة، واختلفت اخرى عما قال، لان القرون المتعاقبة ادخلت عليها الكثير من التغييرات. لذلك استهل بالقول: "قبل كريستوف كولومبس بنحو قرنين، انطلق مغربي شاب صوب مكة، ليعود بعد ثلاثة عقود واحداً من اكبر الرحالين في التاريخ. كان يحفزه الفضول ويحرزه القرآن، فبلغ اربعة اقطار العالم الاسلامي، من شمالي افريقيا الى الصين متبعاً طريق القوافل بين الوعر والمأهول".
وكذا انطلق توم ايبركرومبي، ابن بطوطة "الاميركاني"، مستهلاً جولته بالاصغاء الخاشع الى سورة الفاتحة يتلوها وسط الصحراء، ووجهه صوب مكة، الحاج ادريس داوودة، حفيد احد الائمة، وهو يرتدي عباءة "الطوارق"، فتردد فلوات الصحراء ترجيع "باسم الله الرحمن الرحيم"، وتنطلق القافلة بعدها، ب "شعور غريب يعتريني وانا اقود قافلة من 400 جمل، وليس حولي سوى افق مستدير من الاربع جهات ذكرني بليالي "الف ليلة وليلة". ومع انني انا ايضاً، وطوال ثلاثة عقود عبرت معظم الطرقات التي طافها ابن بطوطة خلال ثلاثة عقود، كنت هذه المرة اشعر برحلة من طراز آخر".
لاحظ توم في طنجة ساحة صغيرة باسم ابن بطوطة، وفندقاً في شارع ماجلان يحمل اسم ابن بطوطة، كما عرّج على مطعم ابن بطوطة ومقهى ابن بطوطة، ورأى مركبا اصفر جميلاً باسم ابن بطوطة ينقل الركاب من اسبانيا الى المغرب عبر مضيق جبل طارق 19 ميلاً. وقبل ان يغادر توم طنجة، التقى واسيني عرفات، مدير مركز طنجة الثقافي، الذي كان يهيئ معرضاً جماعياً لرسوم وضعها فنانون مغاربة لابن بطوطة من وحي مشاهداته.
الاهرام وابن بطوطة
ويلمح توم الى الارث التاريخي في طنجة التي تعاقب عليها الفينيقيون والرومان والفاندال والعرب والاسبان لاحقاً مما تناهى حتماً الى مسامع الفتى ابن بطوطة فأثار فيه رغبة الاكتشاف والمغامرة. ويرى توم انه بذاك الدافع "انطلق عابراً شمالي افريقيا 3000 ميل الى مكة مع مختلف القوافل، طوال عشرة اشهر يجتاز الجزائر وتونس وليبيا ليبلغ الاسكندرية واصفاً ميناءها ومناراتها كواحدة من عجائب الدنيا السبع". وفيها، خلال اقامته في ضيافة الشيخ ابو عبدالله المرشدي، كتب: "حلمت انني محمول على جناح طير هائل يحلق بي صوب مكة". وفي اليوم التالي فوجئ ابن بطوطة ان الشيخ علم بحلمه وتنبأ بقيامه في رحلة صوب الشرق. ويكمل ابن بطوطة الى القاهرة ايام المماليك، واصفاً سكانها بانهم "يميدون في شوارعها الضيقة كأمواج البحر، فيهم 12 الف سقاء و30 الف حمّال و36 الف مركب في عرض النيل، ومستشفى مجاني". ويأخذ توم على ابن بطوطة انه وصف الاهرام من دون ان يشاهدها، بدليل وصفه اياها "مخروطية". ويقارن توم بين "تلك" القاهرة وما شاهده هو من تجواله فيها بين ميدان التحرير وخان الخليلي وشارع المعز ومقهى الفيشاوي الذي "يعج بشيوخ ذوي جلابيات يتناقض مظهرها مع قمصان عصرية يرتديها شبان وصبايا من جامعة الازهر المجاورة".
ويكمل توم متتبعاً خطوات ابن بطوطة الذي اكمل الى صعيد مصر عابراً الصحراء الى البحر الاحمر كي يلتحق بالحجيج في مكة. ولما لم يستطع عبور البحر 200 ميل بسبب تحطم المراكب في ثورة محلية، حنق وعاد الى القاهرة ليسلك الى مكة طريق القوافل عبر دمشق، فاجتاز سيناء داخلاً فلسطين من شاطئ غزة التي وجدها "مكتظة بالسكان، عامرة بالساحات والمساجد، ولا يسيجها اي سور". اما توم فكتب: "لو عاد ابن بطوطة اليوم لما عرف غزة التي هي مهد الانتفاضة ولما استغرق مثلي ساعة كاملة لعبور الحاجز عند الجدار الذي بات يسور غزة، حيث اقام الاسرائيليون نقطة تفتيش للتدقيق في عبور الفلسطينيين منها الى اعمالهم في تل ابيب".
على خطى الرحالة الكبير
ويقتفي توم خطى ابن بطوطة الذي زار بيت لحم والقدس وجبل الزيتون وكنيسة القيامة والمسجد الاقصى "وهو على ايامه كان اكبر مسجد في العالم" ثم اكمل الى عكا وصور وبيروت التي كتب انها "مدينة صغيرة ذات اسواق راقية" فالى طرابلس فحماة التي وصفها ب "احدى اجمل مدن سورية، محاطة بالبساتين والحدائق ومزودة بالنواعير" فالى انطاكية فاللاذقية فجبال لبنان لملاقاة قوافل الحج في دمشق، ومنها الى مكة في الصحراء العربية خلال 55 يوماً بعد استراحة "في ما يسمى اليوم الكرك في الاردن".
يتوسع ابن بطوطة في الكلام على اقامته في مكة، وكذا يفعل توم. ففيما ابن بطوطة وصف اهل مكة ب "الكرم الفائض والحنوّ على الفقير واكرام الضيف، وما كان من قاضي مكة وتوزيعه كميات وفيرة من الطعام في احتفالات موسم الحج"، وصف توم ضيافة سخية لدى الملك فهد بن عبدالعزيز الذي، في موسم الحج، دعا 588 ديبلوماسياً وصحافياً الى مائدة عامرة في قصره العالي المطل على المدينة المكرمة.
ويطول الشرح وتتسع المقابلة بين رحلة ابن بطوطة قبل ستة قرون وما سلكه توم ايبركرومبي على خطاه قبل اشهر. ولكن المجال يضيق هنا لسرد الشرح ومواصلة المقارنة مع ابن بطوطة الذي اكمل بعد مكة الى بغداد فمكة مجدداً فجدة فاليمن فتانزانيا فعمان فالبحرين فالهند عبر الاناضول "لانه لم يكن يحتمل السفر بحراً" فقونية مسقط رأس جلال الدين الرومي، فاسطمبول فالقسطنطينية فآغا صوفيا ثم عبر الفولغا المتجمد الى خوارزم فبخارى فسمرقند فمشهد فنيسابور فافغانستان بفباكستان فدلهي فجزر المالديف فسيلان سيرلانكا اليوم فسومطرة، وجميعها سلكها على خطاه توم، حتى الصين التي التقى فيها منذ عامين الشيخ عبدالله هوانغ كيو رون، امام مسجدها في ساحة تيومن فقال له: "هنا أقدم مسجد في الصين، كان عمره 350 سنة حين صلى فيه ابن بطوطة".
ويعود ابن بطوطة عن طريق كوانزهو، سومطرة، كاليكوت، هرمز، بغداد، مكة، الصحراء المغربية، النيجر، ثم اسبانيا حيث زار ملقة وغرناطة، فالمغرب حيث زار اصيلة ومراكش وعاد الى مسقط رأسه ليفاجأ بأن الموت خطف والدته العجوز قبل وصوله بأسابيع قليلة، فعاش وحيداً، هو الذي تزوج وطلق ست مرات خلال رحلته. وانصرف في وحدته الى املاء تفاصيل رحلته على ابن جزي.
وهكذا توم ايبركرومبي - عدا بعض الاماكن التي اختفت اليوم عن الخارطة - اقتفى تماماً خطى ابن بطوطة في رحلة قدرت ادارة "ناشيونال جيوغرافيك" تكاليفها بنحو 100 الف دولار، ودون مشاهداته ونشرها شاهدة على مصداقية "امير الرحالين" الذي ترك للتاريخ شواهد تبقى على التاريخ، مع ان توم بحث عن شاهد لقبر ابن بطوطة في مسقط رأسه فلم يجد الا مكاناً رمزياً لا ثبت تاريخياً له.
وبين "الوسط" العدد 30 و"ناشيونال جيوغرافيك" العدد 6 - المجلد 180 ومجدداً هذا العدد من "الوسط" وما فيه من لقاء توم ايبركرومبي، نكون تمتعنا برحلتين تاريخيتين، تفصل بينهما 666 سنة، وتجمع بينهما مقولة ختم توم حديثه بها نقلاً عن الشاعر التركي الشهير ميفلانا: "بعدما نموت، لا تبحثوا عن جدثنا في التراث، بل فتشوا عنه في قلوب الناس".
ابن بطوطة "الاميركاني"
- ولد توماس ايبركرومبي في 13/8/1930 في ستيلووتر ولاية مينيسوتا.
- تخرج من معهد ماكاليستر مينيسوتا مجازاً في الصحافة وتاريخ الفن.
- عمل مصوراً في مؤسسة فارغو نورث داكوتا ثم في "مجلة ميلووكي".
- التحق بمجلة ناشيونال جيوغرافيك" كمصور عام 1956
- انتقل الى قسم التحقيقات الخارجية في المجلة عام 1957.
- نال جائزة "أفضل مصور فوتوغرافي" لعام 1959 من جامعة ميسوري.
- نال جائزة "نادي اميركا لما وراء البحار" عن موضوعه "كانساي: قلب اليابان التاريخي" عام 1970، وجائزة النادي نفسه عام 1973 كصاحب "أفضل تحقيق مصور في الخارج".
- أبرز تحقيقاته، كتابة وتصويراً، هي عن: أفغانستان، الجزائر، اليمن، كمبوديا، المغرب، العربية السعودية، فنزويلا، لبنان، مصر، عُمان، البحرين، الاردن، برازيليا، ايران…
- حاضر عن الشرق الاوسط في جامعات اميركية عدة، منها: جورجتاون، برنستون، وسكونسن، انديانا، نيويورك…
- يقوم حالياً برحلة طويلة الى تشيكوسلوفاكيا، ينتقل بعدها الى الجزائر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.