نائب أمير تبوك يطلق حملة نثر البذور في مراعي المنطقة    منتدى المدينة للاستثمار.. يراهن على المشروعات الكبرى    انطلاق منافسات سباقات الخيل في ميدان الفروسية بالدمام الجمعة المقبل    عبد العزيز بن سعد يشهد الحفل السنوي لجمعية الأطفال ذوي الإعاقة بحائل 2024    المملكة تُطلق الحوافز المعيارية لتعزيز الصناعة واستقطاب الاستثمارات    مدرب البحرين مازحاً: تمنياتي للعراق التوفيق في كأس العالم وليس غداً    سفير المملكة لدى أوكرانيا يقدّم أوراق اعتماده للرئيس فولوديمير زيلينسكي    خطة تقسيم غزة تعود إلى الواجهة    225 مليون مستفيد بجمعية هدية الحاج والمعتمر    مسفر بن شيخة المحاميد في ذمة الله    فريق علمي لدراسة مشكلة البسر بالتمور    فرصة لهطول الأمطار على الرياض القصيم الحدود الشمالية والشرقية    من رواد الشعر الشعبي في جازان.. عبدالله السلامي    تشريعات وغرامات حمايةً وانتصاراً للغة العربية    "الوعلان للتجارة" تحتفل بإطلاق "لوتس إمييا" 2025 كهربائية بقدرات فائقة        "البروتون" ينقذ أدمغة الأطفال.. دقة تستهدف الورم فقط    الترفيه تعلن عن النزالات الكبرى في فعالية UFC ضمن «موسم الرياض»    الجيلي يحتفي بقدوم محمد    جسر النعمان في خميس مشيط بلا وسائل سلامة    وزير داخلية الكويت يطلع على أحدث تقنيات مركز عمليات 911 بالرياض    عمان تواجه قطر.. والإمارات تصطدم بالكويت    تيسير النجار تروي حكاية نجع في «بثينة»    الصقارة.. من الهواية إلى التجارة    زينة.. أول ممثلة مصرية تشارك في إنتاج تركي !    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع    قبل عطلات رأس السنة.. أسعار الحديد ترتفع    "الصحي السعودي" يعتمد حوكمة البيانات الصحية    مستشفى إيراني يصيب 9 أشخاص بالعمى في يوم واحد    5 طرق لحماية أجسامنا من غزو البلاستيك    وتقاعدت قائدة التعليم في أملج.. نوال سنيور    «بعثرة النفايات» تهدد طفلة بريطانية بالسجن    رشا مسعود.. طموح وصل القمة    "فُلك البحرية " تبني 5600 حاوية بحرية مزود بتقنية GPS    استدامة الحياة الفطرية    قدرات عالية وخدمات إنسانية ناصعة.. "الداخلية".. أمن وارف وأعلى مؤشر ثقة    آبل تطور جرس باب بتقنية تعرف الوجه    محمد بن سلمان... القائد الملهم    تنمية مهارات الكتابه الابداعية لدى الطلاب    منصة لاستكشاف الرؤى الإبداعية.. «فنون العلا».. إبداعات محلية وعالمية    محافظ جدة يطلع على برامج "قمم الشبابية"    البرازيلي «فونسيكا» يتوج بلقب بطولة الجيل القادم للتنس 2024    هجوم ألمانيا.. مشهد بشع وسقوط أبشع!    سيكلوجية السماح    عبد المطلب    زاروا معرض ومتحف السيرة النبوية.. ضيوف «برنامج خادم الحرمين» يشكرون القيادة    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    26 مستوطنة إسرائيلية جديدة في عام 2024    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    إعداد خريجي الثانوية للمرحلة الجامعية    التشريعات المناسبة توفر للجميع خيارات أفضل في الحياة    سعود بن بندر يلتقي مجلس «خيرية عنك»    خادم الحرمين يرعى منتدى الرياض الدولي الإنساني    تجويد خدمات "المنافذ الحدودية" في الشرقية    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    لتعزيز الروابط النيابية وتوعية الجمهور.. تدشين الموقع الالكتروني لجمعية النواب العموم العرب    ولادة المها العربي ال15 في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أقدم الرحالة في الزمن القديم عرف 44 بلداً في 29 سنة : ابن بطوطة : رحلة في الزمان والمكان والانسان
نشر في الحياة يوم 24 - 08 - 1992

قبل 666 سنة رحل ابن بطوطة من موطنه في طنجة - المغرب فجال في انحاء افريقيا وآسيا وبعض اوروبا، واستغرقت جولته 29 سنة هي زهرة العمر وعنفوانه.
ورحلة ابن بطوطة التي يُعاد تقويمها ايجاباً في الغرب هذه الأيام تجعل منه ابرز الرحالة في الزمن القديم وأكثرهم أمانة في وصف أحوال الشعوب.
هنا إطلالة على الرحلة الشهيرة ومقطعان من مشاهدات ابن بطوطة:
لم يكن ابن بطوطة، صاحب العبارة التي تقول "ان العلاقات الانسانية هي خطوط الطول والعرض التي تحدد اتساع العالم". انما صاحبها مفكر وكاتب اميركي، اسمه هنري تورو، وقد كتبها في رسالة الى صديق.
غير ان تورو، ما أن وجّه الرسالة، وقبل ان تبلغ صديقه، كان جمع حوائجه القليلة، وارتحل ليعيش في غابة اولدن، وكأنها مكان خارج خطوط الطول والعرض، مفضلاً قيم الغابة وشرائع الاختيار الطبيعي، على ارض البشر، وعلاقاتهم الانسانية… وانزوى في موقعه الموحش الراكد، ليكتب كتابه "أولدن".
اما ابن بطوطة الرحالة العربي المسلم، فكان له مع معنى هذه العبارة، التي لم يسمع بمنطوقها، شأن آخر. ففي رحلة، تمثل فيها الاقانيم الثلاثة: الزمان، والمكان، والانسان، زوايا رأس المثلث الموجة في بوصلته الارتحالية، استطاع ابن بطوطة، ان يخلّد ذكره كأشهر رحالة في التاريخ.
وإذا ما تصفحنا، السفر القيّم الذي يضم وقائع رحلته واتجاهاتها، تحت عنوان "تحفة النظّار في غرائب الامصار وعجائب الاسفار" لتبين لنا ان الصلات والعلاقات الانسانية التي تغلغل فيها، هي اقوم ما في هذه الرحلة المتميزة. فاقامة العلاقات مع اهل الأرض، وتجاذب المشاعر بينه وبينهم، هي اساس رحلته… بينما تتضاءل اهمية الجوانب الاخرى المستندة الى وصف المظاهر على السطح.
فرحلة ابن بطوطة، رحلة غرائبية، ومشوقة في دنيا البشر، على اختلاف طباعهم وتدرج مستويات حياتهم بين قاع وسفح، وقمة الهرم الاجتماعي الذي كانت سائدة في زمنه على تباينها الواضح. وكانت ازمنة الرحلة وأمكنتها اطرا لرسم الصورة البشرية داخلها بوضوح وجلاء.
وحين بدأ ابن بطوطة رحلته، لم تكن في باله عبارة باسكال التي قيلت في زمن لاحق: "ان السبب الوحيد لشقاء الانسان، هو انه لا يعرف كيف يستقر هادئاً في حجرته…" اذ قرر الرحالة العربي، والذي وصفه الغربيون بپ"الرحالة الامين" ولقبوه بپ"أمير الرحالة"، ان اكساب حياته قيمة ومعنى، يتأتي من حركته الدائبة الجلودة، خارج موضع استقراره. فأشواق المغامرة الارتحالية، كانت تجتذبه بعيداً.
وليس من حجرة تتسع لأشواقه الى رحابة واتساع الارض التي كانت معروفة في ذاك الزمان، فحمد الله الذي "ذلّل الارض لعباده ليسلكوا منها سبلاً فجاجاً". وان فضاء العالم لا يتأطر عبر نافذة في حجرة، فغادرها "كما تغادر الطيور اوكارها". ما ان صار له من العمر 22 سنة، وأتم علومه المستقرة حتى سعى الى الاستزادة من العلوم المتحركة. فغادر حجرته وبيته وبلده ووطنه، شارعاً في رحلة تاريخية، لم يسجل التاريخ رحلة مقاربة لها في الشهرة واتساع الآفاق في ذلك الزمان.
الخطوة الأولى
ولم تكن مفارقة الموطن بيسيرة على نفسه. بل كان فيها مكابدة. لكن انفتاح الافق وراء الخطوة الاولى، هذا الانفتاح الرحب، جعل لهذه الرحلة مذاقها المتميز.
مع الخطوة الاولى، على مطل آفاق الرحلة، كتب:
"كان خروجي من طنجة مسقط رأسي، يوم الخميس الثاني من شهر الله، رجب الفرد، عام خمسة وعشرين وسبعمائة، معتمداً حج بيت الله الحرام وزيارة قبر الرسول عليه افضل الصلاة والسلام، منفرداً عن رفيق آنس بصحبته، وركب اكون في جملته. لباعث في النفس شديد العزائم، وشوق الى تلك المعاهد الشريفة كامن في الحيازم. فجزمت امري على هجر الاحباب من الاناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور. وكان والداي على قيد الحياة، فتحملت لبعدهما وصبا، ولقيت كما لقيا من الفراق نصبا. وسني يومئذ اثنتان وعشرون سنة".
وكانت سنة انطلاقته في رحلته موافقة لسنة 1326 ميلادية، الواقعة في حقبة مضطربة متفجرة من التاريخ العربي الاسلامي، في بلدان الشمال الافريقي، وبلاد الاندلس. فالممالك والامارات والولايات تنفرد وتنطوي، بحركات انقباض متسارعة شديدة الوقع. وممالك الطوائف في بلاد الاندلس، تتناثر مزقاً، ثم تتساقط في قبضة الاسبان، تاركة غرناطة مثلاً ماثلاً وحيداً منتظرة السقوط الاخير والخروج الاخير حتى عام 1492. اما غيرها فقد سبقها الى الاندثار، والأمر كذلك في ولايات الشمال الافريقي، حيث تصعد اسرة حاكمة على انقاض اسرة حاكمة، والصراعات على اشدها، وبواطن الاوضاع حبالى، وطلق الولادات الآتية على تلك الديار صعب وعسير… لكن لا سبيل الى وقفه. اضافة الى أثر الغزوة الصليبية الشرسة على المشرق العربي.
فهل كان ابن بطوطة لحظة أزمع الرحلة واعياً لكل هذا الصخب التاريخي وهل كانت رحلته مفارقة له؟
ليس في الصفحات الكثيرة التي رصدت خطوات رحلته وتركها امانة للتاريخ الا اشارات قليلة تتخفى وتتبدى بين السطور عن تلك الاحداث.
ربما ان ما شاهده وعايشه وعاشه من غرائب وعجائب الامصار والاسفار، غطى على ما كانت عليه حال الديار التي فارقها.
ومع تتبعنا لرحلة ابن بطوطة، كان الذهن يستحضر بين الفينة والاخرى، كتاباً تراثياً آخر، هو "عجائب الموجودات وغرائب المخلوقات" للقزويني، الذي حاول ان يضيف في مخطوطه العجائب والغرائب في الظاهرة الطبيعية، ويرتقي منها الى غرائب وعجائب الظاهرة الكونية. غير ان ابن بطوطة. حدق ودهش ثم الف وربما أحب، غرائب وعجائب الظاهرة البشرية في رحلته. وان كل ما حولها من مظاهر العمران والخراب، انما هو انعكاس لتناقضات النفس البشرية.
فرحلة ابن بطوطة، على امتداد رقعتها الزمانية، وانفساح رقعتها المكانية، هي غوص معمق في داخل النفس البشرية، ورصد عوامل المفارقة والائتلاف بين اطباع الناس على اختلاف اماكن وجودهم وتباين مراتبهم.
البداية من موسم الحج
أما هدف الرحلة المعلن عند ابتدائها، فكان حج البيت الحرام، وبلوغ مكة المكرمة والمدينة المنورة، حاجاً وزائراً لقبر الرسول ص. وبعد ان بلّ اشواقه من هذا المقصد الكريم، لم يعد قادراً على التوقف، اذ اجتذبت اشواقه خطاه، واقتادته الى معرفة اشمل واوسع وأعمق بالبشر وأرضهم. الى ان بلغت به ان صنفته بين اشهر رحالة التاريخ، ان لم يكن الاشهر على اطلاق صفة التفضيل.
على ان ابن بطوطة، وطوال رحلته، لم يخرج من ثوبه الديني، فقد كان في كل موضع يحل فيه، يعرف بأنه الفقيه المعلم، والشيخ المتدين، والقاضي النزيه. حتى في زيارته الى القسطنطينية وهي زيارة مميزة في رحلته وهي يومها القلعة الباقية من الامبراطورية الرومانية الشرقية، وحامية المسيحية. وعلى رغم عسر التمهيد لتلك الزيارة، وتوسله بلوغها برفقة ابنة امبراطورها وفي صفحات الرحلة الكتاب تفصيل ذلك، لم يخرج من أهابه الديني.
اما في الهند، التي مكث فيها ما يقارب حالة استقرار بالنسبة لرحالة دائم التوق الى الحركة، فقد تولى القضاء. وكذلك تولاه زمناً في الصين. وفي غيرهما من الأمصار، كان موالفاً للأئمة ورجال الدين.
وإذا ما حاولنا ان نرصد رحلته ما بين قطبي الزمان والمكان، نرى انها تتجزأ الى ثلاث رحلات، اطولها زماناً وأوسعها مكاناً الرحلة الاولى.
فمن طنجة في المغرب، بدأ رحلته وهو في الثانية والعشرين من العمر، والى سجلماسة ثم فاس في المغرب. عاد منهياً رحلته وهو في الحادية والخمسين من العمر، وملقياً عصا ترحال دام تسعا وعشرين سنة متصلة. وبعودته يقفل دائرة ارتحاله، تاركاً للتاريخ واحدة من اهم الرحلات، بما تقلب عليه فيها من احوال، وما تقلب فيه من اوضاع، وإختلاف بيئات وأجواء، وتفاوت عادات واطباع، رصدها كلها رصداً حياً ودقيقاً.
44 بلداً في 29 سنة
على امتداد 29 سنة من ترحاله عبر معظم قارتي آسيا وأفريقيا. اما اوروبا وهي القارة الثالثة المعروفة في زمنه، فقد مر في جزئين منها، حول البحر الاسود في الطرف الاوروبي شرقاً، وبلاد الاندلس غرباً.
وبلغت رحلته 75 ألف ميل. وتعتبر أطول رحلة في ذاك التاريخ، اذ بلغت اضعاف رحلة ماركو بولو المشهور عند الغربيين.
وإذا ما تتبعنا رحلة ابن بطوطة على أطلس العالم في تقسيماته السياسية اليوم، نجد انه مر ومكث وتعرّف على أربع وأربعين دولة وقطر. وكان عددها في زمانه اكثر من ذلك، بسبب تشطرها الى ممالك وولايات اصغر.
يقول ابن بطوطة، في مشهد من مشاهد ارتحاله: "حلمت انني على جناح طائر عظيم". وفسرّ له احد الحكماء هذه الرؤية بأنها ارتحال، واعتبر الفتى المشوق ان تحقق هذا الحلم اقرب الى المعجزة.
الا ان عزمه حقق ما كان يعتبره معجزة.
وظل جناح اشواقه، وطائر ارتحاله، يحمله ويحط به من بلاد الى بلاد، ماراً بكل العوامل الطبيعية، وتنوع المناخات، وبالاخص تنوع الانماط الحياتية للبشر. فمن الشمال حيث كثافة الثلوج تعيق رحلته، الى الجنوب تحت خط الاستواء بپ600 ميل، ومن الشرق الى الغرب من دون ان يهدأ الا عند النقطة القصوى الممكنة في هذه الاتجاهات. مخترقاً البر وعابراً البحر.
وحين يذكر بلد ما في رحلة ابن بطوطة. فانه لا يكتفي بحدوده البرانية، او زيارة حواضره المهمة المعروفة. بل تشمل رحلته فيه مدنه الكبرى وقراه الصغرى. اذ قلما ترك موضعاً في بلد يسهل او يعسر ارتياده، إلا فعل، وما منعته عنه الا الاستحالة.
وهو في كل هذا متمتع براحة اليسر وبمكابدة العسر، معاً.
وكثيراً ما اضطرته العوائق، الى تحويل طريقه، في معاناة مرّة، عبر استطالة الزمن، ووعورة الطرق، من دون ان يتراجع عن مقصد قصده.
ففي ثنايا الرحلة، تبرز المغامرة والمواجهة، سواء المتقصدة، او الطارئة المباغتة، او المفروضة عليه. فالمغامرة الحياتية ترصدته في كل مراحل رحلته. لكنها في النهاية كانت تقربه من مقاصد رحلته المعرفية.
أعاقته الوعورة، والظروف الجوية القاسية، وأحياناً الشرور الآدمية المترصدة على الطرق. وفي رحلته العجائبية، تقلب في كل الأوضاع، فمن قعر الحاجة والعوز والمرض والسجن، ومن وحشة الوحدة القاسية، الى قمة العز والرفاه والجاه، والحفاوة والتكريم. صادق السلاطين، والتقى الاباطرة، وصاحب الدراويش والتقى الافاقين، وجالس علية القوم في كل مكان. وخالط سفلة القوم في كل مكان. ولكنه في كل هذا، لم يخرج من جلده، ولم يفارق نفسه التواقة الى الكشف والمعرفة.. اخذاً وعطاء.
وكان يمتص المعارف ويختزنها، ويعطي ما لديه من معارف معمقة في امور الدين. وظل طوال رحلته معلماً لأصول الدين في المناطق الاسلامية التي ارتحل اليها، فقيهاً متبحراً، الى جانب توليه القضاء في اكبر بلدين مكث فيها لزمن الهند والصين.
وظل ابن بطوطة، طوال رحلته أميناً لحسه الانساني الشامل بألفة العائلة البشرية ووحدتها، على رغم كثرة ما واجه من مقالب تعكر هذا التصور الحميم في نفسه.
وفي رحلته استوقفته البيئات الاكثر بدائية، وتمكن بطواعيته النفسية ان يتعايش معها، واستمهلته البيئات الاكثر رقياً وحضارة، وتمكن بألفته الذهنية ان يندمج فيها.
من المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، مصر، السودان، والى الصومال، تنزانيا، عدن، اليمن، الحجاز وكامل الجزيرة العربية، بلاد الشام، سورية، لبنان، وفلسطين، بلاد فارس، وتركيا، القسطنطينية، الهند البنغال، البحر الاسود، شبه الجزيرة الهندية، سيلان جاوه، سومطرة، اراضي الصين على اتساعها بلدان الخانات العظام، والاندلس، ثم العودة الى المغرب، استطاع ابن بطوطة ان يرسم خريطة نابضة بالحياة لذلك العالم في تلك الفترة المميزة من زمنه.. متأملاً تقاليد شعوبه، المختلفة والمتناقضة، عاداتهم مألوفها وغريبها، تقاليدهم الاجتماعية، وأوضاعهم الاقتصادية. واستوقفته بتمهل، وقفة المتأمل كل ما فيها من عجائب الامكنة وغرائب الطباع.
إحساس انساني
وان كانت غالبية تلك البلدان، تدين بالاسلام، فائتلف معهم إلا انه خرج ايضا الى التلامس مع شعوب خارج الاطار الاسلامي، فما أحس بغربة، اذ كان له من نفاذ البصيرة وتميز الشخصية ما يقربه من نفوس كل من قاربهم والتقى بهم وعايشهم.
تزوج وطلق وتزوج، وعدّد، فعد مزواجاً، الا انه رصد في رحلته وضع المرأة في كل تلك الاقطار التي مر فيها. ولم يكن مشاهداً محايداً، بارد القلب والمشاعر، بل كان يعمل، وان بالنصيحة، على تقويم المعوج والناتئ والشاذ المناقض للطبيعة البشرية الطيبة، والخارج على ناموس الحياة الخيرة، مستلهماً تعاليم دينه فيما كرّس له نفسه في ارتحاله من نشدان الأصلح والأقوم. وفي توليه القضاء اثناء رحلته، تميز بالعدل والنزاهة فأحبته العامة، وقربته الخاصة.
وعندما اكتملت رحلته في دائرة المكان على اتساع القارتين افريقيا وآسيا، واكتملت في دائرة الزمان ما بين 1325 و1354 هجع في فاس المغربية، وبطلب من واليها آنذاك، تفرغ لاستذكار وتسجيل كامل وقائع رحلته، حيث املاها على الكاتب ابن جزي، الذي يصف ابن بطوطة في مقدمة الكتاب المملى عليه، بعنوانه "تحفة النظار في غرائب الامصار وعجائب الاسفار" يصفه، بأنه: "الشيخ الفقيه، العالم الثقة النبيه، الناسك الأبر، وفد الله المعتمر شرف الدين المعتمد في سياحته على رب العالمين، ابو عبدالله محمد بن عبدالله بن محمد بن ابراهيم اللواتى ثم الطنجي، المعروف بابن بطوطة".
وفي خاتمة الكتاب، يقول ابن جزي: "انتهى ما لخصته من تقييد الشيخ ابن عبدالله محمد بن بطوطة، اكرمه الله، ولا يخفى عن كل ذي عقل ان هذا الشيخ هو رحال العصر، ومن قال رحال هذه الملّة لم يبعد، ولم يجعل بلاد الدنيا للرحلة..
وكان الفراغ من كتابتها عام سبعة وخمسين وسبعماية".
وقد ظلت المخطوطة الاصلية المتضمنة هذه الرحلة الشهيرة، محفوظة في باريس على مألوف وجود المخطوطات التراثية العربية الاسلامية القيمة في الحواضر الاوروبية لأكثر من ستة قرون.. الى ان عمّ تحقيقها ونشرها.
وان كانت المخطوطة بخط ابن جزي وصياغته، الا ان املاء ابن بطوطة لوقائع ما مرّ عليه، وما مرّ به في رحلته، يبين مدى دقة ملاحظته ووعيه ونباهة رصده لأحوال الناس وتشابك وتفرغ العلاقات في ما بينهم.. فتقدم صورة دقيقة الملامح نابضة بالحياة للأسرة البشرية بتنافر وتآلف علاقاتها.
ولا تقل دقة وصف الامكنة، عن دقة وصف البشر، وان كان تغليب الثانية على الاولى واضح… فالامكنة ليست في النهاية الا أطراً لحياة الناس. فهذه حيوية ونبض، وتلك جمود وركود.
وطوال الرحلة، لم يخلع ابن بطوطة زي رجال الدين. وظل في إهاب الفقيه اللامع. وكان الحكام والامراء والولاة يستقبلونه ويحيطونه بالحفاوة.. وحظي في كثير من الاماكن بمنزلة اجتماعية مكرمة. وفتحت أمامه القصور، كما فتحت له زوايا الصوفية ومدارس الدين للاقامة. مما يسّر عليه اتمام رحلته.
وتعيدنا رحلة ابن بطوطة الى القولتين النقيضين، قولة هنري تورو حول اتساع العالم والعلاقات الانسانية، وقولة باسكال حول السعادة والثبات في الحجرة. فقد نقض ابن بطوطة قولة الثاني قبل زمانها، وأثبت قولة الأول قبل زمانه.
على أن أبرز ما يمكن ان نميز به رحلة ابن بطوطة، عن رحلات الرحالة الغربيين الشهيرة، كرحلة ماركو بولو مثلاً، ان رحلات هؤلاء كانت في أغلبها تمهيداً لمطامع بلدانهم في البلدان الاخرى، ورؤوس اسهم توجهها مقاصد الهيمنة الغربية على الشرق. بينما رحلة ابن بطوطة، رحلة مبرأة عن المقاصد الخبيثة، زاخرة بمعاني التوق والشوق، وأهداف الاطلاع والمعرفة والمعايشة الودودة، وتحقيق الالفة بين الناس على اختلاف مواطنهم.
وقد تميز هذا الرحالة العربي ببصر جلي، وبصيرة نافذة، فحدق تحديقة واعية ومحبة بكل ما رآه. ولامس ملامسة دافئة كل ما لقاه. وفي كل هذا كانت مقاصد الإلفة مع الناس والاشياء والامكنة تجمعه بهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.