تطلّ درية شرف الدين من التلفزيون المصري مساء كل يوم سبت، ومنذ 14 سنة، قائلة: "أنت على موعد مع نادي السينما" لتقدم افلاماً عالمية وتعقد حولها ندوات. وهي نالت درجة الدكتوراه حول "السياسة والسينما في مصر 1961 - 1981" وصدرت أطروحتها حديثاً في كتاب نشرته دار الشروق. عن الثقافة السينمائية في مصر وأفلام العهدين الناصري والساداتي وصورة العربي في السينما المصرية، هذا الحوار أجرته "الوسط" مع درية شرف الدين. كتابك عن السينما والتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر من 1961 الى 1981... ما قصة الكتاب؟ - الكتاب حقق لي رغبة قديمة، فعندما كنت طالبة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية كان لي اهتمام بالكثير من الفنون، وشغل تفكيري المزج والربط بين احوال المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ونتاجه الفني. بعد السياسة درست في المعهد العالي للنقد الفني في اكاديمية الفنون ودخلت في مرحلة التخصص واختيار مواضيع لرسائل الماجستير والدكتوراه، وبداية، قررت اختيار موضوع مصري معاصر وفيه نوع من التداخل بين الدراسات، فكان موضوع الدكتوراه عن "التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر منذ سنة 1961 حتى سنة 1981"، ولدراسة هذه الاعوام العشرين عدت الى جذور ما قبل 1961 وهي التي يمكن ان نشاهدها بشكل مباشر في ثورة 1952 فكانت الدراسة في الواقع من 1952 الى 1981، وهي الفترة التي تناولت فيها المجتمع المصري في نواحيه السياسية والاقتصادية والاجتماعية ثم الفنون، وبالتحديد فن السينما باعتباره اكثر الفنون جماهيرية. هذا هو اهتمامي الذي بدأ منذ سنوات طويلة، وهذه كانت رغبتي او الأمنية في الجمع بين دراستي للسياسة وللسينما. أفلام العهد الناصري ما الذي توصلت اليه في دراسة السينما في عهد عبدالناصر؟ - لا شك ان فترة جمال عبدالناصر قدمت اشياء نعتبرها حالياً انجازات، وكان فيها ايضا اشياء نعتبرها تجاوزات لنظام، ولكن بشكل عام، من سنة 1954 حين تولى عبدالناصر رئاسة الجمهورية الى سنة 1970 عام رحيله، كانت فترة تغيرات سياسية عميقة الاثر في المجتمع المصري، تعكس تطورات اقتصادية، وفيها تم اعلان الجمهورية وتأميم قناة السويس والوحدة بين مصر وسورية والقرارات الاقتصادية سنة 1961 والتدخل المصري في اليمن، اعتباراً من سنة 1962، واعلان الميثاق والتحول الاشتراكي، والهزيمة الكبرى 1967 وحرب الاستنزاف وبدء الهجرة خارج مصر. هي تطورات ساخنة على كل المستويات. وكانت السينما جيدة وشهدت تلك الفترة مولد القطاع العام السينمائي ولكن اذا نظرنا الى مواضيع الافلام وارتباطها بالواقع المحيط بها، نرى ان السينما اقرب الى ان تكون "سينما الماضي". وسط هذه التغيرات العميقة كان اهتمام السينما بعالم ما قبل الثورة، وقد انتجت أفلام اجتماعية الطابع تتناول الحياة الواقعية، لكن التغيرات السياسية والاقتصادية وتفاعلات المجتمع الجديد كانت موضع حذر السينما. في السينما، كما في الأدب، يتوقف المبدعون بعض الوقت للتأمل حتى ينتجوا افلاماً او أدباً. - اتكلم عن 18 سنة وهي فترة طويلة، وعلى سبيل المثال عندما قدم الاتحاد السوفياتي على الرغم من القهر الذي كان جاثماً افلاماً استطاعت ان تكسر وتناور وتشير الى ما هو آت، اي الى التغيير. ألا يدخل فيلم "ثرثرة فوق النيل" في هذا الاطار؟ - "ثرثرة فوق النيل" انتج في موسم 1970 - 1971 وفي كلامك جزء كبير من الصدق، ولكن كان له وضع خاص جداً، فبعد هزيمة 1967، حدث للنظام الناصري ارتجاج، فبدأ يعلن عن مراجعات ويطلب نقداً للماضي، نقداً ذاتياً. هكذا بدأت السينما تستجيب، وحتى في حدود هذه الاستجابة لم تستطع ان تحقق شجاعة كاملة، فإذا شاهدت الفيلم ولديك خلفية تستطيع ان تفهم ما يقصده من رموز، ولكن لو رأيته على اطلاقه فلن تجده يقصد شيئاً. سميت بعض نتاج السينما في هذه الفترة "سينما الضوء الاخضر". قبل ما سميته "سينما الضوء الاخضر" كان فيلم "اللص والكلاب". ألم يكن من سينما الحاضر؟ - لم يكن فيلم "اللص والكلاب" في الستينات يتحدث الا عن اوضاع غير سياسية، وفي رأيي ان هذا الفيلم حُمّل اكثر مما يجب. الفيلم حاول ان يوضح كيف يتحول رجل بدافع الفقر الى سفاح، وان الظروف الاجتماعية بلورت القصة، ولا استطيع ادخال "اللص والكلاب" في عداد الافلام السياسية، فكل فيلم اجتماعي بصفة عامة يتضمن جزئية سياسية، ولقد ابتعدت تماماً عن الافلام السياسية، بمعنى فيلم سياسي، قلت: السياسة والسينما، بمعنى الحياة السياسية والسينما، والحياة السياسية هذه يمكن ان تتضمن اهتمام النظام السياسي الحاكم بالمنشآت السينمائية، بالبنية الثقافية السينمائية، بالرقابة السينمائية. سينما ظلال الخوف وهل كانت هذه الاهتمامات كافية من قبل النظام السياسي؟ - كان هناك اهتمام بالمنشآت السينمائية والبنى الثقافية، ولكن السؤال الذي نطرحه: هل هذه البنى قامت بدورها؟ وهل اتيحت لها الفرصة لأن تقوم بهذا الدور؟ ولكن لو تأملنا تلك الفترة وعددنا الافلام التي انتجت، نتوصل الى انها اقرب ما تكون الى "سينما الماضي"، وقد سميتها "سينما ظلال الخوف والعسكر"، تسمية فيها نوع من الجرأة. لم يكن موضوع الافلام دائما هو الخوف، ولكن الفرجة عليها تؤكد ان هذه الافلام اخرجت تحت نوع من التخوف، فلجأت السينما المصرية الى الماضي، وأخذت الحاضر من جانبه المزدهر، ومع هذا فان الافلام التي شاهدناها تتناول جدوى الاشتراكية عن طريق تصوير الماضي سلبياً واعتبار الحاضر هو الامل. الآن، بعد اكثر من ثلاثين سنة نرى ان القرارات الاشتراكية كان لها آثار سلبية، ولكننا لم نشاهد هذا في السينما، ولا كاشارة، بسبب الخوف. تتكلمين عن السينما المؤممة، ولكن، كان هناك منتجون افراد، رمسيس نجيب وآسيا وغيرهما.. - لم يكن التأميم بنسبة مئة في المئة. الدولة دخلت في الانتاج وأممت التوزيع ودور العرض، لماذا؟ هل لتحقيق الربح؟ لا شك ان هناك جانباً ناجحاً في تجربة القطاع العام في السينما، على الرغم من الخسارة المادية وعدم قدرة السينما الحكومية على القيام بدور ايديولوجي فانه اتيحت الفرصة لعدد من المخرجين الشبان خصوصاً للعمل من دون النظر لعوامل الربح والخسارة، وظهرت اعمال جيدة اذكر منها "المومياء" و"الأرض". ولكن افلام هذه المرحلة - سياسياً - هي ادانة للماضي لصالح الحاضر وكانت هذه هي "التيمة" المسموح بها في السينما طوال 16 عاماً، وكان مسموحاً بأشياء اخرى شرط الا تمس النظام. لم ينتج فيلم واحد توقف امام سلبية واحدة للنظام الحاكم. هل امتد هذا التوصيف للسينما الى عصر السادات؟ - من بداية السبعينات شهدت مصر تطورات جذرية بدأت بالاشتراكية لم تكن اشتراكية الستينات سوى رأسمالية الدولة، وحدث تراجع عنها وعن الحزب الواحد الى منابر ثم الى احزاب، وهذه كانت خطوات تمهيدية نحو الحياة الديموقراطية. لا ننكر على الاطلاق انه في فترة السبعينات كان هناك اتجاه لصالح الديموقراطية وحرية المواطن ايا كانت التجاوزات التي حدثت، فالانفتاح الاقتصادي على اطلاقه شيء جيد، على رغم ما شابه من ممارسات سلبية، بدأت السينما تتكلم وتقول، خصوصاً ان السادات بعد شهور قليلة من حكمه انجز تغييرات 15 ايار مايو 1971، فكأنه اعطى ضوءاً اخضر جديداً لنقد الماضي القريب الخمسينات والستينات، فالقضاء على مراكز القوى كان فرصة ذهبية للسينما لكنها بقيت عند افلام ملتبسة: هل هي فعلاً لتقييم التجربة الناصرية؟ وهل هي للاقتصاص من حكم عبدالناصر؟ وهل هي للتجارة فقط عن طريق تيمات تعجب الجماهير؟ سينما الانفتاح الاستهلاكي هي اذن "سينما الماضي" مرة أخرى؟ - اعتبرها نوعاً من "سينما الماضي" ولكنها لم تستغرق كل سنوات السبعينات، فقط كانت في بدايتها. اذن متى حدث التحول من سينما الماضي الى سينما تعالج الواقع؟ - في السبعينات مع الانفتاح الاقتصادي وتقريباً بحلول عام 1975. في ذلك العام ظهر فيلم "على من نطلق الرصاص" لكمال الشيخ، وهو فيلم معاصر ينقد الفترة التي انتج فيها، وكذلك فيلم "زائر الفجر" الذي يعبر عن ضرب مراكز القوى. والذي انتج قبل فيلم "الكرنك". هناك من يؤرخ لافلام ادانة مراكز القوى بفيلم "الكرنك"، ولكنني أؤرخ لها بفيلم "زائر الفجر"، ويسجل لكمال الشيخ من اول من فتح الباب لسينما الحاضر في منتصف السبعينات. ما الاسم الذي اطلقته على سينما السبعينات في مصر؟ - سينما الانفتاح الاستهلاكي. تسمية تتضمن توصيفاً سلبياً؟ - نعم، ولكن تفريعات التسمية مختلفة، فالخمسينات والستينات تحت قالب واحد، لكن الستينات كان فيها سينما مراكز القوى وسينما الانفتاح الاقتصادي سواء مع او ضد وسينما اكتوبر وسينما العنف والدم في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات حيث بدأت تظهر على الشاشة مناظر لم تشهدها السينما المصرية من قبل في عنفها او في دمويتها، وانهيتها - في هذا المزج بين السياسة والفن - بأنها "سينما العنف والدم واغتيال الرئيس". حاولت في كل العناوين ان امزج بين السياسة والفن، فكتبت عن الانفتاح الذي انتج فئات اجتماعية اصبحت هي المستهلكة الاولى لفن السينما، والسينما في حاجة الى من يدفع ثمنها كي يراها، من هو القادر اقتصادياً في هذه الفترة؟ من الذي تصنع له الافلام في هذه الفترة؟ سميتها "سينما الجمهور الجديد" وأدنت هذا الجمهور الجديد، فمعه تراجع سلم القيم المستقر في المجتمع المصري الذي كان يعلي من التفوق والتعليم والثقافة، فتراجع الى الفهلوة والفساد والرشوة... الخ. فترة السبعينات كانت ثرية لكن السينما بدأت تقف وتحتج وترفض. في مستوى الكم وقوة الافلام، ألم تتفوق سينما الخمسينات والستينات - على رغم وصفك لها بسينما الماضي - على سينما السبعينات؟ - غير صحيح، لأن دراسة تلك الفترة تثبت عكس ذلك: فترة الخمسينات شهدت افلاماً تعد من كلاسيكيات السينما المصرية، والستينات شهدت افلاماً جيدة، والسبعينات شهدت نماذج جيدة بالفعل. لاحظنا ان عنصر "الديموقراطية" هو الحاسم والأساس في عملية تقويمك السينما في عهدي عبدالناصر والسادات، فهل في هذا تغييب لعناصر اخرى في الشريط السينمائي؟ - من الصعب ان ادرس كل الافلام من كل النواحي، لا توجد دراسة شاملة للسينما، ومنطلقي في هذه الدراسة هو صلة العمل الفني بفترته، وبالتالي هناك افلام كثيرة تسقط لأنه ليس لها ارتباط بفترتها او ان لغتها السينمائية اقل من ان اناقشها. موضوعي هو السياسة والاقتصاد المصري والسينما. ومن هنا كان الفيصل هو الديموقراطية؟ - لا، انما صلة السينما بالواقع، وتوصلت الى انه كلما زاد هامش الحرية والديموقراطية كان الفيلم اكثر اقتراباً من الواقع، وليس افضل سينمائياً. اي انه من الممكن ان تصنع الديكتاتورية افلاماً جيدة؟ - رأينا نماذج من افلام الاتحاد السوفياتي في عهد الديكتاتورية وجمالياتها رائعة، ولكن هذا لا يعني ان هذه الافلام لها صلة بالواقع او معبرة عنه الا من خلال وجهة نظر الفكر الحاكم، فالجماليات السينمائية مرتبطة بالتطور التكنولوجي وبالامكانيات المادية وبوجود مخرجين كبار. هل وضعت يدك على عناصر - في العهدين - سينمائية كان يمكن تطويرها للوصول الى سينما افضل الا انه لم يسمح لها بالتطور؟ - كان لدينا مخرجون ممتازون وعناصر مهمة في التمثيل وكتابة السيناريو، فهل كنا نتصور ان هؤلاء الكبار غير قادرين على صنع اعمال جيدة معبرة عن الواقع؟ من الذي قال لهم لا؟ انها الرقابة، وهي انواع: قوانين مكتوبة ورقابة داخلية وكانت موجودة في الخمسينات والستينات. انا مع الرقابة في المسائل الدينية والسياسية والاخلاقية، ولكن لا بد ان تكون في أضيق الحدود في الناحية السياسية لأن النظام يضار، فهو، بالعكس يقوى مع النقد. من خلال تجربتك في نادي السينما، ما هي السينما العربية؟ هل هي السينما التونسية ام الجزائرية؟ وهل السينما العربية هي السينما المصرية ولسنوات طويلة قادمة؟ - البنية الاساسية - على رغم تخلفها - موجودة في مصر. وفي الدول العربية يوجد انتاج افلام ولكن لا يوجد انتاج سينما، وفرق كبير بين دولة تنتج أربعة افلام غالباً في السنة ومصر التي لديها انتاج وبنية سينمائية، والنموذج المصري هو الذي تحاول السينما العربية الوصول اليه لتصل الى المشاهد العربي. ويوم يفوز فيلم عربي غير مصري بجائزة في مهرجان ما، فإن التشجيع او التقسيم الجغرافي وارد. الفيلم المغربي مثلاً لا يقبل عليه المغاربة انفسهم، هم يقبلون على الفيلم المصري. هل اهتمت السينما المصرية بالقضايا العربية حتى من باب الحرص على السوق؟ - اعتقد ان السينما المصرية اهتمت بقضية فلسطين الى حد ما. وهناك اهتمامات بالمسائل العربية في بعض الاحداث التاريخية، لكنها تظل نماذج وليست تياراً. كان لا بد من الاهتمام بالقضايا العربية بدافع التسويق، لكن الدولة المصرية عندما أممت السينما، وهي لديها توجه عربي جارف، لم تنتج موضوعات عربية، والصورة العربية كانت تأتي على سبيل الديكور كالبدو في الصحراء والخيمة، والغناء البدوي. ماذا تقولين عن فيلم "صلاح الدين"؟ - لا استطيع القول انه فيلم عربي، هو فيلم مصري وقيل ان في الفيلم اشارة الى جدوى الوحدة العربية والى ان صلاح الدين يمثل شخصية عبدالناصر. "صلاح الدين" اعظم الافلام في هذا المضمار. نريد ان نصل الى نتيجة لا نعرف هل توافقين عليها ام لا. وهي ان السينما سواء اهتمت بالمواطن العربي وقضاياه ام لم تهتم، فهي تصل اليه من خلال اهتمامها بالحارة المصرية، والمنتج المصري، دولة او افراداً، لا يملك هاجس فقد الجمهور العربي وليس مضطراً للاهتمام بقضاياه؟ - الفيلم المصري يصل الى الجمهور العربي عن طريق ربطه بالموضوعات المصرية بحكم التكرار وصناعة السينما الراسخة في مصر، وأطلب ان نعكس السؤال: لو ان هناك اهتمام مصري بالمناطق العربية المختلفة ومن وجهة النظر الموضوعية - بعيداً عن الافلام الدعائية - فهل يسمح بذلك؟ وهل يمكن تسويق مثل هذا الفيلم في الدول العربية نفسها؟ المجتمعات العربية، في رأيي، لا تسمح بالنقد والتغلغل والتشريح الذي تلجأ اليه السينما.