حدد المجلس الاعلى للدولة في الجزائر تاريخ 12 ايلول سبتمبر الجاري لفتح الحوار مع المعارضة ممثلة في اهم الاحزاب على الساحة السياسية، باستثناء الجبهة الاسلامية للانقاذ المحظورة، وذلك في مرحلة اولى على الاقل. ويؤكد الاتجاه الى محاورة الهياكل السياسية القائمة - بصرف النظر عن مدى قوتها او ضعفها في الميدان - ان النظام الجزائري اصبح يقبل مضطراً ما كان يرفضه بالامس في ظل حكم الرئيس الراحل محمد بوضياف الذي بدا له انه من الاجدى ان يقفز فوق جميع الاحزاب ليقيم صلة مباشرة مع الجماهير العريضة. ويبدو من الصيغة الاولية للحوار المرتقب انه سيكون فردياً وليس جماعياً، كما فعل بوضياف الذي استقبل مجموعة من الاحزاب في لقاء كان الاول والاخير، وسيجري بناء على مقاييس محددة أهمها: تغطية التراب الوطني، بمعنى ان يكون الحزب متواجداً في 48 ولاية محافظة. ان يكون الحزب حصل على عدد معقول من الاصوات في الانتخابات المحلية التي جرت عام 1990 والنيابية المعطلة التي جرت عام 1991. وسيفتح هذا المقياس باب الحوار امام احزاب مثل جبهة التحرير، جبهة القوى الاشتراكية، حماس، التجمع من اجل الثقافة والديموقراطية، النهضة، حركة بن بلة. ان يكون للحزب حضور ايجابي في الساحة السياسية، وقد يعني هذا المقياس احزاباً صغيرة لكنها نشيطة مثل حركة "مجد" التي يرأسها رئيس الحكومة الاسبق قاصدي مرباح، و"حزب التجديد الجزائري" الذي ينشطه السيد بوكروح... من دون ان ننسى "الباكس" الحزب الشيوعي الجزائري طبعاً الذي حصل في الانتخابات المحلية على 24 الف صوت فقط! والملاحظ بصفة عامة ان احزاب المعارضة رحبت بفكرة الحوار، لكنها تنتظر من النظام ان يوضح موقفه من نقاط أساسية مثل التجمع الوطني، والجبهة الاسلامية، والمسار الانتخابي. الحوار مع جبهة الانقاذ كانت المعارضة تتهم الرئيس الراحل بوضياف بالعمل من اجل الرجوع الى ما يشبه الحزب الواحد، عبر مشروع "التجمع الوطني" الذي طرحه في الايام الاولى بعد عودته. ولا يزال الهاجس نفسه يراودها اليوم لأن رئيس مجلس الدولة السيد علي كافي جعل الحوار مع المنظمات والجمعيات غير السياسية يسبق الحوار مع الاحزاب، مما يدل على ان مشروع التجمع الوطني ما زال قائماً، وان النظام مازال مصمماً على دعم هذا المشروع فكرة وتنظيماً. واكثر الاحزاب تحسساً من هذا المشروع جبهة التحرير الوطني، الحزب الحاكم سابقاً، التي يحق لها ان تظن ان التجمع الوطني هو بديل فعلي لها، اي جهاز سياسي لدعم المؤسسة العسكرية والجهاز التنفيذي، وهو الدور الذي كان مسنداً لجبهة التحرير وحدها. ووفقاً لما ذكرته ل "الوسط" مصادر مطلعة في الجزائر، فإن تبني مجلس الدولة لمشروع التجمع الوطني لا يتنافى مع ايمانه بالديموقراطية والتعددية المتولدة عنها، فهذا التجمع ما هو إلا اطار اضافي لتجنيد ما يمكن تجنيده من "الاغلبية الصامتة"، تعويضاً عن ضعف الطاقة التعبوية للاحزاب التي يمكن ان تساند النظام وتتكامل معها في الوقت نفسه. وبعبارة اوضح فالتجمع الوطني قد يكون الطرف الاقرب للنظام في ائتلاف محتمل مع عدد من الاحزاب، تشكل في مجموعها كتلة وطنية قوية قادرة على منافسة الاسلاميين في الانتخابات الرئاسية المقبلة. والنقطة الثانية التي تنتظر المعارضة من النظام توضيحها هي: ما مصير الجبهة الاسلامية للانقاذ، وهل ينوي مجلس الدولة محاورتها أم لا؟ وتنقسم المعارضة ازاء هذه النقطة الى فئتين كبيرتين: فئة تناشد النظام محاورة جبهة الانقاذ، انطلاقاً من الاعتقاد بأن الانقاذ "شر لا بد منه" ولا يمكن تجنبه! ونجد ضمن هذه الفئة الاحزاب الاسلامية، مثل حماس والنهضة والامة، كما نجد جبهة التحرير وجبهة القوى الاشتراكية، وهما اكبر منتصرين - بعد الجبهة الاسلامية - في الدورة الاولى من انتخابات 26 كانون الاول ديسمبر الماضي. فئة ثانية تدعو النظام الى مزيد من التشدد مع جبهة الانقاذ، وتحييدها من الساحة السياسية بصفة نهائية! ونجد ضمن هذه الفئة الاحزاب ذات النزعة الشيوعية والعلمانية مثل "الباكس" و"التجمع من اجل الثقافة والديموقراطية". مصير الانتخابات وبخصوص المسار الانتخابي هناك تباين في الآراء حتى داخل الحزب الواحد.. ولعل احسن مثال على ذلك جبهة التحرير الوطني التي يتنازعها تياران: تيار يتمسك بضرورة استئناف الانتخابات النيابية بناء على نتائج الدور الذي أجري في 26 كانون الاول ديسمبر من العام الماضي. وقد حققت الجبهة الاسلامية فوزاً ساحقاً في هذا الدور متبوعة - عن بعد! - بجبهة التحرير فجبهة القوى الاشتراكية. تيار لا يمانع في الغاء نتائج الانتخابات النيابية الجزئية والعودة الى المسار الانتخابي بدءاً بالانتخابات الرئاسية. وهذا التيار هو الغالب على الساحة السياسية بصفة عامة. ويسجل المراقبون السياسيون في العاصمة الجزائرية ان النظام القائم يتهيأ لمحاورة المعارضة في ظروف صعبة، اذ لم يعد يتمتع بهامش مناورة كبير ييسر له التحرك بقدر كاف من الحرية. فالاوضاع الامنية اصبحت مصدر قلق كبير للمواطنين الذين يلاحظون ان الامن الجزائري فقد في محاربة من يسميهم "الارهابيين" الكثير من فعاليته المعهودة، والاوضاع الاجتماعية ليست بأحسن حال، فالمواطنون يتململون تحت وطأة البطالة وغلاء المعيشة وانسداد افق المستقبل، هذا الانسداد الذي يشكل بالنسبة للشباب خصوصاً عامل تمرد وعصيان. فهل ينجح الثنائي علي كافي - بلعيد عبدالسلام في كسب ثقة المعارضة والتعاون معها لفتح آفاق جديدة امام الشعب الجزائري؟ هذا هو السؤال الذي ننتظر الاجابة عنه قريباً.