مرحلة بدأت ولم تنته، ومرحلة تدق الأبواب ولم تتبلور بعد، وخطوات كثيرة مشيناها فيما محطات الوصول ونهاية المطاف غير معروفة. فلا البداية واضحة ولا النهاية محددة. تلك هي سمات مراحل الانتقال حين نترك الملموس والمتعود عليه. وننطلق سعياً وراء اهداف أسمى وأوضاع اكثر اشراقاً. وحين يطول الطريق وتصعب الرؤية نتساءل اذا كنا نتحرك او ندور حول انفسنا، ويتساءل البعض هل نجري لاهثين وراء "سراب" أم تاهت عنا معالم الطريق ودخلنا - على غير رغبة منا - في دهاليز وادي التيه وما المخرج وما الخلاص! من مرحلة الرموز والاشارات الى مرحلة الملموس والمحسوس: لم تكن اجتماعات مدريد وواشنطن وموسكو والاجتماعات الثنائية والمفاوضات المتعددة الاطراف عبثاً وضجيجاً أجوف، بل كانت ولا تزال تمثل صيحات الألم والأمل التي لا يكاد ينقطع صداها في كل ارجاء الدعوة لكل الاطراف بصورة مغرية اثارت شهية هذه الاطراف المتصارعة للاشتراك والمساهمة ونبذ الرفض والسلب املاً في تحقيق المزيد لصالحها القومي واكتساب ايجابيات ومزايا ستخسرها اذا لجأت الى عدم المشاركة، واقبلت الاطراف على الوجود والحضور بدافع من مصالحها الذاتية وآمالها بتحقيق حلول عن طريق التفاوض والسلام استعصى الوصول اليها عن طريق الحرب والاقتتال، والوصول الى هذه القناعة يعتبر من الناحية التاريخية انجازاً لا يستهان به. وما رأيناه على المسرح السياسي منذ مدريد وحتى اليوم ليس سوى اضواء وأصوات ودعاوى الاطراف وهم يلجون هذا المسرح الجديد ويسيطرون بالمفاوضة والعملية السياسية قسمات ونصوص هذه المسرحية السياسية الجديدة. هذه المرحلة السابقة هي المقدمة التي يستعرض فيها كل طرف نواياه السلمية وتصوره للسلام ويبرز النواحي الايجابية في دعوته ويجمع التأييد ويكشف الاعيب الطرف الآخر ويختبر نواياه ويحاول استطلاع خباياه. هي مرحلة الحوار بالاشارة والرمز والمجردات، وهي مرحلة اختبار لنوايا الاطراف: هل هي جادة ام انها تريد استهلاك الزمن في الوقوف في حالة "محلك سر" بينما توهم الاطراف الاخرى بأنها تتحرك؟ لقد نجحت هذه المرحلة في وصول الاطراف الى حافة البحيرة، ولكنها لم تحقق بعد قيام الاطراف بالغرف من المياه او حتى اختبار نوعيتها ودرجة حرارتها وطبيعة تكوينها. وثبت لنا الآن صحة الشكوك التي كانت تخالجنا من ان اسحق شامير لم يكن جاداً في المفاوضات مع الفلسطينيين، فقد اعترف بأنه كان يريد كسب الوقت عن طريق الدردشة المستمرة معهم على اساس مجرد القيام بتواصل ما انقطع من حديث من دون الوصول الى مضمون جدي او ملموس، اراد شامير ان يوقف الزمن الفلسطيني في حالة شلل وجمود حتى يتمكن من تهجير نصف مليون من اللاجئين اليهود من روسيا والدول الشرقية حتى يحقق تغييراً جوهرياً في التكوين السكاني والسياسي للأراضي المحتلة، وحاول شامير في الوقت نفسه استشراف امكانية الوصول الى درجات من التفاهم بين الدول العربية، ثنائياً او عن طريق المفاوضات المتعددة. ولكن مناورات شامير ارتدت الى صدره وأصابته وسياسة الليكود بالشلل السياسي والاقتصادي، فاختفى عن المسرح السياسي وفقد الليكود سيطرته على مقاليد السياسة الاسرائيلية وانتصر اسحق رابين زعيم حزب العمل وترأس الحكومة الاسرائيلية الجديدة. وثبت انه امام اصرار دولي على المفاوضة، كأسلوب لادارة وحل النزاع، تصبح معها سياسة الرفض الصريح والمقنع خنجراً من دون حدين يصيب حامله قبل ان يصيب الخصم. الدور المصري ان العملية السياسية ليست مجرد المفاوضات، خصوصاً ان الصراع العربي - الاسرائيلي هو صراع متداخل وممتد وتختلف رؤى هذا الصراع ومدركاته ليس فقط بين الجانبين اذ في داخل كل جانب جماعات وأحزاب لها رؤى مختلفة لطبيعة النزاع ولوسائل ادارته، فهناك جماعات في كلا الجانبين تؤمن باستحالة قيام حل عادل او حتى حل معقول والحل الوحيد هو سيطرة جانب على الآخر، وهناك جماعات ترى امكانية الوصول الى تسويات وسيطة تخفف من الضغوط وترفع بعض الكبت والاحباط، وهناك جماعات اخرى تسعى الى الوصول الى مصالحة تاريخية غير محددة المعالم حتى وان قامت على مبادئ متفق عليها، اذ ان جميع الجماعات وعلى طول الخطوط الفاصلة بين الجانبين تفضل في عقلها الواعي واللاواعي ان يصبح الجانب الآخر "غير موجود"، اي يصبح وكأنه لم يكن، فنجد دعوى "الترانسفير" تتقابل مع دعوى رحيل الاسرائيليين الى بلادهم الاصلية، وإذا كانت هذه الدعوى خفت نسبياً حيث ان اغلبية سكان اسرائيل اصبحوا من المولودين على ارضها، فبالمقابل نجد حزب "اتحيا" فقد مقاعده في الكنيست، ولكن ذاك لا يمنع وجود حالة تمن او فانتازي لدى الطرفين في اختفاء الطرف الآخر. العملية السياسية هي عملية جمع للقوى المتقابلة على اساس درجة من التفاهم المشترك والمصلحة المشتركة كبلورة تقدم وتحرك سياسي يخدم الجانبين ويصعد المصالح المشتركة سعياً وراء المصالحة التاريخية. من هذا المدخل يجب ان ندرك ان بلورة وسائل اقامة الثقة المتبادلة وبناء صرحها وتغيير مدركات كل طرف نحو الطرف الآخر بحيث يفهم عقلياً ويدرك نفسياً الدوافع والنوازع والمصالح التي تحركه، وكلما وصلنا الى فهم وجداني ورشيد لكل طرف كلما قلت التقنيات التي تفسر مسلك الطرف الآخر على أسس مذهبية او رؤيته من خلال نظرة شيطانية خالصة. ان السلام يتحقق عن غير طريق القهر والالزام، بل عن طريق خلق مساحات متوازية لدى الجانبين حيث يجدان ان مصلحتهما الذاتية تتحقق بطريقة افضل وبعناء اقل عن طريق بناء علامات سلمية، ان المصالح الذاتية المستنيرة هي خير مسلك للعملية السلمية في مراحلها الاولى، ولما كانت الثقة مفقودة بين الطرفين ولما كانت هناك جماعات تعمل بنشاط على تحطيم الثقة وبذر الشكوك والمخاوف فان عملية السلام تعتمد على تصعيد وتأمين مساحة الثقة والأمن المتبادل والمصلحة المتبادلة، هذه العملية المعقدة تستغرق وقتاً طويلاً حتى بغرض توفر حسن النية وعدم المناورة بكسب الوقت. ولا يجب ان ننسى ان مؤتمر السلام الاول بين مصر وإسرائيل كان في 21 كانون الأول ديسمبر 1973 ثم جاء فك الاشتباك الأول والثاني ثم زيارة القدس ثم اتفاقية السلام ثم تنفيذ اتفاقية السلام، الزمن المدعم بالعمل والفكر وتجميع قوى التأييد هو مفتاح السلام، وتمثل مصر من وجهة النظر الاسرائيلية حالة اسهل من القضية الفلسطينية حيث انهم يعتبرون ان ارض مصر لا تدخل في نطاق ارض اسرائيل ارتزا اسرائيل بل ان هناك توصيات دينية بعدم العودة اليها، وبينما نجد ان الجولان لا يشكل جزءاً من ارض اسرائيل الا انه يشكل التهديد الامني الرئيسي لاسرائيل، ويلاحظ ان معظم المستوطنات في الجولان هي مستوطنات حزب العمل وسكانه جزء من الناخبين المؤيدين له، وكانت مساحة سيناء تختلف من حيث توفير الأمن عن مساحة الضفة والجولان. منذ ان بادرت مصر الى السلام وهي المحارب الرئيسي في الجانب العربي، فصرح السلام يقوم اساساً على العلاقة المباشرة بين مصر وإسرائيل، وتعتبر هذه العلاقة المحك الرئيسي لطبيعة السلام، فإذا اصابها الجمود او البرود اصيب السلام ذاته بالداء نفسه، وإذا دب فيها الدفء والحياة اعتبر ذلك نجاحاً لمصداقية السلام وأكبر دليل على اثبات ان اختيار السلام هو الاختيار الاجدى فائدة وتأثيراً، وحتى يتنامى هذا الشعور، وهو شرط لا غنى عنه لتنامي السلام بين الاطراف، فلا بد ان تدب الحياة في هذه العلاقة المصرية - الاسرائيلية، ولكن مصر، وهي الطرف العربي المبادر بالسلام، امتنعت عن فصل التطبيع الثنائي مع اسرائيل عن مجمل العلاقات العربية - الاسرائيلية، خصوصاً العلاقات بين الفلسطينيين والاسرائيليين. وأمام الممارسات الاسرائيلية السلبية كان لا بد لمصر - حكومة وشعباً - من ان تكتفي بسلام الحد الادنى، فليس من الطبيعي ان تكون العلاقات الثنائية عادية اذا كانت العلاقات العربية - الاسرائيلية سلبية. اما اليوم وقد أخذت حكومة اسحق رابين بتقديم طروحات ايجابية وبدأت بفتح أبواب الحركة والتقدم فلا بد ان تقوم مصر بدفع الدفء والحركة في علاقاتها مع اسرائيل اثباتاً لمزايا السلام وإظهاراً لمردوده الايجابي وأهمية الاسراع بالحركة السلمية وتزايد قوة دفعها بين جميع الاطراف. وهناك خصوصية لا يجب ان تنسى وهي ان الرئيس حسني مبارك يفعل ما يقول صراحة ومباشرة من دون مراوغة او تلاعب بالأقوال والافعال، وأعتقد ان لهذه الخصوصية اهمية في ثبات خطى التحرك السلمي، كما ان مصلحة السلام تقتضي ان تتحرك مصر بخطى حثيثة ثابتة لتقوية قواعد السلام وتوسيعها وتثبيتها وكسب التأييد والانصار لها في داخل اسرائيل وفي الدوائر الدولية المؤيدة لاسرائيل، وأعتقد ان مصر ستتحرك، بل ويجب ان تتحرك، على الصعيد الحكومي والصعيد العام لدفع عملية السلام قدماً على كل المستويات الحكومية والشعبية والسياسية والانسانية. هناك اولويات واهتمامات وهموم عربية مختلفة، فلكل طرف تقديراته ومخاوفه وأولوياته، وأسبقية التحرك تتباين وتختلف، ولكل طرف عربي مخاوفه وحساسيته للأوضاع الخاصة به، ونظراً الى ان السلام عملية طويلة ومعقدة وهو لن يقدم لنا على طبق من ذهب، فالعملية تتطلب العمل الدائب والتعبئة وكسب التأييد والتحرك لفتح مجالات التقدم، كل ذلك يفترض بذل مجهود متواصل لطرح الاولوية العربية والتنسيق بين المواقف العربية والابتعاد عن الجمود والتعثر والاحتفاظ المتواصل بقوة دفع السلام. ومن جانب آخر على مصر ان تواصل بالثبات والمثابرة نفسيهما استكشاف الارضية المشتركة في كل مرحلة وفي اي تحرك، بين المواقف العربية والاسرائيلية وان تعمل بكفاءة وإبداع لتضييق فجوات الخلاف وإيجاد المعابر والحلول حين تبدو العقبات او يتوقف السعي او تكل الخطى، هذا الجهد يجب الا يقتصر على الاطراف المتصارعة المتفاوضة، بل يجب ان يمتد ليحتوي كل الاطراف الدولية الراعية والمشاركة. ان عملية السلام هي عملية شاقة وطويلة الامد وباهظة التكاليف ولكنها تمثل خير استثمار في المدى الطويل لكل الاطراف، ولا بد لنا من كسب التأييد والتمويل والضمانات المطلوبة لنجاحها من كل القوى الدولية، وإذا كانت حروبنا الساخنة والباردة استقطبت الدول الكبرى فلا بد لنا من مواصلة هذا الاستقطاب لانجاح السلام وإرساء قواعد لعبة السلام واحترام الاطراف لها، السلام بمفهومه الشامل يمثل ثورة حقيقية للوضع الراهن منذ نصف قرن من الزمان. ونظراً الى وعورة الطريق ووجود اختلافات واسعة في مواقف الجانبين فاننا في حاجة الى الخلق والابداع والمبادرة والدعم، بالتوازي مع ايجاد "شبكة الامان" لانقاذ المواقف من التعثر والتوقف والقلق والاحباط، ومصر عليها ان تلعب دوراً فعالاً في المبادرة والخلق كما ان عليها ان تمسك الايدي للتأمين والمساندة بينما تواصل البحث عن مخارج للسبل المغلقة وتدفع الحركة عندما تتوقف الخطى، فالطريق طويل والافق غير مستكشف والرؤية يكسوها جو يتراوح بين الغموض والوضوح، ولكن امامنا فرصة سانحة لا يجب ان تضيع. * مندوب مصر الأسبق لدى الجامعة العربية والمتحدث الرسمي لمصر في عهدي عبدالناصر والسادات.