تعلو المرجعية الشيعية التقليدية - عادة - على الخلافات بين البلدان ولا تعترف باختلاف الاعراق والجنسيات والشعوب والقبائل، حتى الحروب الطاحنة لا تحول دون قيام المرجعية بوظائفها الدينية والارشادية. وآية هذا الكلام، ان حرباً كأشد ما تكون فتكاً ودماراً، اشتعلت بين ايرانوالعراق واستمرت بشراسة ضارية ثمانية اعوام، ولكن الزعيم الديني الايراني السىد ابو القاسم الخوئي احتفظ خلال تلك السنين المضطرمة حقداً وناراً بمركزه، وبمدرسته الدينية، وما يصطلح عليه لدى علماء الشيعة باسم "الحوزة"، وظلت هذه الحوزة تمارس دورها في النجف في العراق وظل متمسكاً بجنسيته الايرانية. ومثال آخر على ان المرجعية هي فوق الاعتبارات السياسية، هو ما كان يحصل في مواسم الحج في الاعوام التي كانت العلاقات مقطوعة بين ايران والمملكة العربية السعودية. في تلك السنين كان اهل بيت الخوئي، وعلى رأسهم نجله حجة الاسلام محمد تقي الخوئي يشدّون الرحال الى بيت الله الحرام بجوازاتهم الايرانية من العراق وسورية، وكان النجل السيد محمد تقي يترأس بعثة والده الى الحج ويشارك في اداء المناسك ويتولى ارشاد مقلدي ابيه من مختلف الاقطار في تأدية الشعائر. ولا يصدق هذا الكلام، على زماننا فحسب، وانما هي سُنة جرت في الازمنة الغابرة ايضا. وخير دليل على ذلك ان الحروب كانت سجالاً بين ايران والدولة العثمانية، نحو خمسة قرون. وكان العراق تحت حكم العثمانيين معظم السنين. ولكن تلك الحروب وسيطرة الخلافة العثمانية على العراق، لم تترك اي اثر غير مريح على مراكز مراجع تقليد الشيعة في النجف والكوفة وكربلاء والكاظمية وسامراء. وكانت التسهيلات توفر للمراجع ولطلاب العلوم الدينية في حوزاتهم. والمرجعية الشيعية لا تحصل اعتباطاً، كما انه ليس للحكومات يد في فرضها. وليست هناك هيئة تتولى اختيار المرجع كما يقع في الفاتيكان حيث ينتخب الكرادلة البابا. وليس حتمياً ان ينفرد المرجع بالزعامة المذهبية للطائفة الشيعية. ويحدث كثيراً ان تتعدد المراجع في زمن واحد، كما هو الحاصل حالياً بعد رحيل السيد الخوئي. وحقيقة الامر ان العملية على رغم بساطتها لا تخول من التعقيد، وتقوم على اساس ان معظم الشيعة الامامية لا ترى العمل بفتاوى فقيه ليس على قيد الحياة، وتحتم البحث عن مجتهد فقيه حي يرزق يتميز على اقرانه بالعلم والفضل والتقوى. وبعد العثور على مجتهد يتسم بهذه الصفات المميزة يجب تقليده اي الاعتماد على فتاويه في فروع الدين. وليس بلوغ درجة الاجتهاد في الفقه بالأمر العسير فكل طالب علم مكب على تعلم العلوم العربية والاسلامية دؤوب في مواظبة الحضور في حلقات دروس الفقه والاصول والسهر على مراجعتها واستيعابها، كل طالب يتميز بهذه المزايا، لا يصعب عليه نيل درجة الاجتهاد اذا ارادها وجدّ في طلبها. فبعد ان يحس في نفسه انه قادر على استنباط فروع الفقه من اصوله، يعد رسالة يشرح فيها آراءه الفقهية في المسائل الفرعية ويرفع تلك الرسالة الى كبار اساتذته الذين لا بد ان يكونوا من المراجع، فيمعنون في تلك الرسالة تدقيقاً وتمحيصاً وقد سبق ان خبروا استعداد الطالب ومستوى علمه في حلقات الدروس الدينية وحققوا حول مؤهلاته النفسية والاخلاقية. وبعد الاطمئنان الى كل ذلك، يجيز اولئك العلماء صاحب الرسالة التي تشبه اطروحة الدكتوراه في الجامعات الحديثة. فالحصول على مرتبة الاجتهاد ليس صعباً، ولكن المرحلة الصعبة التي تتقطع دونها الاعناق، هي التي تبدأ بعد حيازة رتبة الاجتهاد. ومن مرحلة الاجتهاد الى مرحلة المرجعية لا بد من اجتياز طريق وعر المسالك جم المهالك بعيد الغاية. ولا تتوفر اسباب المرجعية الا بضمانات: اولاها تأييد الخاصة من الفضلاء ومدرسي المدارس الدينية العليا، اي الحوزات العلمية وعلى رأسهم كبار العلماء والفقهاء والمراجع. والثانية قبول العامة والسمعة الطيبة لدى عامة الشعب بالزهد والورع ورجاحة العقل والترفع عن الصغائر وحسن التدبير وسعة المعرفة. والثالثة هي خلو الساحة من المنافسين. وهذا الشرط الاخير يحتاج الى عمر مديد ونفس طويل. فالتابعون لأي مرجع - ونعني الذين يقلدونه في الفروع من الدين - هؤلاء التابعون والمقلدون لا يرتضون عادة استبدال مرجعهم بآخر، الا في حالات نادرة واستثنائية قصوى، مثل ان يثبت انحرافه عن الصراط المستقيم او اختلال مشاعره، وما اشبه ذلك. والسبب الوحيد السليم للانتقال في التقليد من مرجع الى مرجع هو ان ينتقل المرجع الاول الى جوار ربه. ويصبح تابعه حراً في ان يختار لنفسه مرجعاً آخر يرتضيه ويعمل حسب فتاويه. وبعد رحيل آية الله الخميني، انحصرت المرجعية الكبرى في الآيات العظام الاربعة: الإمام الخوئي، وآية الله الجلبايجاني، وآية الله المرعشي النجفي، وآية الله الاراكي. وبعد عام وبضعة اشهر من غياب الخميني، تبعه آية الله السيد شهاب الدين المرعشي النجفي الى المثوى الاخير. وفي اليوم الثامن من شهر آب اغسطس الحالي والذي صادف ذكرى توقف الحرب العراقية - الايرانية، نعى الناعي المرجع الاعلى السيد ابو القاسم الخوئي. ولم يبق اليوم من الثلاثة الذين مر ذكرهم في سدة المرجعية العليا سوى آية الله محمد رضا الجلبايجاني المقيم في مدينة قم في ايران. دور ايران كان السيد ابو القاسم الخوئي يفوق في أواخر حياته سائر المراجع من حيث كثرة عدد المقلدين، كما كان موقع اكبار من حيث غزارة علمه وتقواه وحصافة رأيه وبعد بصيرته. وقد استطاع الخوئي المحافظة على استقلاليته ازاء الصلاحيات الكبرى التي نجح آية الله الخميني في ان يحققها لنفسه، فلم يؤيد الخوئي الثورة الاسلامية او مبادرات الخميني، لكنه في الوقت نفسه لم يعرب عن رفضه ومعارضته لها. ولد السيد ابو القاسم بن السيد علي اكبر بن المير هاشم الموسوي الخوئي النجفي في مدينة خوي شمال منطقة أذربيجانالايرانية في 15 رجب عام 1317 ه 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 1899م، ثم انتقل وهو في الثالثة عشرة من العمر للاقامة في النجف. وأقبل الخوئي في السنوات الاولى من اقامته في النجف على دراسة العلوم الادبية والمنطق والاصول والفقه وعلم الكلام والفلسفة وغير ذلك. ثم حضر المحاضرات التخصصية واسمها في الحوزات العلمية "دروس الخارج" على اكابر المدرسين. وفي سنة 1352 ه شهد عدد كبير من العلماء بمقام الخوئي العلمي فتوجه الخوئي الى التدريس، وصار مجلس بحثه هو الاول من نوعه. فقد حضره نخبة من الاساتذة ومئات من رواد العلم وذلك في مسجد الخضراء. وكان يمتلئ بالطلاب والمستمعين من مختلف الجنسيات حتى اصبح المدرس الاول والمربي الوحيد للحوزة العلمية. وكان الخوئي يقوم بالقاء المحاضرات ونشر عدداً كبيراً من الكتب منها ما هو في الفقه، ومنها ما هو في اصول الفقه. وللسيد الخوئي مواقفه المعروفة من القضايا التي تهم العالم الاسلامي، وبالذات قضية فلسطين التي أفتى بضرورة الدفاع عنها، وتحرير القدس الشريف، وقد اعلن الجهاد المقدس في سبيل ذلك. المرجعية هي نظام القيادة الدينية عند الشيعة الامامية وهم يعتقدون ان الحكم وادارة المجتمع يجب ان يوكلا الى المجتهدين الجامعين لشرائط العلم والتقوى ومعرفة الزمان، والمنتخبين من قبل عامة الناس. لكن حدود صلاحيات المرجع، هي محل اختلاف بين الفقهاء، فبعضهم، مثل الخميني، كان يرى ان الفقيه القائم بولاية الأمر يتمتع بصلاحيات واسعة بينما كان فقهاء آخرون كالسيد الخوئي يرون ان ولاية الفقيه محددة في الامور الشرعية، اضافة الى الولاية على الايتام والاوقاف وما الى ذلك، وتسمى الولاية الخاصة، بينما يطلق على الصيغة الموسعة التي تبناها الخميني "الولاية العامة". وهذا ما جعل للخوئي مكانته يمارس الولاية الخاصة، سواء في عهد الخميني او بعده. وفي هذا الاطار الذي حدده الخوئي لنفسه كان يقوم بنشاط خيري كبير اشتمل على انشاء عدد كبير من المدارس والمعاهد العلمية والمساجد والمستشفيات ودور الايتام والرعاية الاجتماعية وغيرها، ومنها مؤسسة الخوئي في لندن التي لها طابع دولي تعنى بفعاليات خيرية ودينية وتعليمية واعلامية وثقافية واسعة وتصدر مجلة شهرية باسم النور باللغتين العربية والانكليزية. ومن المستبعد ان يجتمع في المستقبل المنظور لاحد علماء الشيعة ما اجتمع للسيد ابو القاسم الخوئي من زعامة ومركز فقهي وعلمي. وبقى من جيل الخوئي من الآيات الكبار آية الله محمد رضا جلبايجاني وآية الله محمد علي أراكي. وقد أبرق مرشد الجمهورية الايرانية علي خامنئي اليهما يعزيهما بوفاة زميلهما الخوئي. وهذا يدل، حسب العرف بين الايرانيين، على ان الشخصين آنفي الذكر هما المرشحان لملء الفراغ بعد الخوئي كما اصدرت جماعات من مدرسي الحوزة العلمية في قم بيانات توصي الناس فيها بالرجوع الى جلبايجاني وأراكي بعد الخوئي مما يدل على ان الاتجاه الرسمي للحكومة الايرانية هو دعم الشخصيتين المذكورتين لخلافة الخوئي. اما الجيل الذي يأتي بعد جيل جلبايجاني واراكي من كبار العلماء والمرشحين فعدده غير قليل، ويتجاوز الاقدمون منهم عدد اصابع اليدين. والاكيد ان ايران لها رأيها الخاص في موضوع خلافة الخوئي ولن تدعه يفلت من يديها. دراسة خاصة من اعداد مركز "الدراسات الايرانية - العربية" في لندن