ينتظر العراقيون بمزيد من القلق والترقب ما سيسفر عنه تطور الاحداث في الأيام القليلة المقبلة. ومرجع ذلك الى انه في الوقت الذي لم تستبعد الدول المتحالفة احتمال توجيه ضربة عسكرية اخرى للعراق، أعلنت تلك الدول تشكيل منطقة شيعية آمنة جنوب خط عرض 32، على غرار نظيرتها الكردية شمال خط عرض 36. ومن الناحية النظرية، تجد الخطوة الغربية الجديدة سندها في القرار رقم 688 الصادر في الخامس من نيسان ابريل 1991. وكان القرار المذكور أتى على بيان ثلاثة أنواع من الالتزامات أو المطالبات الأساسية، أحدها يخص العراق ويتعهد بمقتضاه بوقف قمع مواطنيه وفتح حوار معهم حول حقوقهم المدنية والسياسية فضلاً عن التعاون مع الأمين العام للأمم المتحدة من أجل تسهيل عمل المنظمات الانسانية الدولية، والآخر يوجه الى الأمين العام نفسه ويطالبه برفع تقرير عن وضع اكراد العراق وتوظيف كل امكانات المنظمة العالمية لتلبية حاجات المواطنين، اما الالتزام الثالث والأخير فهو يتصل بكل الدول الاعضاء والمنظمات الانسانية ويدعوها الى المساهمة في دعم جهود الاغاثة الدولية. وعلى رغم ذلك، فإن منع الطائرات العسكرية العراقية من التحليق فوق الجنوب فجّر جدلاً واسعاً في أوساط المثقفين العرب حول درجة حجته القانونية. فعلى جانب، كان هناك الرافضون رفضاً قاطعاً لهذا التطور، وحجتهم في ذلك انه يمثل "انتهاكاً سافراً لمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاعضاء" احد اهم المبادئ التي قامت عليها الأممالمتحدة، فضلاً عن كونهم يتشككون في مشروعية القرار الرقم 687 والقرار رقم 688 المكمل له "بسبب انتقاصهما من سيادة العراق". وعلى جانب آخر، كان هناك الداعون الى التعامل مع الخطوة الغربية بقدر أكبر من المرونة ووضعها في سياقها الزمني السليم، وحجتهم في ذلك ان حقوق الانسان اصبحت قضية محورية من قضايا العلاقات الدولية الأمر الذي لا يسوغ إغفال جرائم بعض النظم الشمولية في حق شعوبها تحت دعوى احترام السيادة الوطنية. اكثر من ذلك، مضى انصار هذا الرأي خطوة أبعد بربطهم تنفيذ القرارين ربطاً مباشراً بتحقيق مبادئ وأهداف الأممالمتحدة، على اعتبار ان اخضاع النظام العراقي، بما عرف عنه من نوايا توسعية، يتفق تماماً مع المحافظة على السلم والأمن الدوليين. ومع التسليم بأن القوى الوطنية في العراق، كما في بعض النظم الاستبدادية الاخرى، هي من الضعف الذاتي بما لا يمكّنها من التحرك وحدها بفعالية، الا انه من الأهمية بمكان التمييز في هذا الخصوص بين أمرين مختلفين: أحدهما هو الدعم الدولي للمعارضة السياسية وهو حق مشروع، والآخر هو التصنيف الطائفي لفصائل تلك المعارضة وهو ما يصعب الاتفاق معه. إن وضع شيعة الجنوب تحت حماية الدول الغربية خطوة بالغة الأهمية بقدر ما تتضمن التأثير على مستقبل التطور السياسي للعراق. وتلك الملاحظة تتأكد اكثر على ضوء دراسة كل من توقيت اعلان الحماية، وإجراءاتها التنفيذية وتداعياتها المحتملة. من حيث التوقيت، فإن السؤال الذي يتبادر فوراً الى الأذهان هو: لماذا توفير الحماية الآن للشيعة؟ لقد كان السبب المباشر لإعلان الحماية هو تكثيف العراق طلعاته الجوية على الجنوب بدعوى تسرب اعداد كبيرة من الايرانيين الى الداخل لتنفيذ عمليات تخريب واسعة النطاق. ولكن ما أكثر ما بطشت حكومات العراق بأهالي الجنوب وما أشد ما عانى هؤلاء في وطنهم. والحماس الديني للشيعة وتعاطفهم مع إيران كانا ذريعتين جاهزتين لشن أبشع حملات القمع الوحشي ضدهم إبان توتر العلاقات العراقية - الايرانية وبصفة أخص بعد قيام الجمهورية الاسلامية في ايران. نموذج هذا القمع نجده في عام 1974 وبشكل أوضح في عام 1980 عندما تم ترحيل زهاء 35 ألف عراقي ترحيلاً إجبارياً الى إيران بحجة انهم يتحدرون من اصول فارسية، كما ان هذا العام شهد، وللمرة الاولى، اعدام اول قيادة دينية عراقية بارزة وهو محمد باقر الصدر وشقيقته بنت الهدى، وشكل سابقة اعاد النظام تكرارها فيما بعد حتى ان الفترة بين 1983 و1985 شهدت تصفية ما يربو على 15 شخصاً من عائلة الحكيم التي تحدر منها محسن الحكيم المرجع الأعلى للشيعة في الستينات، بمن في ذلك ابنه مهدي الحكيم شقيق محمد باقر الحكيم الرئيس الحالي للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق. أكثر من ذلك، فإن اخماد النظام البعثي الانتفاضة التي اندلعت في الجنوب في أعقاب حرب الخليج الثانية لم يشفع للشيعة العراقيين في ان يحصلوا على معاملة مساوية للأكراد في الشمال، على رغم كون تلك الفكرة كانت مطروحة في حينها. وفي هذا السياق، يمكن القول ان قرار حماية الشيعة لا شأن له من الناحية الفعلية بحجم معاناتهم، شأنه في ذلك شأن السياسات الاستعمارية السابقة تجاه الموارنة في لبنان او البربر في الجزائر والمغرب او سكان الجنوب في السودان، لكنه في جوهره وثيق الصلة بتغير التكتيكات الغربية تجاه صدام حسين. لقد وجدت الولاياتالمتحدة ان حاكم العراق اصبح يشكل عبئاً ثقيلاً عليها بعد دأبه على تحدي ارادتها ثم التراجع في اللحظة الاخيرة، ومن ثم بدأ التفكير في الالتفاف حوله من الجنوب بعد محاصرته من الشمال. ويمكن القول، ان حماية اهالي الجنوب تترجم بصدق طبيعة الرؤية الاميركية لملامح النظام الدولي الجديد كما جسدتها الوثيقة التي نشرتها "نيويورك تايمز" في شهر آذار مارس الماضي والتي جعلت من منع أي تحد للهيمنة الاميركية شرطاً ضرورياً لتأكيد ظاهرة القطب الأوحد. ويزيد في حساسية الموقف ان الولاياتالمتحدة تعاصر حملة انتخابية حادة، يعد فيها تأديب العراق إحدى القضايا الأساسية التي يلتف حولها اكثر الاميركيين حوالي 70 في المئة. ولقد احسن احد المصادر تصوير الأزمة الحالية بين العراقوالولاياتالمتحدة بأنها لعبة القط والفأر بين نظامين كلاهما يعاني من مشاكل داخلية: النظام العراقي بسبب احكام الحصار الاقتصادي عليه منذ عامين ورغبته في الظهور امام شعبه بمظهر من ينازل الولاياتالمتحدة، والنظام الاميركي الذي يضع التحدي العراقي زعامته الكونية على المحك. وتلك كانت الخلفية التي اتخذ فيها قرار حماية اهالي جنوبالعراق. الفكرة بريطانية لا اميركية ولعل من المفارقة، ان فكرة حماية الاقليات من خلال نظام "الجيوب الآمنة" التي تقترن حالياً باسم الولاياتالمتحدة، لم تكن في الأصل فكرة اميركية، لكنها كانت فكرة بريطانية تقدم بها رئيس الوزراء البريطاني جون ميجور في اعقاب حرب الخليج بقصد حماية اللاجئين الأكراد وتكوين نقاط لتجمعهم وتزويدهم بالمساعدات الانسانية والغذائية. وعلى رغم ان تلك الفكرة شجعت بعض اقطاب المعارضة الشيعية على طلب تدخل بريطانيا لتوسيع نطاق الجيوب الآمنة بما يشمل الاجزاء الجنوبية إلا ان طلبهم لم يلق استجابة بريطانية كافية اكثر من ذلك، ورغم كون المواجهة الحالية تتخذ طابعاً اميركياً - عراقياً بالأساس إلا ان بريطانيا ظلت لفترة طويلة تتزعم الجناح المتشدد في اطار التحالف الغربي وربطت موافقتها على رفع العقوبات عن العراق بإطاحة صدام حسين من السلطة، وساعد على ذلك تصاعد حدة المعارضة الداخلية للحكومة البريطانية بسبب الكشف عن تورطها في تطوير اسلحة الدمار الشامل العراقية، الأمر الذي سبب حرجاً بالغاً لرئيس الحكومة جون ميجور. ومن حيث الإجراءات يلاحظ ان ظهور فكرة حماية شيعة الجنوب، بمعزل عن السياق التاريخي لقضية الشيعة العراقيين بوجه خاص، بل وبمعزل عن السياق الموضوعي الأشمل لقضايا حقوق الإنسان في بقاع اخرى من العالم كيوغوسلافيا او اسرائيل على سبيل المثال، فإن هذا استدعى اختزال بعض الاجراءات القانونية اللازمة لوضع تلك الفكرة موضع التنفيذ. ومن بين النقاط القانونية التي أثارت جدلاً بخصوصها تلك المتصلة بالجهة المخولة بتوجيه انذار للعراق بعدم تحليق طائراته الحربية فوق الجنوب وما اذا كانت هي مجلس الأمن أم الدول الغربية الثلاث: الولاياتالمتحدةوبريطانيا وفرنسا، البعض تمسك بالرجوع إلى مجلس الأمن باعتباره يمثل جهة الاختصاص، والبعض الآخر قلل من الأهمية العملية للذهاب الى المجلس على أساس ان الوجود الغربي فيه يجعل من قراراته تحصيل حاصل، والبعض الثالث أكد ان تقوم الدول الثلاث بتوجيه الانذار بنفسها على أساس ان انتهاك العراق للقرار رقم 688 يخولها تلقائياً حق اتخاذ التدابير الملائمة لحمل العراق على الاذعان، إضافة الى ذلك كانت هناك مجموعة من النقاط التفصيلية الخاصة بفحوى الانذار وما اذا كان ينبغي تضمينه طبيعة التدابير العقابية المزمعة أم لا، ونطاق المنطقة الجنوبية المحمية وكيفية توفير تلك الحماية. بيد ان الملاحظة الأساسية في هذا الخصوص هي ان تلك الاجراءات تعكس في جوهرها الهيمنة الغربية، لا سيما الاميركية، على الأممالمتحدة وهي هيمنة لا تبدو فقط في انتزاع حق اتخاذ بعض القرارات الدولية الملزمة من المنظمة العالمية لكنها تتجلى ايضاً في كون استخدام القوة الدولية لا يرتبط بالضرورة ولا يتقيد بالتنفيذ الصارم لتلك القرارات. ولقد تأكدت تلك الحقيقة بوضوح من خلال تصريحات بعض المسؤولين الاميركيين حول احتمال تجدد القتال مع القوات العراقية في الجنوب، حتى ولو لم تقدم تلك القوات على انتهاك اتفاق وقف اطلاق النار بصورة فعالة. وعلى صعيد آخر تكشف تلك الاجراءات عن كون القضية العراقية ما زالت احد عوامل تصليب التحالف الغربي الذي انبثق من حرب الخليج وذلك في مواجهة الكثير من قضايا السياسة الخارجية الاخرى التي شكلت محاور للخلاف لا سيما بين الولاياتالمتحدة وفرنسا. ويفسر لنا ذلك مبادرة الدول الثلاث الى نفي ما تردد عن تعذر اتفاقها حول بعض الاجراءات التنفيذية لاقامة المحمية الشيعية الجنوبية في اعقاب تصريحات الناطق باسم البيت الابيض والتي كانت تفيد هذا المعنى. كما يفسر لنا ايضاً حرص تلك الدول على اضفاء الطابع "الدولي" على تحالفها بمحاولة اجتذاب المزيد من الاعضاء. 3 دويلات؟ اما من حيث التداعيات يصبح السؤال المثار هنا هو: ما تأثير اقامة المحمية الجنوبية على وحدة اراضي العراق؟ من الناحية الشكلية لا نزال في اطار عراقي موحد يتمتع بحدوده الدولية الراهنة نفسها وما زلنا في كل ما نقرأ وكل ما نسمع من تصريحات صادرة عن مسؤولي الدول الثلاث نجد اجماعاً على رفض تجزئة العراق وتأكيداً على وحدته. ولكن من الناحية الفعلية فان هذه الخطوة الجديدة تؤدي الى وجود 3 "دويلات" مختلفة الهوية داخل الحدود العراقية: دولة كردية في الشمال، وأخرى شيعية في الجنوب وكلتاهما منقوصة السيادة وتقع تحت الحماية الغربية، ودولة سنية في الوسط هي بدورها منقوصة السيادة لكنها لا تتمتع بالحماية الغربية. اكثر من ذلك فإن هناك ضغطاً مستمراً في اتجاه توسيع نطاق الجيوب الآمنة وصلاحياتها في الشمال والجنوب على حساب الوسط الذي يفترض انه سيشكل القاعدة الأرضية لدولة العراق، فيما لو تكرس التقسيم الحالي. ولعل تلك النقطة تحديداً تكمن وراء القلق البالغ الذي أعرب عنه الكثير من الدوائر العربية إزاء تقييد السيادة الجوية العراقية على منطقة الأهوار في الجنوب ذلك ان تقسيم العراق ينطوي على خطر كبير بالنسبة الى عدد من الدول مثل سورية ولبنان وسواهما. لقد اصبحت كردستان العراق تملك مؤهلات الانفصال خصوصاً انها تتمتع الآن ببرلمان وحكومة. أخطر من ذلك، أعرب بعض زعمائها عن استعدادهم للانضمام الى الكيان السياسي التركي بوصفه يمثل نموذجاً للدولة الديموقراطية المأمولة. وليس ثمة ما يمنع من تطور مماثل في جنوبالعراق، وما من أحد يستطيع ان ينكر على شيعة العراق حقهم في الحكم الذاتي وأمامهم النموذج الكردي في الشمال ولديهم اضافة الى ذلك ما يشبه الرخصة الدولية بالاشارة الاميركية - الفرنسية الاخيرة لاحتمال اقامة نظام فيديرالي في العراق. وهنا ومهما كانت صحة التحليلات عن تدهور علاقة إيران بشيعة العراق بعد وفاة الخميني أو عن كون العرب لا يحظون بالمساواة مع الفرس في دولتهم فإن تقلص وربما انتهاء النفوذ العراقي على المنطقة الجنوبية لا بد وأن يترجم على الفور بنفوذ ايراني مقابل يتقدم لملء الفراغ. ولعل من المفيد في هذا الشأن مراقبة السلوك الايراني بشأن الازمة العراقية - الاميركية الاخيرة ورصد مساعي القيادة في طهران لصب الزيت على النار بالتضخيم المتعمد لعنف الطلعات الجوية على الشيعة وانتقاد سلبية المجتمع الدولي إزاءهم، وفي الوقت نفسه تأليبهم على النظام العراقي لإثارة حفيظته. وفي تلك الحدود يمكن القول ان خطورة تقسيم العراق لا تنبع فقط من آثارها المحتملة على اختزال مساحته الأرضية وموارده البشرية والنفطية وقدراته الاستراتيجية لكنها تنبع، وهو الأهم، مما سيؤدي إليه ذلك من جعل العراق بمثابة جزيرة معزولة وسط جيرانه الأقربين، بعد ارتباط شماله وجنوبه، بشكل او آخر من اشكال التحالف او الاندماج او التبعية، مع كل من تركياوايران، أو في افضل الظروف وفي حالة التدخل لفرملة طموحات دول الجوار اغراقه في سلسلة من الصراعات الداخلية لأمد غير معلوم. إن اسقاط الرئيس العراقي صدام حسين شيء مختلف تماماً عن تفجير الكيان السياسي للعراق وهو لا يمر عبره بالضرورة بل هو قد يفرز اكثر من صدام واحد متعطش للسلطة. وليس من سند منطقي مقبول للافتراض ان الاكراد والشيعة هم وحدهم الذين يتعرضون، من دون العرب وباقي الجماعات الاخرى، لبطش نظام لا يثق في غير خاصته، وأهم من كل ذلك انه ليس من المصلحة ولا من العدل ان تتخذ التدابير التي تحدد شكل الدولة العراقية مستقبلاً خلال فترة لا شك في صعوبتها لكنها بكل المقاييس ليست سوى فترة موقتة وقصيرة في تاريخ شعبها. * خبيرة في الشؤون العراقية وأستاذة العلوم السياسية في كلية الاقتصاد جامعة القاهرة.