يبحث الرئيس بوش عن "صرعة كبرى" في الشرق الاوسط، او بتعبير ديبلوماسي مهذب عن "انجاز كبير" في هذه المنطقة، يمكنه من تعزيز فرص فوزه في انتخابات الرئاسة الاميركية والبقاء في البيت الابيض 4 سنوات اخرى. ويدرك بوش، بالطبع، ان معركته الاساسية هي داخل الولاياتالمتحدة، وان تدني شعبيته في مواجهة منافسه المرشح الديموقراطي بيل كلينتون، ناتج عن شعور الاميركيين بأن رئيسهم الحالي لم يتمكن من معالجة عدد من المشاكل الحادة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية والتربوية، على رغم الانتصارات السياسية والديبلوماسية الكبيرة التي تحققت في عهده في الساحة الخارجية. ففي عهد بوش انهار الاتحاد السوفياتي ومعه امبراطوريته، وأصبحت الولاياتالمتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم والمحور الاساسي في ما يسمى "النظام العالمي الجديد" قيد التكوين، وفي عهده تم تشكيل اكبر تحالف عربي - دولي منذ الحرب العالمية الثانية تمكن من انهاء الاحتلال العراقي للكويت، وفي عهده اصبح الشرق الاوسط كله يريد صداقة اميركا ويتعامل مع الادارة الاميركية على اساس ان لا بديل للولايات المتحدة. وبوش يدرك تماماً ان معظم الزعماء والمسؤولين العرب والفلسطينيين والاسرائيليين حالياً - سواء قالوا ذلك علناً ام لا - يفضلونه على كلينتون ويتمنون فوزه في الانتخابات. ويعتبر بوش - ومعه وزير خارجيته جيمس بيكر - وفقاً لما ذكرته لپ"الوسط" مصادر اميركية مسؤولة، ان هناك الآن في الشرق الاوسط "فرصة تاريخية استثنائية" لتحقيق انجاز ديبلوماسي وسياسي ملموس، لم تتوفر من قبل وقد لا تتوفر في المستقبل: ففي اسرائيل رئيس حكومة هو اسحق رابين مقتنع - خلافاً لشامير - بأن "لا خيار" امام الدولة اليهودية الا التعاون والتحالف مع الولاياتالمتحدة، مما يساعد على التوصل الى تفاهم اميركي - اسرائيلي معين يؤدي الى تحريك مفاوضات السلام. وفي الجانب العربي والفلسطيني هناك استعداد اكثر من اي وقت مضى للتعامل "بمرونة فعلية" مع اسرائيل بهدف التوصل الى "صيغة سلمية" معها. اضافة الى ذلك كله، فان جميع دول العالم - بما فيها الدول الاوروبية وروسيا بالطبع - تركت للولايات المتحدة مهمة معالجة قضايا الشرق الاوسط وإيجاد حلول للنزاع العربي - الاسرائيلي بجوانبه المختلفة. وفي هذه الاجواء تمت جولة جيمس بيكر الجديدة في الشرق الاوسط التي شملت خصوصاً اسرائيل ومصر وسورية والاردن والمملكة العربية السعودية، اضافة الى الاجتماع مع اعضاء الوفد الفلسطيني المفاوض. ووفقاً لما اكدته لپ"الوسط" مصادر ديبلوماسية اميركية وثيقة الاطلاع فان جولة بيكر هذه مختلفة عن جولاته السابقة في المنطقة لسببين رئيسيين. 1 - الاول ان الادارة الاميركية تريد ان تنتقل عملية السلام بين العرب والاسرائيليين من مرحلة "الكلام عن السلام" الى مرحلة "كيفية تنفيذ السلام" او مرحلة "السلام التنفيذي". وعلى هذا الاساس شدد بيكر خلال محادثاته مع الاسرائيليين والفلسطينيين والسوريين والاردنيين والمصريين على ضرورة ان تتناول المفاوضات الثنائية لدى استئنافها في روما في ايلول سبتمبر المقبل - او قبل ذلك اذا رغبت الاطراف المعنية - "اقتراحات ملموسة ومحددة" عربية وفلسطينية واسرائيلية حول كيفية تحقيق تقدم، على مراحل، على مختلف الجبهات. ووفقاً لمفهوم بيكر، فبقدر ما يبدي رابين استعداداً "للمرونة" و"المساومة" وقبول "الحلول الوسط" - بالمقارنة مع شامير - فان الجانب العربي والفلسطيني يجب ان يقابله بالمثل. 2 - الثاني ان هذه الجولة ستكون الاخيرة التي يقوم بها بيكر، كوزير للخارجية، الى الشرق الاوسط من الآن وحتى موعد انتخابات الرئاسة في مطلع تشرين الثاني نوفمبر المقبل. فقد أكدت مصادر اميركية مسؤولة لپ"الوسط" معلومات ترددت في واشنطن ان بيكر سيستقيل من منصبه في نهاية آب اغسطس او مطلع ايلول سبتمبر المقبل ليتسلم قيادة حملة بوش الانتخابية ويعطيها قوة دفع جديدة تساعد الرئيس الاميركي على الفوز. وبيكر فعل الشيء نفسه عام 1988 حين استقال من منصبه كوزير للخزانة وتسلم ادارة حملة بوش الانتخابية بنجاح. واوضحت المصادر ان بوش وبيكر اتفقا على ذلك قبل فترة قصيرة من بدء جولة وزير الخارجية في الشرق الاوسط. ورجحت المصادر نفسها ان يحل محل بيكر في منصب وزير الخارجية، وبصفة موقتة، الرجل الثاني في الخارجية حالياً لورنس ايغلبرغر، على ان يعود بيكر الى منصبه في حال فاز بوش في الانتخابات. ولن يتمكن بيكر من الاهتمام بشؤون الشرق الاوسط خلال ادارته حملة بوش الانتخابية بل سيركز جهوده آنذاك على القضايا الداخلية - نقطة ضعف بوش - وعلى المسائل التنظيمية الانتخابية. وسيتولى متابعة "ملف عملية السلام في الشرق الاوسط"، في غياب بيكر، الفريق نفسه الذي عمل معه خلال السنوات الأربع الماضية والذي يترأسه دينيس روس رئيس مركز التخطيط في وزارة الخارجية الاميركية. وسيعمل هذا الفريق بالتشاور والتنسيق مع البيت الابيض. وأوضحت المصادر الاميركية المطلعة انه لو لم يكن بوش يشعر "بخطر الفشل" في الانتخابات، لما كان وافق على نقل بيكر من وزارة الخارجية الى قيادة حملته. وقد ترددت انباء ان بوش قد يعين بيكر نائباً له بدلاً من دان كويل بسبب ضعف شعبية هذا الاخير، لكن مصادر مطلعة داخل الادارة الاميركية اكدت لپ"الوسط" ان هذا الاحتمال "مستبعد" وان كويل "متمسك" بمنصبه. هذه الاجواء الانتخابية خيمت على جولة بيكر الشرق اوسطية. وقد ركز بيكر في محادثاته مع المسؤولين العرب والاسرائيليين على مدى "اهمية" اعادة انتخاب بوش بالنسبة الى اهل الشرق الاوسط ومستقبل مسيرة السلام. وطلب بيكر، ضمناً وليس بصورة مباشرة، ان "يساهم" العرب والفلسطينيون والاسرائيليون في معركة بوش الانتخابية هذه وان "يصوتوا" لصالحه - اذا جاز التعبير - عن طريق "اظهار المرونة وتقديم التنازلات المتبادلة" لاحراز تقدم بارز في مفاوضات السلام وتأمين انجاز ديبلوماسي وسياسي كبير للرئيس الاميركي الحالي قبل موعد انتخابات الرئاسة في مطلع تشرين الثاني نوفمبر المقبل. لقاء رابين وزعيم عربي ثان اي انجاز يمكن تأمينه خلال الاشهر الثلاثة المقبلة وفي اي مجال؟ المعلومات الخاصة التي حصلت عليها "الوسط" من مصادر اميركية وأوروبية وثيقة الاطلاع تفيد انه جرى التداول في واشنطن، وبين واشنطن وعواصم شرق اوسطية وأوروبية، في اطار من التكتم، في الآونة الأخيرة، بمجموعة "افكار واقتراحات" تشكل، في حال تنفيذها او تنفيذ اي منها، "خبطة او صرعة كبرى" لبوش. أبرز هذه الافكار والاقتراحات: 1 - عقد الجولة المقبلة من مفاوضات السلام في روما "على مستوى سياسي رفيع" بحيث يرأس اسحق رابين نفسه الوفد الاسرائيلي، فيما يرأس الوفود العربية مسؤولون كبار. ويعمل المسؤولون الاميركيون، حينذاك، على عقد "لقاءات" بين رابين وبعض المسؤولين العرب في روما. 2 - تأمين عقد لقاء بين رابين وزعيم عربي، ثان، غير الرئيس حسني مبارك، وتفضل الادارة الاميركية ان يكون الملك حسين هو "الزعيم العربي الثاني" الذي يقابل رابين علناً، سواء في واشنطن او في دولة اوروبية، لكن الملك حسين لا يظهر "أية حماسة" لذلك. ويبدو ان الملك حسين ليس مستعداً لمقابلة رابين علناً الا اذا تأمنت 3 شروط، هي: تأمين دعم بعض الدول العربية المؤثرة - ومنها سورية - لمثل هذا اللقاء، الحصول على موافقة فلسطينية رسمية، الحصول على ضمانات اميركية بأن يقدم رابين خلال هذا اللقاء "تنازلات ملموسة" تساعد على تحريك مفاوضات السلام بصورة جدية. لكن اذا كان الملك حسين غير مستعد للاجتماع برابين، فان مصادر مطلعة داخل ادارة بوش اكدت لپ"الوسط" ان الملك الحسن الثاني "مستعد فعلاً" للقاء رئيس الوزراء الاسرائيلي، بل انه "مستعد" لتوجيه الدعوة اليه لزيارة المغرب، اذا كان هذا اللقاء سيسفر عن "نتائج ملموسة" ويساعد على "تليين وتطوير" الموقف الاسرائيلي في مفاوضات السلام. وفكرة "اللقاء المحتمل" بين الملك الحسن الثاني ورابين هي "قيد الدرس" حالياً في واشنطن. 3 - الاقتراح الثالث هو ان يستقبل الرئيس بوش في البيت الابيض في تشرين الاول اكتوبر المقبل اعضاء الوفدين الاسرائيلي والفلسطيني ومعهما ربما اعضاء الوفد الاردني ويتم الاعلان خلال هذا اللقاء عن التوصل الى أول اتفاق فلسطيني - اسرائيلي في تاريخ النزاع العربي - الاسرائيلي. وهذا الاتفاق يتعلق بالحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة. 4 - الاقتراح الرابع هو عقد لقاء في الولاياتالمتحدة او في بلد اوروبي، بين رابين والملك حسين ووفد فلسطيني، تتم فيه مناقشة مختلف الامور التي تهم هذه الاطراف الثلاثة. ويعترف المسؤولون الاميركيون بأن تنفيذ هذه الاقتراحات "امر صعب للغاية" في الظروف الراهنة، لكنهم يعتبرون ان العمل على تحقيق بعضها، ولو بعد حين، هو من ضمن اهداف الولاياتالمتحدة الساعية الى "تطبيع العلاقات خطوة خطوة" بين اسرائيل والدول العربية. "اتفاق تاريخي" فلسطيني - اسرائيلي وفي انتظار تأمين الظروف الملائمة لمثل هذه الافكار والاقتراحات، تم التفاهم بين بوش وبيكر على تركيز الجهود الحالية من اجل تحقيق "انجازات ديبلوماسية وسياسية" واقعية على صعيد عملية السلام، خلال الاشهر الثلاثة المقبلة، يفيد منها الرئيس الاميركي في معركته الانتخابية. وهذه "الانجازات الواقعية" هي الهدف الاساسي لجولة بيكر في المنطقة ولمحادثات رابين مع الرئيس حسني مبارك. والانجازات الواقعية التي يسعى بوش وبيكر الى تأمينها خلال الفترة المقبلة هي الآتية: 1 - انجاز "المصالحة" بين بوش واسرائيل بعد مرحلة التأزم التي شهدتها العلاقات الاميركية - الاسرائيلية في عهد شامير. وهذه "المصالحة" ستؤدي الى تحسين "صورة" بوش لدى اليهود الاميركيين مما يؤدي الى حصوله على نسبة معقولة من اصوات الناخبين اليهود بدلاً من ان تصوت الاغلبية الساحقة لمصلحة المرشح الديموقراطي بيل كلينتون. وستتخذ هذه "المصالحة" شكل استقبال حافل لرابين في البيت الابيض الشهر المقبل، وما يرافق ذلك من تصريحات "مؤيدة" لبوش، كما ستتخذ شكل الاعلان عن موافقة الادارة الاميركية على منح اسرائيل - الارجح على اقساط متتالية - ضمانات القروض البالغة 10 مليارات بلايين دولار لاستيعاب وتوطين المهاجرين الجدد. وقد بدأ التمهيد لذلك باعلان الحكومة الاسرائيلية اجراءات للحد من الاستيطان، ومنها التوقف عن انفاق اموال جديدة على المستوطنات في الاراضي المحتلة. ركز بيكر خلال محادثاته في اسرائيل مع رابين ووزير الخارجية شيمون بيريز على ضرورة وقف بناء المستوطنات في الاماكن المكتظة بالسكان العرب في الاراضي المحتلة كخطوة اولى، على ان تتبعها لاحقاً خطوات اخرى لتجميد الاستيطان في الاراضي العربية المحتلة. 2 - الانجاز الثاني هو التوصل قبل نهاية تشرين الاول اكتوبر المقبل الى اتفاق "مبدئي" فلسطيني - اسرائيلي حول "اطار" الحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة يشمل كيفية نقل السلطة الى هيئة او حكومة فلسطينية في هذه الاراضي، وتأليف مجموعات او لجان عمل فلسطينية - اسرائيلية تبدأ بعد انتخابات الرئاسة الاميركية كل التفاصيل المتعلقة بهذا الاتفاق ومضمون الحكم الذاتي. وسيضع المسؤولون الاميركيون "كل ثقلهم" لاقناع الاسرائيليين والفلسطينيين بالتوصل الى مثل هذا الاتفاق خلال مفاوضات روما، كما سيطلب المسؤولون الاميركيون من بعض الدول والجهات العربية المؤثرة "الضغط" على الفلسطينيين و"تسهيل" عملية التوصل الى مثل هذا الاتفاق الذي ينوي بوش اعلانه بنفسه على اساس انه "اتفاق تاريخي" بين الطرفين الرئيسيين في النزاع العربي - الاسرائيلي. وفي هذا المجال علمت "الوسط" ان دينيس روس "رئيس" الفريق الاميركي المسؤول عن مفاوضات السلام ابلغ وفداً فلسطينياً استقبله في واشنطن بحضور مساعده ارون ميلر يوم 6 تموز يوليو الجاري بالحرف الواحد: "الادارة الاميركية متفائلة جداً بوصول رابين الى رئاسة الحكومة، لأن رابين سيكون مرناً وسيطرح حلولاً وسطاً وسيعمل على دفع عملية السلام الى الامام". وأضاف روس: "نحن ننصح الفلسطينيين بالتعامل بايجابية مع رابين خصوصاً انه سيقدم مشروعاً جديداً مختلفاً عن مشروع اسحق شامير يتضمن منح الفلسطينيين حكماً ذاتياً موسعاً في الضفة الغربية وغزة. والادارة الاميركية تنصح الوفد الفلسطيني بأن يعد اقتراحات مفصلة تتعلق بكيفية تطبيق الحكم الذاتي في المجالات المختلفة لمناقشتها مع الاسرائيليين لدى استئناف المفاوضات في روما". 3 - الانجاز الثالث الذي يعمل بوش وبيكر على تحقيقه هو التوصل، خلال الاشهر الثلاثة المقبلة الى تفاهم عربي - فلسطيني - اسرائيلي على مجموعة خطوات تدخل في نطاق "اجراءات بناء الثقة" بين العرب والاسرائيليين. وأبرز هذه الخطوات: تعهد القيادة الفلسطينية بوقف الانتفاضة و"اعمال العنف" في الضفة الغربية وغزة في مقابل التزام الحكومة الاسرائيلية بالتوصل الى اتفاق حول الحكم الذاتي الفلسطيني وتحديد موعد لاجراء الانتخابات في الضفة الغربية وغزة في موعد اقصاه ربيع 1993. ويمكن ان يرافق ذلك خفض حجم الوجود العسكري الاسرائيلي في الضفة وغزة. الغاء المقاطعة العربية ضد اسرائيل جزئياً بحيث يتم الغاء المقاطعة المفروضة على الشركات الاجنبية التي تتعامل مع اسرائيل. صدور تصريحات على لسان رابين او "اعلان نوايا" يعكس "مرونة" اسرائيلية في التعاطي مع الملف السوري قضية الجولان والملف اللبناني، باعتبار ان "لا مشكلة جدية" بين اسرائيل والاردن. وهذه "المرونة" يمكن ان تتخذ شكل خفض حجم الوجود العسكري الاسرائيلي والسوري على جانبي الحدود بين البلدين، وشكل انسحاب جزئي اسرائيلي من بعض المواقع في جنوبلبنان في مقابل اجراءات امنية معينة يتخذها الجيش اللبناني. إرضاء سورية في لبنان هذه التوجهات الاميركية تلتقي مع خطط رابين الهادفة الى اعطاء الاولوية للتوصل الى اتفاق حول الحكم الذاتي الفلسطيني، وتأجيل البحث في القضايا المتعلقة بالجولان وجنوبلبنان والعلاقات مع سورية ولبنان والاردن الى مرحلة لاحقة. لكن هذا التوجه الاميركي - الاسرائيلي يرافقه حرص الجانبين على ابقاء سورية وبالتالي لبنان في عملية السلام وتجنب اخراجها من هذه العملية والعمل، بالتالي، على مراعاتها وإرضائها لكي توافق، ضمناً، على "تمرير" الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي حول الحكم الذاتي اولاً. كيف وأين يمكن ارضاء سورية؟ في لبنان بالطبع. وهذا ما يعتقده - ويتصرف على اساسه - المسؤولون الاميركيون، وان كانوا يرفضون التصريح بذلك علناً. والتساهل الاميركي مع "الرغبة السورية الشديدة" في اجراء الانتخابات النيابية في لبنان في نهاية آب آغسطس او مطلع ايلول سبتمبر المقبل، وقبل انسحاب القوات السورية من مواقعها في بيروت والمناطق الاخرى، "التساهل الاميركي" هو جزء اساسي من عملية "ارضاء" سورية لكي توافق، ضمناً، على تمرير الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي حول الحكم الذاتي وما يرتبط به. وليس من المستبعد ان تحصل سورية على تساهل اميركي - وغربي - اكبر حول لبنان في المستقبل القريب، في اطار رغبة الولاياتالمتحدة في ابقاء السوريين داخل نطاق عملية السلام، مع سعيهم الى تحقيق تقدم على جبهات اخرى غير الجبهة السورية. وليس وارداً - كما يعتقد او يتوهم بعض اللبنانيين - ان "تتجاهل" الادارة الاميركية سورية او تسعى الى "عزلها" او تعمل على "محاربتها" او التصدي لنفوذها الكبير والمتنامي في لبنان. والذين يراهنون، من اللبنانيين، على مثل هذا الموقف الاميركي "المتشدد" تجاه سورية يخطئون. فالصفقة الفلسطينية - الاسرائيلية التي يعمل على تحقيقها الاميركيون ستكون من نتائجها الرئيسية تقوية وتثبيت النفوذ السوري في لبنان، وتساهل الولاياتالمتحدة والدول الغربية مع هذا النفوذ السوري المتنامي. استراتيجية رابين مع اميركا ومصر لا يبدو، حتى الآن، ان هناك استراتيجية عربية موحدة فعلاً للتعامل مع هذه "المعطيات الجديدة" في عملية السلام، في ضوء فوز رابين في الانتخابات ورغبة بوش بتسجيل انتصار سياسي وديبلوماسي في الشرق الاوسط. لكن في المقابل، لدى رابين استراتيجية واضحة للتعامل مع المعطيات الجديدة وتقوم على ركيزتين اساسيتين: 1 - الركيزة الاولى هي محاولة التوصل الى تفاهم مع الادارة الاميركية حول مجموعة امور ونقاط تتعلق بالملفات المختلفة ملف الحكم الذاتي، الملف الاردني، الملف السوري، الملف اللبناني، ملفات المفاوضات المتعددة الاطراف، ثم مطالبة المسؤولين الاميركيين "بتسويق" هذا التفاهم الاميركي - الاسرائيلي عربياً وفلسطينياً وإقناع الاطراف والجهات العربية المعنية بالامر به. 2 - الركيزة الثانية، هي مصر. والواقع ان اهمية زيارة رابين الى القاهرة الاسبوع الماضي ومحادثاته مع الرئيس حسني مبارك لا تنبع من انها المرة الاولى منذ ايلول سبتمبر 1986 التي تستقبل فيها مصر رئيس وزراء اسرائيلي، أو يتم لقاء بين مبارك ورئيس وزراء اسرائيلي وكانت المرة الاخيرة عام 1986 حين زار شيمون بيريز رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسكندرية، كما لا تنبع اهمية هذه الزيارة من كون رابين يعرف مبارك - اذ سبق ان زاره في القاهرة عام 1988 وكان آنذاك وزيراً للدفاع - ومن انه يكن "كل تقدير واحترام" للرئيس المصري، على حد قول مصادر ديبلوماسية اميركية مطلعة. ان اهمية اللقاء المصري - الاسرائيلي الاسبوع الماضي ناتجة عن كون رابين ينوي - خلافاً لشامير - الاعتماد بقوة على مصر وعلى الدور المصري في عملية السلام، من جهة للتشاور معها حول المواقف التي يمكن ان تتخذها الحكومة الاسرائيلية تجاه هذه الدولة العربية او تلك، ومن جهة ثانية للافادة من معلومات وتحليلات المسؤولين المصريين لحقيقة مواقف الدول والاطراف العربية ازاء اسرائيل ومفاوضات السلام، ومن جهة ثالثة لمطالبتها بلعب دور "مؤثر" على بعض الدول والجهات العربية، كسورية مثلاً او منظمة التحرير الفلسطينية. وليس مستبعداً ان تلعب مصر، ايضاً، دور "ناقل الرسائل" بين بعض الاطراف العربية - كسورية ومنظمة التحرير - واسرائيل. وفي هذا النطاق علمت "الوسط" ان الرئيس حسني مبارك دعا الرئيس حافظ الاسد لزيارة مصر قبل مجيء رابين اليها للاستماع الى وجهة نظره، خصوصاً في ما يتعلق بالرغبة الاميركية - الاسرائيلية في التوصل الى اتفاق حول الحكم الذاتي الفلسطيني اولاً، لكن الاسد فضل تأجيل زيارته هذه الى ما بعد لقاء مبارك ورابين. ويسعى رابين، ايضاً، الى تطوير وتعزيز العلاقات الثنائية المصرية - الاسرائيلية، المجمدة والباردة عملياً منذ سنوات، في مختلف المجالات، الاقتصادية والسياحية والثقافية وسواها، بحيث تصبح هذه العلاقات "نموذجاً" لعلاقات اسرائيلية مع دول عربية اخرى. وقد يكون من المبالغ فيه القول ان رابين يرغب في ان تكون مصر "شريكاً فعلياً" لاسرائيل في عملية "صنع السلام" في الشرق الاوسط، الا ان الامر الاكيد هو ان رئيس الوزراء الاسرائيلي ينوي الاعتماد بقوة على الدور المصري، مما سيحول الساحة المصرية الى "نقطة التقاء" للاطراف العربية والفلسطينية والاسرائيلية.
هذه ملامح "الصفقة الجديدة" التي تعمل الديبلوماسية الاميركية على عقدها في الشرق الاوسط. وستكون الاسابيع والاشهر القليلة المقبلة حافلة بالتطورات والاحداث والاخبار المتعلقة بهذه الصفقة وما يرتبط بها.