قد يمر وقت طويل قبل اكتشاف الجهة التي اغتالت رئيس المجلس الاعلى للدولة الجزائرية محمد بوضياف. هذا اذا توصل التحقيق ذات يوم الى الكشف عن الطرف الذي خطط للجريمة وعن دوافعه. ولكن ثمة حقيقة ساطعة في وضوحها، تعجز الغيوم المتلبدة في السماء السياسية الجزائرية عن حجبها، وهي ان اغتيال الرئيس بوضياف يعيق مسيرة الاصلاح الاقتصادي ويضاعف من وزن المشكلات التي يرزح تحتها الاقتصاد الجزائري خصوصاً ان الاستثمارات الخارجية التي تنتظرها الحكومة بفارغ الصبر لن تتزاحم على ابواب دولة ترتسم حول مستقبلها علامات استفهام كبيرة، قبل عودة الوضوح الى الرؤية والاستقرار الى البلاد. ويقول اقتصادي فرنسي استعانت الحكومة الجزائرية بخبراته طوال الاشهر الماضية، ان حركة الرئيس بوضياف هددت مصالح فئات واسعة، وان خلافته قد تفتح ابواب الصراع بين اطراف يملك كل منها حلولاً اقتصادية مختلفة واحياناً متناقضة. ويضيف الخبير ان النتائج المتوقعة لسياسة بوضياف في الاصلاح الضرائبي وتعزيز سلطة الدولة وتحرير التجارة، كانت تحطم مصالح فئات استغلت ازمة النظام وكدست ثروات طائلة. ويلتقي هذا الرأي مع مخاوف نشرتها أخيراً الصحف الجزائرية، وكانت ابرز عناوينها التساؤل عن خط الرئيس الراحل في القضاء على المافيا. وعكست بعض الصحف "ارادة هذا الرجل النزيه في قلب المعادلات القديمة، ومواجهة الرشوة والفساد"، تمهيداً لوضع العجلة الاقتصادية على سكة الانطلاق. وتشير المعلومات الى ان نحو 10 في المئة من المداخيل النفطية المقدرة بنحو 300 مليار دولار منذ الاستقلال، سلكت درب الحسابات المصرفية الخارجية الخاصة. وكان بوضياف جاداً في وضع حد لهذه الممارسات، وفي البطش بالفساد. كما كان للرئيس الراحل مواقف لم يكن يتقاسمها مع بعض الدوائر الحاكمة في الجزائر، وتشير المصادر الفرنسية، الى ان البحث عن نموذج للتنمية في الجزائر اثار خلافات بين بوضياف ودوائر في السلطة اتهمته بالتقرب من فرنسا. وتضيف المعلومات ان هذا الخلاف يفسر جانباً من البرودة في العلاقات بين بوضياف وسيد احمد غزالي، وبين الرئيس الراحل ومجموعة من كبار الضباط والموظفين ورجال الاعمال، تعزز لديها، بعد الاهتمام الذي ابدته الشركات الاميركية بالقطاع النفطي الجزائري، شعوراً بأن قدر الجزائر ليس فرنسيا. ويدشن اغتيال بوضياف مرحلة جديدة من عدم الاستقرار المالي في الجزائر، وذلك بعد ان نجحت الحكومة في اذار مارس الفائت في اقناع الاوساط المالية الدولية بسلامة مسيرة الاصلاح الاقتصادي والمالي وبتصميمها على مواصلة هذه المسيرة، وقد عبرت الاوساط المصرفية وقتها عن ثقتها ومنحت الجزائر 5،1 مليار دولار، لتجنبها الدخول في دوامة اعادة جدولة مديونية خارجية تتجاوز 26 مليار دولار. وحدث الاغتيال في ظرف شديد الاحراج بالنسبة الى الجزائر وكان الاقتصاد الجزائري دخل بعد تحرير الاسعار في 19 حزيران يونيو - باستثناء اسعار الحليب والخبز والسميد - في مرحلة جديدة من الاضطراب، تضاعف من حدة الاوجاع القديمة التي يعاني منها منذ سنوات، وأبرزها الحجم الثقيل للدين والعجز "المدهش" في اداء المؤسسات العامة. وتشير الاحصاءات الرسمية الى ان صحة الاقتصاد الجزائري المتدهورة ازدادت تدهوراً في الفصل الاول من العام 1992. وقد عبرت عن هذا الامر عودة الحديث عن اعادة جدولة الدين. وتفيد المراجع الرسمية، ان الانتاج الداخلي الصافي تراجع في الاشهر الثلاثة الاولى من العام الجاري نحو 5،3 في المئة، بعد ان توقعت السلطات نمواً مقداره 6 في المئة. وللمرة الاولى في تاريخ الجزائر، سرّحت بعض المؤسسات العامة عدداً من موظفيها. وتوقف بعضها الآخر عن دفع الرواتب وجمد البعض منها نشاطه كلياً. وتفيد مصادر غرفة تجارة وهران ان 40 في المئة من المؤسسات العامة المحلية توقفت عن الانتاج بسبب غياب قطع الغيار، وان 25 في المئة من المؤسسات لا تعمل الا بنسبة 10 في المئة من طاقاتها. ويفسر هذا الركود في الانتاج الارتفاع الحاد في معدلات البطالة التي تصيب حالياً نحو مليوني جزائري. وتقد مديونية نحو 400 مؤسسة عامة تجاه المصارف والخزينة بنحو 400 مليار دينار، خصصت لها الحكومة في موازنة العام 1992 ظرفاً متواضعاً لامتصاصها، لم تتجاوز قيمته 5،42 مليار دينار، غير ان المؤسسات العامة التي تجتاز اوضاعاً صعبة لن تستفيد من هذا الظرف، مما يضطرها الى اشهار الافلاس. وتعكف الحكومة على اعداد قانون يسمح للمرة الاولى لمؤسسة عامة باعلان افلاسها. وعلى صعيد العجز في الموازنة، وعلى رغم ارادة الحكومة في ضبط الانفاق العام، فمن المتوقع ان يصل العجز في الموازنة في العام 1992 الى نحو 120 مليار دينار. وذلك خلافاً للتوقعات الرسمية التي كانت بحدود 40 مليار دينار. وتقدر خدمة الدين في العام 1992 بنحو 9 مليارات دولار، ومن المتوقع ان تتراوح قيمة الصادرات بين 11 و12 مليار دولار تمثل المحروقات نحو 96 في المئة منها. وتحتاج الجزائر، اذا اخذنا في الاعتبار فاتورة استيراد المواد الغذائية المقدرة بنحو 5،2 مليار دولار، الى نحو 6 او7 مليارات دولار لتشغيل اقتصادها وتحريك عجلة الاستثمار ولو بشكل طفيف. وكانت الجزائر متفائلة بامكانية حصولها على العملات الصعبة من جراء عمليات البيع المؤجل للنفط او المشاركة الاجنبية المباشرة في استغلاله. ولكن المباحثات لم تصل الى نهايتها بعد. وتتوقع الجزائر ان توفر لها هذه العمليات نحو 6 او7 مليارات دولار. ولكن الخبراء لا يتوقعون ان تتجاوز مداخيل هذه العمليات 4 مليارات دولار. وهذا قبل اغتيال الرئيس محمد بوضياف. وفي اليوم الذي اغتيل فيه رئيس المجلس الاعلى للدولة، كانت "سوناطراك" تنظم في لندن الحلقة الاولى من المباحثات لمنح رخص التنقيب. وكان دخول الشركات النفطية الاميركية والايطالية والفرنسية الى القطاع النفطي الجزائري سيسمح للحكومة بتجديد وتطوير قطاعي النفط والغاز، ويوفر لها نحو 20 مليار دولار من الاستثمارات قبل نهاية القرن. ولكن اغتيال الرئيس بوضياف يثير مخاوف مشروعة لدى المرشحين للاستثمار. وقد يدفعهم الى الانتظار ريثما تنقشع الغيوم عن الساحة الجزائرية.