معرض "أنا عربية" يفتتح أبوابه لاستقبال الجمهور في منطقة "فيا رياض"    باكستان تقدم لزوار معرض "بَنان" أشهر المنتجات الحرفية المصنعة على أيدي نساء القرى    مطارات الدمام تدشن مطارنا أخضر مع مسافريها بإستخدام الذكاء الاصطناعي    ديوانية الأطباء في اللقاء ال89 عن شبكية العين    الحملة الشعبية لإغاثة الفلسطينيين تصل 702,165,745 ريالًا    الجبلين يتعادل مع الحزم إيجابياً في دوري يلو    "أخضر السيدات" يخسر وديته أمام نظيره الفلسطيني    حرمان قاصر وجه إهانات عنصرية إلى فينيسيوس من دخول الملاعب لمدة عام    الأهلي يتغلب على الوحدة بهدف محرز في دوري روشن للمحترفين    أمير منطقة تبوك يستقبل رئيس واعضاء مجلس ادارة جمعية التوحد بالمنطقة    مدني الزلفي ينفذ التمرين الفرضي ل كارثة سيول بحي العزيزية    مدني أبها يخمد حريقًا في غرفة خارجية نتيجة وميض لحظي    أمانة القصيم توقع عقداً بأكثر من 11 مليون ريال لمشروع تأهيل مجاري الأودية    ندى الغامدي تتوج بجائزة الأمير سعود بن نهار آل سعود    البنك المركزي الروسي: لا حاجة لإجراءات طارئة لدعم قيمة الروبل    6 مراحل تاريخية مهمة أسست ل«قطار الرياض».. تعرف عليها    «سلمان للإغاثة» يختتم المشروع الطبي التطوعي للجراحات المتخصصة والجراحة العامة للأطفال في سقطرى    المملكة تفوز بعضوية الهيئة الاستشارية الدولية المعنية بمرونة الكابلات البحرية    محرز يهدي الأهلي فوزاً على الوحدة في دوري روشن    نعيم قاسم: حققنا «نصراً إلهياً» أكبر من انتصارنا في 2006    القادسية يتفوق على الخليج    النصر يكسب ضمك بثنائية رونالدو ويخسر سيماكان    الجيش السوري يستعيد السيطرة على مواقع بريفي حلب وإدلب    "مكافحة المخدرات" تضبط أكثر من (2.4) مليون قرص من مادة الإمفيتامين المخدر بمنطقة الرياض    خطيب المسجد النبوي: السجود ملجأ إلى الله وعلاج للقلوب وتفريج للهموم    السعودية تتسلّم مواطنًا مطلوبًا دوليًا في قضايا فساد مالي وإداري من روسيا الاتحادية    والد الأديب سهم الدعجاني في ذمة الله    الشؤون الإسلامية تطلق الدورة التأهلية لمنسوبي المساجد    «الأونروا»: أعنف قصف على غزة منذ الحرب العالمية الثانية    خطيب المسجد الحرام: أعظمِ أعمالِ البِرِّ أن يترُكَ العبدُ خلفَه ذُرّيَّة صالحة مباركة    وكيل إمارة جازان للشؤون الأمنية يفتتح البرنامج الدعوي "المخدرات عدو التنمية"    وزارة الرياضة تُعلن تفاصيل النسخة السادسة من رالي داكار السعودية 2025    التشكيلي الخزمري: وصلت لما أصبو إليه وأتعمد الرمزية لتعميق الفكرة    الملحم يعيد المعارك الأدبية بمهاجمة «حياة القصيبي في الإدارة»    تقدمهم عدد من الأمراء ونوابهم.. المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء بالمناطق كافة    طبيب يواجه السجن 582 عاماً    «كورونا» يُحارب السرطان.. أبحاث تكشف علاجاً واعداً    ذوو الاحتياجات الخاصة    انطباع نقدي لقصيدة «بعد حيِّي» للشاعرة منى البدراني    عبدالرحمن الربيعي.. الإتقان والأمانة    رواد التلفزيون السعودي.. ذكرى خالدة    اكتشافات النفط والغاز عززت موثوقية إمدادات المملكة لاستقرار الاقتصاد العالمي    فصل التوائم.. البداية والمسيرة    «متلازمة الغروب» لدى كبار السن    "راديو مدل بيست" توسع نطاق بثها وتصل إلى أبها    بالله نحسدك على ايش؟!    رسائل «أوريشنيك» الفرط صوتية    حملة توعوية بجدة عن التهاب المفاصل الفقارية المحوري    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الدورة ال 162 للمجلس الوزاري التحضيري للمجلس الأعلى الخليجي    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أندرو فيكاري يكشف للمرة الأولى تفاصيل أكبر مشروع فني منذ نابوليون . رسام حرب الخليج يتحدث الى "الوسط": 215 لوحة لتخليد حرب تحرير الكويت "سأقوم بجولة عالمية لتعريف الناس عبر رسومي بالملحمة الكبرى"
نشر في الحياة يوم 08 - 06 - 1992

المتوسط يغسل رجلي هذه التلة المخضرّة، واشجار الصنوبر تسترخي تحت اشعة شمس ذهبية. الموج الازرق يداعب الشاطئ اللازوردي ويشد بك لتسلمه جسدك يفعل به ما يشاء والطريق الملتوية الصاعدة في خبايا التلة الخضراء تناديك للاستمرار واعدة إياك بالف اكتشاف ومفاجأة. وبين ذاك وتلك تختار نفسك. غير ان ساعتك تنقذك من المأزق لأنها تدلك على ان موعدك الذي جئت من اجله سيحين بعد دقائق وعليك ان تستجمع افكارك وتحفز ذهنك للدخول الى عالم الفن والجمال.
تسأل السائق الذي انطلق بك من مطار نيس ما اذا كان المشوار ما زال طويلاً. يستمهلك لحظات وكأنه بدوره يحضّر لك مفاجأة ثم باستدارة رشيقة يترك الطريق العام. وبعد اقل من نصف دقيقة يتوقف بك امام بوابة حديدية ويقول لك: تفضل لقد وصلنا!
في المحترف
صبيحة ذلك اليوم كنت اقصد الرسام اندرو فيكاري المقيم في امارة موناكو. موعدي معه كان في محترفه. اندرو فيكاري يفتح لي الباب، يرحب بي ويطلب مني الاستراحة ويستمهلني دقائق عدة ريثما ينتهي من موعده مع مصور فوتوغرافي استقدمه خصيصاً لتصوير بعض لوحاته التي هو بصدد الانتهاء منها. استغنم الفرصة للتمعن بما يحيط بي من لوحات زيتية في كل مكان، ومن كل الاحجام. على حيطان المكتب، في الصالون، على الارض، في المدخل. رسوم بالاقلام السوداء والملونة معلقة هنا وهناك، صور تذكارية مع ناس مشهورين: هنا اندرو فيكاري مع الأمير رينييه أمير موناكو، هناك مع المستشار الالماني هلموت كول ثم مع الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران. على المكتب بصحبة الفريق اول الركن الأمير خالد بن سلطان قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات خلال حرب الخليج لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي.
مواد للتصوير، كادرات وملصقات بعضها فوق البعض، اقلام من كل الاحجام والالوان... وثلاثة اقفاص كبيرة تتطاير في داخلها العشرات من العصافير التي تضفي على المحترف جواً سحرياً خاصاً.
اتشنج قليلاً والحق بالفنان عبر الباب الذي دخل منه. وهنا المفاجأة اذ اجد نفسي في محترف ضخم جداً طوله ستون متراً تقريباً، وعرضه عشرون متراً على الاقل. هذه المساحة تشغلها لوحات ضخمة جداً بعضها تم او كاد يتم، بعضها الآخر ما زال في بداياته، غير ان كل هذه اللوحات تحمل ارقاماً واسماء...
اذاً، هنا يختبئ اندرو فيكاري، هنا بيته السحري الذي ينعزل فيه عن العالم لانجاز مشروعه الضخم الخاص بتخليد حرب الخليج لتحرير الكويت في 215 لوحة يعتزم الرسام الشهير انجازها قبل صيف العام 1993، بحيث تجول على عواصم العالم بدءاً بواشنطن ثم لندن وباريس فالرياض. اتجول في المحترف متأملاً اللوحات وهمي القبض على ما يسعى هذا الرجل لتجسيده وتخليده. هل يريد ان تكون اعماله، وهو الرسام الوحيد الذي اتيحت له فرصة معايشة حرب الخليج عن كثب، ذاكرة الحرب البصرية شاهدة عليها؟ هل يرد ان ينفذ منها الى ما هو وراءها؟ هل يريد الارتقاء بها الى عالم الفن والملاحم؟
"قصتي مع حرب الخليج"
الحوار مع اندرو فيكاري ليس سهلاً، فالرجل مزاجي. وكغالبية الفنانين الاصيلين له زمنه الخاص ووتيرته الخاصة وبالطبع اجواؤه الداخلية. وقد بدا لي سريعاً ان الرجل، رغم المظاهر التي قد تدفع الى نتائج مختلفة، خجول يهرب من الاضواء ويتحاشى الاسئلة بالكثير من الكياسة والضيافة وربما يحتمي خلف حاجز الابتعاد او عدم الاكتراث وفي اي حال فانه لا يتكلم ويكشف ما في عمق نفسه الا بعد ان يشعر بالثقة. واذا تكلم فانه يذهب مباشرة الى الهدف من غير مداورة. من هنا، فالتأهب ضروري لاقتناص اللحظة المناسبة واستجلاء ما يمكن استجلاؤه.
- انت اول صحافي يدخل الى هذا المحترف ويرى ما انا بصدد فعله. و "الوسط" اول مجلة، عربية او غير عربية، تغوص في مشروعي واقبل ان افتح لها ابواب محترفي لترى اللوحات وهي في مرحلة التنفيذ.
بهذه الكلمات عاجلني اندرو فيكاري الذي عبّرت له عن دهشتي ازاء ضخامة ما رأيته. وفي نفسي كنت اتساءل عن الطريق التي سلكها هذا الرجل وهو الذي يحمل اسماً انكليزياً - ايطالياً. كيف قادته خطاه الى الشرق وهو الذي تربى في بلاد الغال في المملكة المتحدة؟ كيف وصل الى الصحراء، الى الخليج، الى المملكة العربية السعودية؟ وما هي "المصادفة" التي جعلته يتواجد في قلب المعركة؟
اعترف انني لم اكن املك اجابات، ولو موجزة، على هذه الاسئلة الكثيرة. وطيلة الايام الثلاثة التي قضيتها الى جانبه، كنت اسعى لأن اتعرف على الرجل وان افهم الفنان، وان افهم خصوصاً النقلة التي قادته لأن يهتم بالفنون العسكرية وان يكرّس لحرب الخليج اعماله.
يروي اندرو فيكاري قصته مع حرب الخليج التي عاشها من الداخل. ويبدو ان الحرب قد تركت آثارها عليه، فهو يعتمر في محترفه قبعة جنرال من اربع نجوم، هي في الواقع قبعة الجنرال شوارتزكوف الذي قدمها اليه للتدليل على صداقته. غير ان الرسام اندرو فيكاري يسارع الى القول ان علاقته بالشواطئ الشرقية والجنوبية للمتوسط وبالشرق الاوسط وبالعالم العربي ليست وليدة الامس. علاقته مع العرب عمرها 17 سنة وتعود بداياتها الى بيروت في اوائل السبعينات حينما كانت بيروت "ست الدنيا". ومن بيروت انتقل اندرو فيكاري الى الرياض بناء على دعوة من الشيخ محمد ابا الخيل الذي اصبح لاحقاً وزيراً للمالية. وفي السعودية امضى اندرو فيكاري سنوات عديدة كان له فيها انتاج ضخم، ابرزه ستون لوحة تروي تاريخ المملكة منذ تأسيسها على يد الملك عبدالعزيز بن سعود وحتى الزمن الحاضر مع الملك فهد بن عبدالعزيز. وخلال هذه المدة الطويلة جال اندرو فيكاري على نواحي المملكة العربية السعودية الاربع، جامعاً الشهادات الشفهية، مدوناً السير ساعياً وراء دقائق التاريخ لينفذ الى داخل المجتمع ويبرز ملامح هذا الشعب الذي حقق نقلة نوعية اخرجها الرسام الشهير في مجموعة من اللوحات التي سماها "انتصار البدوي".
يقول دانيال كورزي، مؤرخ سيرة فيكاري، ان الرسام في اكتشافه السعودية "كان مثل الفنان روبنز عندما اكتشف البندقية ومثل فان غوغ حين وصل الى منطقة لابروفنس الفرنسية او دولاكروا الى الجزائر وغوغان الى جزيرة تاهيتي". غير ان الاكتشاف هنا، هو الصحراء بشمسها، وبرمالها وبكل الاسرار التي تختزلها والسحر الذي تمارسه على الرسام والنفسية التي تستخدمها لدى الرجل. وعن تجربة الصحراء يقول فيكاري ان الصحراء هي "الطريق الى البراءة الاصلية" ويذكّر دانيال كورزي بجملة لورنس العرب الشهيرة "ان تتعلم معاني الصحراء يعني ان تكتشف طهارة الانسان وطهارة الرمال... الصحراء تمتلك الانسان بكليته فلا تفلته قبل ان تغيره تماماً. الغريب نفسه الذي يمر فيها يخرج منها رجلاً مختلفاً. ومهما يفعل لاحقاً، فانه لا ينسى تجربة الصحراء التي يعود اليها دوماً بالحنين".
اذاً، من هذه التجربة خرجت ستون لوحة. ذلك ان فيكاري استقى الهامه من المنفسج الذي لا حدود له من الصحراء التي تشهد كل حبة رمل فيها على قدر الانسان وعلى القوة العلوية التي تشده اليها. الرسام فتح عينيه في السعودية ليقرأ في سفر جديد بالنسبة اليه. غاص بالتاريخ يستنبش منه اسماء واشكالاً مسلحاً بعيني الفنان وريشته. وغرق في الحاضر مسجلاً، مدوناً وسائلاً. مادة خياله تصفع وجهه يوماً بعد يوم وريشاته تتغذى من قدرته الداخلية على التمثل والرصد. الوحدة، البطولة والشمس: عناصر ثلاثة تمثل ابجدية عمل فيكاري الفني. الشمس حاضرة باستمرار في افقه: لون احمر غامق، يتشكل من دوائر متداخلة ومتراكمة تسحق الصحراء بوهجها او تحنو عند الغروب على واحة او قرية او مركب. والبطولة عنوانها "فارس الغسق" والتي وضعها فيكاري على ألبوم اعماله، وتمثلها خصوصاً معركة "السبلة" التي حصلت العام 1927 والتي جسدتها ريشة الفنان في قمة من الرسم الملحمي باللون الاخضر الغالب عليها وبالشمس التي تضيء، بتعب، عناصر المشهد حيث الانقضاض بالسيوف. ومن لوحات هذه الحقبة الشهيرة لوحة الملك عبدالعزيز بن سعود على جواده شاهراً سيفه ولوحة للملوك السعوديين وللأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد. ويعلق اندرو فيكاري على هذه اللوحات بأنها "ولدت في حالة من القلق الداخلي الذي هو منبع كل فن" ويضيف: "اذا كنت نجحت في رسم لوحات "انتصار البدوي" التي تعكس التضاد بين الشمس الحمراء التي تشعل الرمال وتلاعب المراكب عند الغسق او شبوب الفرس فذلك لأنني نجحت في التماهي معه". فالانتصار، يضيف احد المعجبين بلوحات فيكاري يعني انتصار الارادة والروح والحرية وكلها تشكل عصب الفن او خبزه اليومي. ولأنه نجح في عملية التماهي فان اندرو فيكاري نجح ايضاً في ادخال الرسم والتصوير كفن الى المملكة العربية السعودية. اندرو فيكاري يعتبر انه حقق نقلة ذهنية في مجتمع كان ينظر الى الرسم والتصوير بكثير من الريبة والحذر. والحال ان فيكاري فخور، اليوم، بان فنه اثار الاعجاب وشد النظار لا بل اوجد من يسير على هذه الدرب نفسها.
أكبر مشروع منذ نابوليون
يروي أندرو فيكاري انه في 15 كانون الثاني يناير 1991 ركب آخر طائرة متوجهة الى مطار الرياض. فالانذار الذي وجهه مجلس الامن الدولي الى العراق للانسحاب من الكويت وصل الى اجله وباب الحرب اصبح مفتوحاً. ويحرص الرسام العالمي على القول انه كان يريد الوقوف الى جانب اصدقائه في المملكة العربية السعودية في ايام المحنة بعدما عاش الى جانبهم سنوات الفرح والسعادة.
عندما يتكلم اندرو فيكاري عن هذه المرحلة تصبح قسماته اكثر قسوة، وكأن الحرب تركت خاتمها عليه. واول تجاربه معها، كما يرويها الرسام، حصلت ليلة 17 كانون الثاني يناير عندما ايقظه صوت حاد في فندق "انتركونتيننتال" في الرياض طالباً من نزلاء الفندق الاسراع الى القاعات السفلى. والصورة التي بقيت في ذهن فيكاري تلك المتمثلة بالنزلاء الذين لا يفترقون عن اقنعتهم الواقية من الغاز. ولا ينسى فيكاري التعريج على تجربته مع الخوف والقلق والانتظار! غير ان هذا الجو المأسوي لا يمنعه من ملاحظة ان القاعة التي نزل اليها زبائن الفندق لم تكن سوى قاعة الملك فيصل للمحاضرات التي تزينها لوحات ورسوم فيكاري نفسه!
ولادة المشروع
يقول فيكاري انه عند وصوله الى الرياض لم يكن يدور في خلده ان مشروعاً فنياً ضخماً سيرى النور: "عند وصولي الى الرياض لم اكن افكر بالرسم او بالفن. غير ان الفنان يراقب فتنبت بعض الافكار التي تكبر ككرات الثلج والفكرة تتغذى من لقاء". ففي الرياض التقى بأصدقائه السعوديين وبالسفير الفرنسي جاك بيرنييه والجنرال الفرنسي ميشال روكجوفر والجنرال البريطاني دولاً بيليير والجنرال الاميركي نورمان شوارتزكوف. غير ان لقاءه الاهم كان مع الفريق اول الركن الأمير خالد بن سلطان قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات خلال حرب الخليج الذي ساعده على انضاج فكرته وسهّل له عمله وساعده على تحقيق مشروعه. ويلاحظ فيكاري ان المشروع الذي بدأ فكرة بسيطة نضج وكبر وتحول الى ملحمة قوامها 215 لوحة. واستناداً الى ما يقوله النقاد الفنيون، فان فيكاري يؤكد ان ما يقوم به يمثل اكبر عمل فني طلب من فنان منذ الامبراطور نابوليون الاول. واذا كان الفنان الايطالي - الانكليزي اعتاد على رسم المعارك والخيول، فانها المرة الاولى التي يرسم فيها معركة عن الحرب فيها الآلة وليس الانسان. الرسم، يقول فيكاري، هو نافذتي على العالم وجواز سفري الى التفاؤل. غير ان العالم الذي يسافر اليه فيكاري باستمرار، منذ ان بدأ بتنفيذ لوحاته، ملحمي ومأسوي في آن. الملحمة والمأساة لا تنفصلان. عالمه تسكنه وجوه شهيرة كانت على صفحات الجرائد طيلة اشهر كاملة. الا انها تسكنها ايضاً صور جنود عاديين وصور مدنيين ونساء. كلهم يواجهون الالم والتجربة والحرب. وعندما يتنقل اندرو فيكاري بين لوحاته، في محترفه، ينقطع عن العالم العادي، اليومي ويسكن برجاً خاصاً به، آلته الريشة والقلم وناظمه الوحي الفني. اندرو فيكاري يتنقل بين لوحة ولوحة، يعمل على انجاز لوحات عدة في وقت واحد. وفي كل مرة، عينه الثاقبة تراقب وتقيس ويد تنفذ والريشة تطيع.
الخفجي وجحيم الكويت
في هذا التنقل الدائم، يعود الفنان فيكاري الى ما اختزنه من صور، والى ما شاهده على ارض المعركة، والى ما عايشه ورآه وسمعه من القادة العسكريين، ولكن كذلك الى ما حمله معه من صور ووثائق. ذلك ان اندرو فيكاري حصل على تسهيلات لم تكن في متناول اي آخر من المدنيين. فيكاري كان من اوائل الذين دخلوا الى مدينة الخفجي السعودية بعد ان هزمت فيها القوات العراقية. ولمدينة الخفجي بالذات كرّس فيكاري كبرى لوحاته اذ انها بقياس 6 - 10.65 متراً. وعن معركة الخفجي يقول اندرو فيكاري انه يريد "تقاسم ما شعر به والتجربة التي عاشها مع الآخرين بحيث يرسم تحركات الجيوش وينقل جو المعركة". لوحته شاهد حي لأنه الى الجانب الواقعي الذي ينقله بأمانة، فانه ادخل اليها فنه اي نظرته وقدرته على التقاط الدقائق والتفاصيل وتعرية الاشكال وردها الى صيغها الاولية. وفي هذه اللوحة التي تنيرها شمس دموية حمراء، حركة الضوء والنار ترقص في دورات لولبية الى ما لا نهاية. مدخل المدينة بارز الى يمين اللوحة وامامه الأمير خالد بن سلطان بزيه العسكري في حين يظهر البرج في الوسط. هنا حركة دبابات ومصفحات وهنا مدفعية وكل العناصر تتكافل لتوحي بهذه اللحظات الدرامية لمعركة كانت بالغة القسوة يريدها فيكاري ان تكون استكمالاً للوحته عن معركة "السبله".
عندما امسك اندرو فيكاري بيدي، في جولة ثانية في محترفه شرح لي كيف يتصور ترتيب اللوحات. الترتيب في ذهنه واضح: في العمق لوحة معركة الخفجي وعلى الجانبين معركة تحرير الكويت التي يسميها احياناً "جحيم الكويت" و "حرب السماء" وتحتل لوحة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز مكاناً بارزاً. المحترف يتأرجح بين النظام الدقيق والفوضى في الصف الاول لوحة تمثل الأمير خالد بن سلطان والى جانبها لوحة للجنرال نورمان شوارتزكوف. ثم تلي مجموعة من البورتريات للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران ورئيس الوزراء البريطاني جون ميجور وعدد كبير من القادة العسكريين البارزين ثم سفراء الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا والصين. المسؤولون والقادة العسكريون والسفراء جاؤوا الى محترف اندرو فيكاري في الرياض وقبلوا ان ينفذوا ما طلبه منهم في سعيه الى اقتناص ما يميز الشخصية التي يرسمها واظهار ذلك بالحركة او اللون او الظل. والنتيجة ان محترف فيكاري يجمع منظومة فريدة من نوعها في العالم لكبار الذين ساهموا في تحرير الكويت من المسؤولين المدنيين والقادة العسكريين.
أساس العمل
بين اللوحات الضخمة التي تشكل اساس عمل فيكاري والرسوم من البورتريات ثمة لوحات بسيطة تنقل صوراً ومشاهد من الحرب. هنا مدنيون كويتيون اطبق الصمت عليهم، هناك جندي ينقل جريحاً، هنالك امرأة مقاتلة... ثم تكر سبحة اللوحات التي تمثل الاسلحة التي شاركت في المعارك من المشاة والطيارين وقادة الدبابات... منهم من القوات المسلحة السعودية ومنهم من الاميركيين او الانكليز او الفرنسيين او الاماراتيين... وفي كل هذه اللوحات، يحرص فيكاري على ان يقترب من الواقع وان ينفذ منه الى ما يشكل موقعه ومعناه في هذه البنية الفنية المتكاملة. بالطبع، تأمل لوحات اندرو فيكاري عندما تكون تمت بكليتها ورتبت بالشكل الذي خطط له الفنان، سيكون مختلفاً عن تجربتي مع لوحات بعضها انجز وبعضها لم تخط فيه سوى علامات واشارات ولطخات من الالوان. وفيكاري يعرف ان المشروع الذي هو بصدد انجازه يتطلب مثابرة دؤوبة وعملاً متواصلاً. لذلك عندما ودّعني في المطار، سألته عن مشاريعه فأجابني بأنه سيعود الى الرسم وانه يعمل باستمرار، وكأني فهمت ان ثمة نوعاً من التحدي بين الرسام وثمرة عمله. فكما الكاتب يواجه تحدي الصفحة البيضاء، فالرسام يواجه القماشة. وعندما يكون التحدي بحجم المشروع الذي يسعى فيكاري الى انجازه فان الموهبة وحدها لا تكفي. هي بحاجة الى الارادة. ولا شك ان اندرو فيكاري كما عرفته خلال ثلاثة ايام، لا تعوزه الموهبة او الارادة. والنتيجة ستكون مدهشة.
فيكاري : وجدت نفسي في قلب المعركة
* اندرو فيكاري، من أنت؟
- العالم أصبح صغيراً. ومسألة الجنسية لم يعد لها أي معنى. اعتبر نفسي اوروبياً من الجنوب، متوسطي ولاتيني. ولدت في بريطانيا من أهل ايطاليين، قريتي في ايطاليا في منطقة بارم. وعندي علاقات قرابة بعيدة من فردي وتوسكانيني.
* ماذا أخذت من الانكليز؟
- روح السخرية والدقة.
* انت والرسم قصة حب هادئة ام عاصفة؟
- قصة حب عاصفة وقلقة. انا مؤمن. كل ما نلاقيه في العالم مدهش. لقد تخطيت عتبة ال54 عاماً وانا الآن ارى حدود الموت. والمدهش اننا في هذه المرحلة من الحياة نقدر اكثر ما نعيشه ونندهش به.
* قبل الرسم، هل حاولت في فنون اخرى؟
- لقد بدأت في الرسم عندما كان عمري 7 سنوات. وتأثرت بالرسامين الرومنطيقيين والباروك، الايطاليين والاسبانيين. وعبرهم وصلت الى فان غوغ. المفارقة ان الاخير لم يعد يهمني الآن. اليوم عدت لاكتشاف رافايل. وحبي لرافايل جاء متأخراً واعتقد ان ما اقوم به الآن تكريم لرافايل. دانيال كورزي الذي هو مؤرخ سيرتي وبيتر كارن بروكز الذي هو بصدد كتابة مؤلف عني يقولان ان ما اقوم به حالياً وما انجزه من لوحات حول حرب الكويت اضخم مشروع فني منذ نابوليون الاول. ما اقوم به اليوم مختلف عن كل ما قمت به في السابق. اعتدت على رسم المعارك والخيول والرجال. ولكن اليوم علاقتي بالدبابة والطائرة والصاروخ.
* الى جانب رافايل وفان غوغ، من أثر بك؟
- في ما خص التقنية الفنية يعجبني فانز هاوز. حركة ريشته سحرية. حتى عندما تكون رسالته غامضة. ثم هناك غينسبل وفان دايك. هؤلاء يخرجون عن المألوف. فاتو يسحرني بالمحتوى النفسي للوحاته. وفي ما خص التصوير انا معجب بفنانين: أنفر وهولباين اذ انهما بقليل من الخطوط نجحا في نقل اكبر قدر ممكن من المحتوى. قبل زيارتي للمملكة العربية السعودية في اوائل السبعينات، لم يكن عندي اية فكرة عن الصحراء. انا ابن المناظر الغنائية اعتبر الملك عبدالعزيز آل سعود رجلاً مهماً من رجالات التاريخ. ولكن لم يكن يدور ابداً في ذهني انني سأرسم مجموعة كبيرة من اللوحات عن الحرب.
* وحرب تحرير الكويت؟
- كنت فيها مثل بيار، بطل تولستوي، في معركة بورودينو. وجدت نفسي في قلب المعركة. وكفنان حاولت ان أرى وأسجل. ثم برز هذا المشروع الضخم. الذي هو وليد لقاءات مهمة مع الفريق اول الركن الامير خالد بن سلطان. بالطبع، ما اقوم به هو مساهمتي، شهادتي، ولكنه اكثر من ذلك ايضاً. انا استخدم ما حصل واعطيه بعداً آخر. المأسوي يتحول الى ملحمي، الى فن. في البداية كنت اريد ان اقف الى جانب اصدقائي. وها انا اليوم في صدد مشروع فني فريد من نوعه.
انه مشروع ضخم ولكن اعتقد انه من ضمن امكاناتي. في صيف العام 1993، يجب ان تكون كل اللوحات جاهزة حتى تعرض في الخريف في واشنطن ثم في ربيع 1994 في لندن وفي بداية الصيف في باريس. محطة الرياض سنصل اليها في شتاء العام 1994. ثقتي بك وبمجلة "الوسط" تحفزني على ان افتح ابواب محترفي. وكما ترى، هناك لوحات كبرى ولكن كذلك رسوماً لستين شخصية من المدنيين والعسكريين من الذين لعبوا دوراً مميزاً في الحرب. هذه الشخصيات جاءت الى محترفي في الرياض وقبلت الجلوس امامي. من هذه الشخصيات سفراء خمس دول الولايات المتحدة الاميركية، كندا، فرنسا، بريطانيا، والصين. ومن العسكريين الفريق اول الركن خالد بن سلطان والجنرال شوارتزكوف والجنرال روكجوفر والجنرال دولا بيليير... ها هي الرسوم في قسمها الاكبر امامك. وكما ترى ثمة عمل ضخم ينتظرني ولكنني أحب ما أعمله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.