هل يمكن ان ينتهي التاريخ؟ اجاب احدهم ان التاريخ قد انتهى فعلاً بانهيار الشيوعية السوفياتية وانتصار الليبرالية الغربية الرأسمالية؟. ولكن الؤال يبقى هاجساً في الذات واحراجاً للذهن والانسان: هل يمكن فعلاً للتاريخ ان ينتهي؟ نحن بطبيعة الحال لا نملك اجابة جاهزة ولا "دوغما" معينة قادرة على اعطاء صيغة جواب قاطع يريح النفس القلقة ويهدئ روعة الذات من حيرة السؤال واحراج الاستفسار. كل ما نعرفه اننا نملك محاولة هي عبارة عن مجرد حوار مع الذات ومع الآخرين، القديم منهم والحديث، من اجل الوصول الى شيء من جواب وليس كل الجواب. لو كنت ماركسياً دوغماتياً متحمساً لقلت لك: "نهاية التاريخ في انتصار الشيوعية واختفاء الدولة والطبقات وسيادة مبدأ من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته، وما انهيار الشيوعية السوفياتية الا لأنها شيوعية مزيفة وليست حقيقية"، ولو كنت ليبرالياً دوغماتياً متحمساً لقلت: "لا نهاية للتاريخ إلا بالانتصار النهائي للحرية الفردية، وما الاضطرابات في الولاياتالمتحدة وحركات الجياع في اوروبا الغربية الا انحراف عن التطبيق الصحيح لليبرالية الصحيحة". ولو كنت قومياً دوغماتياً متحمساً لقلت: "لا نهاية للتاريخ الا بسيادة الامة ونهضتها واحتلالها المركز الملائم لها في هذا العالم"، وعادة ما يكون هذا المركز الملائم هو قمة العالم والا فانه غير ملائم. ولو كنت "اسلاموياً" دوغماتياً متحمساً اهتدى ب "معالم على الطريق" لقلت: "لا نهاية للتاريخ الا بسيادة اولئك الفتية الذين كنت ألمحهم بعين الخيال قادمين. فوجدتهم في واقع الحياة قائمين". ولو كنت مسيحياً اوغسطينياً متحمساً لقلت: "لا نهاية للتاريخ الا بسيادة مدينة الله وسقوط مدينة الشيطان". ولو كنت "علموياً" وضعياً متحمساً لقلت: "انما ينتهي التاريخ بسيادة العلم وانهيار الميتافيزيقيا والغيبيات". ولو كنت هيجلياً درغماتياً متحمساً لقلت: "ينتهي التاريخ بقيام الدولة القومية وسيادتها حيث انها التجسد التاريخي الفعلي للفكرة المطلقة". ولو كنت نيتشوياً متحمساً لقلت: "عندما يظهر الانسان المتفوق الاعلى فان ذلك هو نهاية التاريخ". ولو كنت ولو كنت ولو كنت لقلت ان نهاية التاريخ لا بد ان تكون هكذا او هكذا، تتعدد نهاية التاريخ بتعدد الايديولوجيات والفلسفات المتبعة، الدوغماتي منها والذي يظهر غير ذلك، كل تيار له بداية وله نهاية ينظر من خلالها الى التاريخ ويحكم عليه بالسلب او الايجاب، انطلاقاً من الصيغ التجريدية القاطعة التي يحملها الذهن وتنقل اليه صورة العالم وتنقل الى العالم صورة هذا الذهن ذاته. بمعنى انه عندما يتحدث عن التاريخ فان الذهن لا ينصرف الى كيان موضوعي محدد ومعين بل ان المسألة متعلقة بمفهوم ذاتي يختلف باختلاف النظرة المنطلقة من اختلاف الفلسفات والايديولوجيات والعقائد، اما التاريخ بصفته حقيقة موضوعية بحتة فليس الا كماً من معلومات محايدة، نحن، اي الانسان، من يعطيها المعنى ويصبغها بالغائية ويسبغ عليها الهدف. ونحن لا نقول مثل هذا الكلام بقصد الانتقاص من مفهوم التاريخ او الحط من شأنه لدى مختلف التيارات والاتجاهات، بقدر ما ان الذهن منصرف هنا الى تقرير حقيقة معينة هي ان الانسان هو محور الاشياء وقيمتها، بمعنى ان الاشياء لا معنى لها ولا قانون "موضوعياً" ينتظمها بالمعنى الصارم المستقل للقانون، لولا وجود الانسان او الذات التي تعطي الاشياء معانيها وغاياتها واهدافها على اختلاف المسارات العقائدية والفلسفية والايديولوجية التي يتبعها هذا الانسان. نعم تختلف هذه العقائد وتلك الفلسفات والايديولوجيات. فكل واحد لديه حقيقته "الموضوعية" المطلقة التي يحاول الدفاع عنها و "فرضها" بعض الاحيان ولكن مثل هذه التعددية في العقائد والفلسفات والايديولوجيات هي التي تجعل في الحقيقة من الانسان انساناً وتفرقه عن بقية الكائنات التي تشاركه العيش على هذه الارض، الكائنات الاخرى هذه لا تاريخ لها على رغم انها موغلة الوجود في الزمان، وذلك لأنها ذات قالب واحد يحكمه ناموس الوجود البيولوجي، الا وهو مجرد البقاء الجسدي او المادي البحت، وبذلك ليست هذه الكائنات الا اجساداً تأكل وتشرب وتتناسل في تكرار لا يتوقف منذ بداية الزمان وحتى آخر الزمان ولأجل ذلك فانه لا تاريخ لها، بالمعنى الذي يفهمه الانسان على اختلاف اتجاهاته، وبما ان الانسان هو الكائن الوحيد الذي يمزج ذاته بما هو خارج عنه فانه بذلك اصبح ذا تاريخ معين لأنه بذلك انما ينفك من اسار ناموس الوجود البحت ويسعى لأن يكون سيداً عوض ان يكون مجرد مسود، وهذا هو جوهر التاريخ. والتعددية "الذهنية" الانسانية، سواء في النظر الى مسألة التاريخ او غيرها، هي التي تجعل من الانسان صانعاً للتاريخ لا مجرد منفعل بالناموس الرئيسي للوجود، على رغم ما تفرزه هذه التعددية من صراع او تنافس بين "الحقائق المطلقة" للعقائد والفلسفات والايديولوجيات، اذ ان مثل هذا الصراع هو المحفز او هو مهماز التجاوز، وبذلك نعني تجاوز الانسان لذاته من حيث انه مجرد جسد خاضع لناموس الوجود البيولوجي من ناحية ومن حيث انه كم من تطلعات تتجاوز هذا الناموس من ناحية اخرى. فلو ان حقيقة "مطلقة" واحدة، بغض النظر عن جذرها الايديولوجي او الفلسفي، هي السائدة دائماً وابداً على كل مكان وفي كل زمان لانتفى مهماز الحركة وسقط حافز التجاوز وبقي الانسان سجين "القالب" الواحد، مثله في ذلك مثل بقية الكائنات التي سبقته في الوجود الزمني، وقد تبقى بعد رحيله، وهنا فقط يتوقف التاريخ وينتهي لأن ذات الانسان انتهى وتحول الى مجرد كائن ضمن كائنات، وجسد يأكل ويشرب ويتناسل ومن ثم يموت وتطويه الارض في ذراتها كما طوت ما لا حصر له من كائنات قبله، وكما ستطوي ما لا حصر له بعده. اذن التاريخ مسألة مرتبطة بالوجود الانساني اولاً وآخراً، ونحن هنا نتحدث من منطلق ذاتي ايضاً، اذ لا موضوعية مطلقة حيث ان الموضوعية المطلقة، كما سبق الحديث عن ذلك، هي اللامعنى بعينه. والوجود الانساني بدوره ليس ثابتاً او ستاتيكياً بل انه ديناميكي متحرك من حيث انه خاضع للاختلاف والتعدد، وذلك مرتبط بدوره ايضاً بطبيعة الانسان من حيث انه كائن ذو تطلعات وليس كائناً يومي المعيشة جسدي الحاجة فقط، او هكذا نفترض، وطالما بقي انسان على وجه هذه الارض فان التاريخ لا ينتهي وليس له ان ينتهي. نصنع التاريخ أو ننتهي نهاية التاريخ هي نهاية الانسان ذاته بشكل من الاشكال. ان الانسان كائن اجتماعي له مطالب بيولوجية يتساوى فيها مع الكائنات الاخرى ولكن له ايضاً اهداف وغايات تتجاوز مجرد الوجود البيولوجي وهو لا يستطيع ان يحقق هذه الاهداف والغايات الا ضمن جماعة. لأجل ذلك قال ارسطو ان الانسان حيوان اجتماعي سياسي اذ لا فرق بين البعدين الاجتماعي والسياسي عند الاغريق، بمعنى آخر فان الانسان كائن وسط او كائن متوسط يقع بين مستوى الكمال والبهيمة: فهو لا يرقى الى مستوى الكمال ولا ينحط ايضاً الى مستوى البهيمة على رغم ان البعض ينحط الى اقل من مستوى البهيمة، ولكن الشذوذ لا يفسد القاعدة. وسطية الانسان تلك تجعله دوماً وابداً يسعى الى الابتعاد عن مستوى البهيمة ويحاول الاقتراب من مستوى الكمال، لأجل ذلك انه يصنع التاريخ، فالكمال يعني الثبات والثبات توقف الزمان. والحيوان لا تاريخ له لأن هناك ثباتاً في وتيرة حياته القالب الواحد وبالتالي فانه لا زمان فعلياً له وبالتالي لا تاريخ. اما الانسان فان التغير ومحاولة السعي نحو الكمال، يجعلان الثبات مسألة غير واردة في حياته، لذلك فانه كائن تاريخي. هنا نأتي الى بيت القصيد، كما يقولون، وتبرز لنا اشكالية نهاية التاريخ بكل وضوح وتجل. ينتهي التاريخ، كما قلنا سابقاً، بنهاية الانسان ذاته ونهاية الوجود الانساني، وذلك لا يكون الا باحدى حالتين: اما ان يصل هذا الانسان الى منتهى الكمال وبالتالي تنتفي الغايات والتطلعات والحاجات، البيولوجي منها وما وراء ذلك، وفي هذه الحالة ينتفي كون الانسان انساناً، اذ يتحول اما الى كائن آخر سوبرمان نيشته او تتغير شروط الوجود الانساني فينتفي ذات الوجود ويتحول الى نوع من الوجود الآخر شيوعية ماركس الطوباوية مثلاً، هذه هي الحالة الاولى، اما الثانية فهي ان "يتقولب" الانسان في قالب واحد ضمن اطار فكري ومعيشي واحد، ومثال ذلك انسان جورج اورويل في قصته 1984 او المحاولات الفاشية والنازية والشيوعية السوفياتية لخلق نمط انساني واحد، وفي مثل هذه الاحوال ينحط الانسان الى مستوى هو اقل من الحقيقة من مستوى البهيمة حيث يصبح الهاجس الاوحد هو مجرد الوجود البيولوجي، وفي هذه الحالة تتفوق الحيوانات الاخرى على الانسان ذاته في هذا المجال. وأيضاً في هذه الحالة لا يبقى الانسان انساناً بل يتحول الى كائن مسخ لا هو بالانسان ولا هو بالحيوان. مثل هذه القولبة، ووفق الطرح الايديولوجي الذي تتبعه على اختلاف انواعه، تسعى بالانسان نحو الكمال حسب تصور معين، ولكن ينتهي بها الحال الى سلب الانسان انسانيته فتدفعه الى الحقيقي في سلم الموجودات على رغم قولها بالسعي نحو الكمال، والعبرة بالفعل والنتيجة وليس بمجرد القول، والحالتان في حقيقة الامر متداخلتان لا تنفصمان لأن نتيجتهما واحدة الا وهي نفي الانسان. ولكن الذاكرة البشرية التاريخ بصفته سجلاً موضوعياً بحتاً يبين لنا ان كل محاولات نفي الانسان تنتهي الى الفناء والفشل، اذ يبقى الانسان انساناً على اختلاف العصور بسلبياته وايجابياته التي هي اساس انسانيته وجوهر بشريته، لأجل ذلك فان الانسان ما زال كائناً تاريخياً، ولأجل ذلك ما زال فاعلاً، فالتاريخ ما زال "مفتوحاً" لأن الانسان ما زال موجوداً، وطالما ان هنالك انساناً فان هنالك تاريخاً. قد تأتي لحظات زمنية معينة نتصور فيها ان "لا جديد تحت الشمس" وان الهدوء والتكرار وبالتالي الثبات هو السيد فنتصور بالتالي ان هذه هي نهاية الزمان الذي توقف، ولكن ذلك، في غالب الاحيان، ليس سوى مظهر غير ثابت ووجه مزيف يخفي ما وراءه. ففي عصور الانحطاط العربية تصور الناس ان الزمان توقف نتيجة شبه الليلة بالبارحة وشبه اليوم بالأمس وبالغد. وفي العصور الوسطى الاوروبية تصور الناس ايضاً ان الزمن توقف وان اللحظة هي نهاية التاريخ الوشيكة، اذ منذ سقوط روما وبدايات النهضة كانت الحال هي الحال من قالب واحد ووتيرة واحدة في الذهن والمعاش، ولكن، وكما نعلم من سجل الزمن، فان الامور تغيرت وواصل التاريخ مساره غير عابئ بفلسفات وايديولوجيات نهاية التاريخ، اذ طالما بقي انسان في هذه الدنيا، ونحن نكرر هنا، فان التاريخ لا ينتهي. وبالمنطق نفسه نستطيع ان نحلل اطروحات فوكوياما حول نهاية التاريخ، اذ قد يبدو ان قيم الليبرالية الغربية قد انتصرت انتصاراً نهائياً على ما عداها من قيم ومبادئ، وان العالم يتحول الى نوع من كتلة ذهنية ومعيشية واحدة، الا ان ذلك كله ليس الا مرحلة سبقتها مراحل وستتوالى مراحل، هكذا يقول التاريخ ذاته. شكل هذه المرحلة القادمة ونوعها شيء لا نستطيع التنبؤ به اذ ان ذلك متروك للملحمة الانسانية كي تحدده، ولكن كل ما ندريه ان محاولات "القولبة" مهما كانت ذات نوايا مخلصة واهداف نبيلة، فانها انما تقضي على جوهر الانسان المبني على الانطلاق والسعي نحو الرفعة والكمال وان لم يصل اليها بشكل تام، بغض النظر ايضاً عن طبيعة القيم والمبادئ التي "يقولب" على اساسها. قد يقول قائل بعد قراءة الكلمات السابقة هازّاً رأسه بعدم اقتناع، سواء بمنطق الموضوع او جدواه: "ما جدوى كل هذا اللّت والعجن في مسألة تجريدية لا علاقة لها بواقعنا ومشاكلنا الملحة والآنية". قد يكون لمثل هذا التعليق نوع من المصداقية المحدودة الا انه يبتعد عن جوهر المسألة الذي هو في اعتقادي جوهر يمس الحياة العربية في جذورها من حيث ان نكون او لا نكون: نكون فاعلين وصانعين للتاريخ او لا نكون كذلك فينتهي التاريخ وتنتفي انسانيتنا ذاتها. ان المسألة لا تتعلق بمشكلة هنا ومعضلة هناك بقدر ما تتعلق بذات الوجود الذي على اساسه تكون المشكلات او لا تكون. * كاتب ومفكر سعودي.