جرت العادة بعد كل انتخابات اسرائيلية أن يقوم رئيس الوزراء المنتخب بزيارة الولاياتالمتحدة في أول خطوة ديبلوماسية له خارج اسرائيل. ولزيارة ايهود باراك أهمية خاصة بها، ليس فقط لأنها تأتي على خلفية التوتر في العلاقات بين حكومة نتانياهو وإدارة كلينتون، بل لأن باراك، على شاكلة رابين، "محسوب" على التيار الأميركي داخل المؤسسة السياسية والعسكرية الاسرائيلية، باعتبار ان التحالف مع واشنطن والارتباط باستراتيجيتها والمحافظة على مصالحها، اضافة الى تطوير التعاون العسكري معها، كلها تصب في تقوية اسرائيل وتثبيت قوتها الرادعة، اضافة الى كسبها الى جانب اسرائيل كراعية لعملية السلام. وهنالك أيضاً أجندة أميركا بعد الحرب الباردة. وكان باراك قد نصح نتانياهو في أكثر من مناسبة أن لا يتمادى في علاقته مع واشنطن، لأن لذلك عواقب وخيمة على المصالح الاستراتيجية لاسرائيل. وكابن المؤسسة العسكرية وأحد أهم جنرالاتها في الثمانينات، أو الفترة التي انتعشت فيها العلاقات العسكرية والتكنولوجية بين البلدين، فإن باراك أكثر من غيره داخل حزب العمل، يعي أهمية العلاقات الممتازة مع أميركا، كما ويعرف كيف يتعامل مع المؤسسة الحاكمة فيها. وباراك خالٍ من الاعتبارات الايديولوجية التي تميز بها زعماء اسرائيل، أو زعماء حزب العمل بالتحديد. وهو بهذا المعنى أيضاً أقرب الى رابين من حيث أن ولاءه للمؤسسة العسكرية ولراعيها الأميركي. نظرة سريعة الى العلاقات العسكرية والثنائية، الأميركية - الاسرائيلية، تبيِّن أنها بدأت فعلاً في أواسط الستينات وبعد حرب 67 بالتحديد. وتزامنت الفترة الذهبية الأولى مع وجود رابين سفيراً لاسرائيل في واشنطن بعد أن كان رئيساً لأركان جيشها أثناء الحرب. واعتبر رابين ان وجوده سفيراً في واشنطن لا يقل أهمية عن دوره رئيساً للأركان في أهم حروب اسرائيل، لأن العلاقة مع الولاياتالمتحدة هي التي يمكن أن تسمح لاسرائيل بأن تحافظ على ما أنجزته في الحرب في الاستيلاء على أراض تساوي ثلاثة أضعاف مساحة اسرائيل، اضافة الى القدس ومصادر مياه وعمق جغرافي استراتيجي وقوة معنوية ودعم أميركي. وكان رئيس الوزراء ليفي اشكول يعطي أهمية قصوى لتحسين العلاقات مع الولاياتالمتحدة على حساب العلاقات مع فرنسا، التي كانت تعتبر الشريك العسكري الأساسي لاسرائيل من حيث الأسلحة التقليدية والنووية، وكان حينها شمعون بيريز وسكرتير الحزب لوقا إلياف وقائد سلاح الطيران، رئيس الدولة الحالي عازر فايتسمان يؤيدون العلاقة مع باريس. إلا أن رابين وغولدا مائير واشكول اعتبروا ان الاعتماد على واشنطن وأسلحتها قبل حرب 67 وبعدها أفضل لاسرائيل. واعتبر رابين ان أهم ما فعله اشكول أثناء رئاسته هو فتح الطريق منذ سنة 1964 الى الولاياتالمتحدة وأسواقها العسكرية. وبالفعل، وكنتيجة لتقارب الاستراتيجية الأميركية مع الدور الاسرائيلي بعد حرب 67 ارتفعت الصادرات العسكرية الأميركية لاسرائيل من ربع بليون دولار في عهد جونسون الى 4 بلايين دولار في عهد نيكسون - كيسنجر، أي انها ارتفعت بنسبة 16 ضعفاً في هذه الفترة، و11 ضعفاً في فترة الرئيس جيرالد فورد. وأما في عهد الرئيس "المعتدل" جيمي كارتر فقد وصلت الى 7.4 بليون دولار. وكما أشرنا فقد شهدت العلاقات العسكرية الأميركية - الاسرائيلية تحسناً نوعياً وليس فقط كمياً، من حيث الارتباط والتداخل العسكري والتكنولوجي البحثي والاستراتيجي بين البلدين. كان باراك في تلك السنوات جندياً وجنرالاً، وكان يعرف مثل رئيسه السابق رابين، كيف استفادت اسرائيل من العلاقة مع واشنطن ومتى. فرابين يقص علينا، بصفحات عديدة، اشكالية العلاقة مع واشنطن بعد سنة 67، حين كان سفيراً لديها، ولاحقاً رئيساً لوزراء اسرائيل. ويكتب رابين في مذكراته كيف أنه كان يبعث لاسرائيل برقيات تقول انه كلما صعّدنا مع مصر في نهاية الستينات وكلما عمقنا من ضرباتنا ستتحسن الصادرات العسكرية الأميركية وتتعمق العلاقات الاستراتيجية مع واشنطن. وكان رابين يعي تماماً أن هنالك دوراً على اسرائيل أن تقوم به لصالح المصالح الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وبناء على ذلك، اعتبر رابين أن أفضل هذه الأدوار جاءت أثناء حوادث أيلول الأسود في الأردن حين تصدّت القوات الاسرائيلية في الجولان لامكان تدخل سوري في الأردن واجهضت الزحف السوري باتجاه الحدود مع الأردن على خلفية تحرك الأسطول الأميركي في البحر المتوسط. واعتبر رابين ان هذا كان أفضل ما قامت به اسرائيل من دور استراتيجي ضمن عقيدة نيكسون - كسينجر التي تمثلت بدعم وتقوية مراكز قوى في مناطق مختلفة في العالم للدفاع عن المصالح الأميركية فيها، وخاصة بعد التدخل المباشر الفاشل في فيتنام. وبهذا المعنى قفزت المساعدة المباشرة من 30 مليون دولار قبل التدخل على الخط السوري - الأردني الى 540 مليوناً بعد المواجهة مباشرة. والأمر ذاته حصل بعد حرب 73، حيث قفزت المساعدة مباشرة الى 2.2 بليون دولار. وكان أكثر ما يحدث توتراً في العلاقات الأميركية - الاسرائيلية كان ذلك الارتباط العضوي بين المسار السياسي والمسار العسكري التسلحي الذي أصرت عليه واشنطن، في حين طالبت اسرائيل بفصل المسارات باعتبار ان اسرائيل حليف استراتيجي بغض النظر عن خلافات في الرأي هنا وهناك. ولكن العلاقات مع الاتحاد السوفياتي حينها كانت معقدة، واعتمدت في لحظات مختلفة مبادرات من نوع مبادرة روجرز في أواخر الستينات، أو مؤتمر جنيف في السبعينات، الأمر الذي رفضته اسرائيل رفضاً قاطعاً ما ترك، حينها، أثراً على العلاقات العسكرية، أو بالأحرى على تسليمها الأسلحة المتفق عليها. وشهدت العلاقات بعض التوتر كذلك بسبب مبادرة الرئيس رونالد ريغان في أوائل الثمانينات، وكذلك عشية مؤتمر مدريد وبعده، حين أدى رفض واشنطن أو تقاعس إدارة جورج بوش في ضمان قرض العشرة بلايين دولار لاستيعاب المهاجرين الروس، الى إضعاف فرص حكومة اسحق شامير وفوز اسحق رابين في الانتخابات سنة 92. وبلا شك مرّت حكومة نتانياهو بنفس أزمة العلاقات مع واشنطن، ولكن لفترة أطول من أي فترة أخرى مشابهة منذ حرب 67. ولجأت واشنطن هذه المرة، مثلما فعلت سنة 1992، الى حلفائها في الجيش الاسرائيلي لوقف التصلب السياسي لدى الحكومة الاسرائيلية. وفي الحالتين نجح الجيش وفاز رئيسا الأركان، رابين سنة 92 وباراك سنة 1999، سوى أنه في هذه المرة كان دور جنرالات الجيش، بما في ذلك دور وزير الدفاع السابق اسحق موردخاي حاسماً، في كسر شوكة الليكود الذي كسر إرادة واشنطن علناً. واعتبر موردخاي ان نتانياهو عرّض العلاقات الاستراتيجية وقوة اسرائيل العسكرية للخطر حين أغلق الباب على الولاياتالمتحدة. ولكن استراتيجية الولاياتالمتحدة تغيّرت منذ انتهاء الحرب الباردة، ولو أن ركائزها الاقليمية ما زالت ثابتة. ويصف الأميركيون باراك بأنه تلميذ ناجح وطموح أكثر مما يتصور العقل، كما أنه أكثر جنرالات اسرائيل تميزاً من حيث الميداليات، ولذلك فهو يعرف - ولربما إذا نسي سيذكرونه في واشنطن - ان أهمية القدرة العسكرية تنبع أولاً وقبل كل شيء في تأمين المصالح الاقتصادية. وعقيدة كلينتون - ليك، إذا كانت هنالك بالفعل عقيدة كذلك، تتمثل باستراتيجية فتح الأسواق والتقليل من تدخل الدول والحكومات في حركة المال والتجارة، ورفع أيديها عن تطور مسار العولمة في اقاليمها. وأفضل السبل الى ذلك هو المزيد من الاستقرار في ظل الهيمنة الغربية. وترغب واشنطن في أن يكون المحرك وراء الاستقرار عملية ديموقراطية تكفل تطور القطاع الخاص بصورة حرة، ولكن وإذا تعذرت الديموقراطية، أو أدّت الى عملية شغب وعنف ومواجهة، فإن دور العسكر في السياسة هو أولاً وقبل كل شيء المحافظة على الاستقرار والتمهيد لفتح الأسواق ورفع الاجراءات البيروقراطية وتوطين شبكة التجارة الاقليمية أمام الاقتصاد الأميركي وبالعكس. ودور العسكر في السياسة فرض حلولاً سياسية مع اتخاذ اجراءات أمنية لردع القوى الراديكالية في المجتمعات المستهدفة. وهذا هو المطلوب حالياً في العملية السلمية، وهو الذي ترتأيه، على ما يبدو، حكومة باراك بمباركة واشنطن. وفي زيارة باراك، سيتم البحث بالتفصيل وفي التكتيك باعتبار ان الخطوط العريضة لدور اسرائيل، ودور العسكر فيها، في خدمة المصالح الأميركية واضحة، وكذلك ضمان واشنطن تفوق اسرائيل العسكري واستفادتها الكاملة من انفتاح الأسواق ومن الاستقرار القادم. * كاتب فلسطيني.