الندوة النفطية الدولية التي عقدت في باريس ابرزت بوضوح اهمية الدور الذي تلعبه الولاياتالمتحدة في التأثير على السوق النفطية العالمية، كما أبرزت مدى اعتماد الولاياتالمتحدة على النفط المستورد، خصوصاً من منطقة الخليج العربي. وقد شارك في هذه الندوة الدولية، التي عقدت يومي 27 و28 نيسان ابريل الماضي تحت عنوان "آفاق اسواق النفط والغاز: المتغيرات التي طرأت بعد حرب الخليج"، خبراء في شؤون النفط والسياسة والاستراتيجية والاقتصاد من دول عدة عربية واوروبية اضافة الى الولاياتالمتحدة. ونقدم في ما يأتي خلاصة مركزة لأبرز ما جرى في هذه الندوة. الخلاصة التي تفرض نفسها، من خلال المداخلات والمناقشات التي جرت طيلة يومين، تؤكد اهمية الدور الذي تلعبه الولاياتالمتحدة تحتل المركز الاول في العالم، ففي العام 1989، استهلكت الولاياتالمتحدة 25.5 في المئة من مجموع الانتاج العالمي من النفط. وتبلغ الحاجة النفطية الاميركية، في الوقت الحاضر، 16.5 مليون برميل في اليوم. الا انها مرشحة للازدياد اذا ما تأكدت توقعات انطلاق الاقتصاد الاميركي. غير ان مشكلة الولاياتالمتحدة هي ان حاجتها النفطية تتجه الى الارتفاع في حين ان انتاجها يستمر في الانخفاض. واذا كانت الولاياتالمتحدة تستهلك ما يتعدى ربع الانتاج النفطي العالمي بقليل، الا ان احتياطها النفطي لا يمثل سوى 2.6 في المئة من الاحتياط العالمي ولا تتعدى سكانياً 4.8 في المئة من سكان العالم. وينعكس هذا الوضع على السوق النفطية الاميركية. فقد بلغت الواردات النفطية الاميركية العام الماضي نسبة 45.7 في المئة وهي اعلى نسبة تم تسجيلها منذ العام 1977 حين بلغت 48 في المئة من الاستهلاك النفطي الاميركي. واذا استمرت الامور على هذا المنوال فلا يستبعد ان يصل الاعتماد لاميركي على النفط المستورد الى نسبة 75 في المئة او حتى 80 في المئة. هذه الارقام والنسب تظهر اهمية السوق النفطية الخارجية بالنسبة الى الولاياتالمتحدة وحال التبعية النفطية الاميركية للخارج، اي للمناطق المنتجة للنفط في العالم، وتحديداً لمنطقة الخليج التي تحتضن 65.7 في المئة من الاحتياط النفطي العالمي المعروف. وذكر باتريك كريكي، الباحث في معهد سياسة واقتصاد الطاقة في فرنسا خلال هذه الندوة، ان الولاياتالمتحدة اختارت، بفعل الضغوط الاقتصادية وتقلبات السوق النفطية، تبنّي ما يسمى ب "نظرية ادلمان" التي ظهرت عام 1986. وأدلمان، اقتصادي اميركي معروف يعتبر ان "السوق النفطية تسير على رأسها" وانهمن غير العقلاني الاصرار على انتاج نفط مرتفع الكلفة في مناطق خارج مناطق دول الاوبيك، في حين ان الخليج يوفر النفط بأسعار مخفضة وبكميات كبيرة لعقود عدة من الزمن. وهذه النظرية يبدو انها موضع تطبيق في الولاياتالمتحدة. فمعدل كلفة استخراج برميل من النفط في الولاياتالمتحدة تجاور العشرين دولاراً في حين انها في حدود اربعة دولارات في الخليج. غير ان اسعار النفط المتهاودة، وان كانت تلائم مصلحة الولاياتالمتحدة ومعها العالم الصناعي المباشرة، إلا انها تحمل كثيراً من الاخطار على المديين المتوسط والبعيد. الهدف الاميركي المباشر في ميدان الطاقة في الوقت الحاضر يتمثل بالحفاظ على اسعار النفط منخفضة لأن اي ارتفاع فيها سيزيد من الصعوبات الاقتصادية الاميركية ويفاقم من عجز الميزان التجاري. وبدل ان تعتمد الولاياتالمتحدة على التعاون والحوار بين الدول المستهلكة والدول المنتجة الاوبيك، فانها تفضل ان تركز جهودها على اقامة علاقات قوية وثنائية استثنائية مع بعض دول الاوبيك. ينطلق باتريك كريكي، في محاولة لوصف حالة السوق النفطية والعوامل المؤثرة عليها، من مجموعة من الاعتبارات والحسابات. فالاستهلاك العالمي من النفط كان عام 1990 بحدود 65 مليون برميل في اليوم. وانتاج الدول غير المنتمية الى الاوبيك وصل الى 40 مليون برميل في اليوم. والمقبول بشكل عام ان الاستهلاك العالمي عام 2000 سيتراوح بين 75 و80 مليون برميل في اليوم، في حين ان انتاج تلك الدول نفسها لن يزيد، بل على العكس سيتراجع الى 35 مليون برميل في اليوم. وإذا اخذنا في الاعتبار ان دول الاوبيك غير الخليجية ليست مرشحة لتحقيق زيادة في انتاجها النفطي فهذا يعني ان الدول الخليجية مدعوة الى سد النقص الحاصل في انتاج البلدان غير المنتمية الى اوبيك والاستجابة الى زيادة الطلب على النفط حتى العام 2000. وبالأرقام فان على دول الخليج ان تنتج ما بين 35 و45 مليون برميل يومياً. ويخلص باتريك كريكي الى القول ان الوصول الى الرقم الاول ممكن لكنه يعني ان الدول الخليجية ستحقق سقفاً انتاجياً لم تعرفه اطلاقاً في الماضي. غير ان الوصول الى الرقم الثاني مستحيل وبالتالي فان النظام البترولي العالمي سيواجه صعوبات كبرى. وفي كل حال، فان برامج التوظيف والاستثمار المعروفة في الدول الخليجية تفيد ان ثمة حاجة الى مبلغ قد يصل الى 70 مليار بليون دولار للارتفاع بالانتاج الى حدود 28 مليون برميل يومياً في العام 2000. وتفيد دراسة اعدّتها شركة "بريتيش بتروليوم" ان ثمة حاجة لتحقق اسعار النفط ارتفاعاً لتوفير مبلغ 250 مليار دولار الضروري لتطوير الانتاج النفطي حتى يتلاءم مع حاجات السوق العالمية بين عامي 1992 و1996. والحال ان 20 في المئة من هذا المبلغ غير متوفر اليوم و40 في المئة لن يتوفر في السنوات المقبلة. ثم ان القطاع البترولي الذي يحتاج الى المال حتى يتطور ويبقى محافظاً على توازن الاقتصاد العالمي يشترك في منافسة حادة مع قطاعات اقتصادية اخرى تحتاج بدورها الى توظيفات وتعد بامكانيات تطور كبرى. 800 مليار دولار خسائر ان المفارقة هي ان الانخفاض الحالي لأسعار النفط سيؤدي الى نتائج غير متوقعة، منها احداث صدمة نفطية جديدة باتجاه ارتفاع الاسعار سببها ازدياد الطلب وتناقص العرض. الاقتصاد الاميركي نفسه الذي يزيد اكثر فأكثر اعتماده على نفط الخليج والنفط المستورد بشكل عام سيكون بدوره اكثر هشاشة لمواجهة صدمة نفطية جديدة، خصوصاً ان صناعته النفطية تكون تراجعت بنسبة كبيرة. اضف الى ذلك ان نجاح السيناريو الاميركي والغربي يفترض ضمان الأمن والاستقرار وتحاشي حصول هزات عسكرية وسياسية، وما يدفع باتجاه الرهان على هذا السيناريو انهيار المعسكر الشرقي وغياب كل خطر ممكن ونتائج حرب الخليج. ويلاحظ غسان سلامة باحث واستاذ في معهد العلوم السياسية في باريس في كلمته ان المحيط الجغرافي - الاستراتيجي للنفط، وان تغير بفعل حرب الخليج. تكتنفه مصادر قلق عديدة ومتنوعة، وان احتمالات النزاع موجودة. فمن بين مصادر التهديد، عودة النزاعات الحدودية الى واجهة الاحداث، وبقاء النزاع العربي - الاسرائيلي معلقاً على حاله بين اللاحرب واللاسلم، واختلاف الوتيرة في فرض تطبيق قانون الشرعية الدولية، والصراع التركي - الايراني على النفوذ في جمهوريات آسيا الوسطى بما له من امتدادات في الخليج، والوضع في افغانستان ومسائل الاقليات والجهد الملحوظ في التسلح الذي يتناقض مع الاتجاه العام في بقية العالم. وهذه العوامل ذات تأثير سلبي على الامن والاستقرار، خصوصاً على السوق النفطية العالمية والانتاج النفطي في منطقة الخليج. ويضيف باحث آخر، الى هذه اللائحة الطويلة الخسائر الكبيرة التي منيت بها منطقة الخليج خلال السنوات العشر الماضية والتي تقدر بحوالي 800 مليار بليون دولار، منها 350 مليار دولار خسائر ايرانوالعراق بسبب حربهما، و450 مليار دولار ناتجة عن غزو العراق للكويت وعن الحرب التي تبعته. ومن الواضح ان هذه الخسائر تفاقم الوضع الاقتصادي وتؤخر عملية التنمية في بعض دول المنطقة. واذا كانت ندوة الدراسات حول البترول اولت اهتمامها لتحول السوق النفطية وللعوامل المؤثرة فيها ولتسويقها، واذا كانت غاصت في البحث التقني والتفاصيل وعلاقة النفط واسعاره بالبيئة وحمايتها... الا انها لم تهمل جانباً مهماً هو العلاقة بين البترول والتنمية في الدول العربية المنتجة للنفط. وهذا ما ركز عليه انطوان أيوب الاستاذ في جامعة لافال في كيبيك. يلاحظ ايوب ان اقتصاديات الدول العربية المنتجة للنفط تجمع في ما بينها تبعيتها للقطاع النفطي، وان كانت نسب هذه التبعية متفاوتة من بلد الى آخر 80 الى 100 في المئة، وكذلك اعمادها على ما تستورده من التجهيزات والتكنولوجيا الضرورية للتنمية. وعلى رغم اختلاف انظمتها السياسية، الا انها متوافقة في ان الدولة هي التي تسهر على توزيع واستعمال الصادرات النفطية واشكال التنمية التي تظهر في التسحن الواضح في البنية التحتية، كالنقل والاتصالات والمدارس والمستشفيات والتجهيزات الاخرى المختلفة. وعملية التنمية في اي بلد او منطقة في العالم نفسها تستلزم وقتاً طويلاً لأنها بحاجة الى نضوج ولا تتحقق في "قفزات الى الأمام". وهي، الى ذلك، تستدعي تحولات عميقة بنيوية، اجتماعية وذهنية. وان كان شرط تحقيقها ان تتوافر لها رؤوس الاموال، الا انها بحاجة خصوصاً الى العنصر البشري والاستقرار والقدرة على الاستيعاب. فضلاً عن ذلك. فان الامثولات التي يمكن استخلاصها ان الدولة، وان كانت تلعب الدور الاساسي في عملية التنمية، الا ان عليها ان تتحول الى عامل مساعد لعملية التنمية. والخلاصة الاخيرة التي يصل اليها انطوان ايوب مفادها انه لا يمكن عزل التنمية عن الاستقرار وان التحولات الجارية في العالم يجب ان تدفع العرب باتجاه التكامل لأن مجموعات كبرى تقوم في العالم. وهذا ما تسعى اليه دول مجلس التعاون الخليجي. من الواضح ان عملية التنمية مرهونة، الى حد بعيد، بتحولات السوق النفطية وبلعبة العرض والطلب. فكل تراجع في الاسعار يعني مزيداً من الصعوبات واستفحالاً لمسألة المديونية. والعالم اليوم منقسم الى مجموعتين، الاولى العالم الصناعي تختزن رؤوساً من الاموال التي بامكانها ان توظفها، اما داخلها واما خارجها، والثانية بحاجة الى رؤوس الاموال من المجموعة الاولى والى تكنولوجيتها. والمبالغ التي يمكن توظيفها محدودة، الأمر الذي يطرح مسألة اماكن التوظيف وأشكاله بما تعني مزيداً من الصعوبات للدول التي تحتاج الى المال الخارجي. اما الشركات النفطية العالمية، القادرة هي الاخرى على التوظيف، فالمجالات مفتوحة امامها بشكل لم تعرفه منذ عشرين عاماً او ما يزيد سواء في الشرق الاوسط او اوروبا الشرقية سابقاً او مجموعة الدول المستقلة. وأعين المسؤولين في الدول النفطية متجهة صوب مؤشر الاسعار. صعوده يعني "بالوناً" من الاوكسجين وكسباً للوقت واعادة ترتيب الشؤون الداخلية في اجواء هادئة، اما هبوطه فعنوان لمزيد من الصعوبات على أصعدة كثيرة.