خلال النصف الثاني من شهر نيسان ابريل المنصرم, شهدت مدينة خريبكة في الوسط المغربي, انعقاد الملتقى الخامس للسينما الافريقية, الذي جرت خلاله مسابقة رسمية وعرضت افلام عدة, وتم تكريم فنان السينما المصرية الكبير توفيق صالح. وهنا عرض لما جرى خلال المهرجان. قبل ان تستقل الطائرة التي ستنقلك الى الدار البيضاء, ومنها الى خريبكة التي تقع على بعد مائة كيلومتر الى الجنوب الشرقي منها تسأل اصدقاءك عن هذه المدينة فيقولون انها مدينة الفوسفات التي تعبق منها رائحة هذا المعدن وغباره, وبالكاد تجعلك تحس انها ومنطقتها من يصنع للمغرب ثروته الاساسية. مدينة عمالية, باختصار, ليس فيها الكثير مما يمكن ان يشكل مركز جذب للعين التواقة لمشاهدة كل تلك الروائع العمرانية والطبيعية التي يحفل بها المغرب. ولكن حين تصل الى المدينة يدهشك ان لا غبار هناك ولا يحزنون, وانك بالكاد تحس بوجود الفوسفات, اللهم الا اذا خرجت الى الفضاء المحيط بخريبكة, حيث تطالعك اهرامات عديدة تنتشر هنا وهنالك, وتفاجئك الوان التربة وزهورها الطرية. بدلاً من الفوسفات, تمتلىء خريبكة بيافطات الترحيب بضيوفها من المشاركين في الملتقى الخامس للسينما الافريقية. وبدلاً من عبوس الابنية العمالية المعتادة, تحفل تلك المدينة الهادئة بابتسامات المشرفين على المهرجان والمتهمين به. وفي خربيكة يشعر كل واحد انه معني بتلك التظاهرة, من رئيس المجلس البلدي, حتى اصغر مواطن. ومن اكثر المثقفين والمناضلين النقابيين تطرفاً, وصولاً الى ربات البيوت. ولن يستغرب هذا الاهتمام من سيدرك بسرعة ان هذه المدينة ذات المائة والثمانين الف مواطن, تنتظر ذلك اللقاء السينمائي الذي ينعقد مرة كل عامين لكي تشهد حركة تخرجها عن مألوفها. مدينة هادئة وناعسة خربيكة, مدينة يأتي اليها الناس من كافة ارجاء المغرب ليعملوا ويخلدوا الى هدوء غريب. مدينة جديدة لا يزيد عمرها عن ثلاثة ارباع القرن, تشهد على هذا فيلاتها ذات النمط المعماري الكولونيائي من جهة, وكون سكانها خليطاً مدهشاً من كافة اقوام المغرب ومدنه وطوائفه, بحيث تكاد تختصر وحدها كل اللهجات المحلية... فاذا ما حل "موسم" اللقاء السينمائي تضاعفت اللهجات واللغات, واختلطت الالسنة, بين افريقية وعربية مشرقية, بين ايطالية وفرنسية, وبين اسبانية وانكليزية, واختلط العامل بالوجيه, والسينمائي بمسؤول البلدية وابتدأ الحفل حقاً. جمهور ونجوم بدأت دورات الملتقى السينمائي الافريقي في العام 1977, بمعدل دورة كل خمس سنوات, ثم تحولت الى دورة كل عامين, كان - ولا يزال - الهدف الاساسي منها توفير مكان لقاء يجمع بين السينمائيين العرب عرب افريقيا من مصر الى المغرب والافارقة والعديد من الاوروبيين المهتمين بهذه السينما. والحال ان اختيارات الملتقى الخامس تعكس هذا الاهتمام بشكل جيد, وان كان الحضور الافريقي الاسود, لا يزال متمثلاً في الدول للافريقية الفرانكوفونية فالناطقون بالانكليزية لم يأتو بعد, وفي انتظار حضورهم, يكتفي المتفرجون بافلام تأتي من مصر وتونس وغينيا وسيراليون والسنغال ومالي اضافة الى افلام المغرب, والى سينمائيي المغرب الذين يحضرون بكثافة تعكس رغبتهم في الترحيب بزملائهم القادمين من الجوار او من البعيد... غير ان المفاجأة الحقيقية هي الجمهور الذي يتدفق على صالات العرض مهما كانت شهرة الفيلم المعروض وشأنه, الجمهور الذي يتدفق حتى ولو كان النجوم الحقيقيون غائبين كما هو حال دورة هذا العام التي خلت من اي ممثل معروف, بعد ان تخلف ليلى علوي ونور الشريف وبوسي عن الحضور - من دون اعتذار كما يبدو - وعلى هذا النحو تحول المخرجون انفسهم الى نجوم, والتف المثقفون من حول النقاد والسينمائيين والتأمت جلسات ونقاشات اعادت اصحاب الحنين الى ذكريات السجالات الصاخبة التي دارت في الستينات والسبعينات حول دور السينما في المجتمع, ووحدة العمل السينمائي واسباب التقدم والتخلف. والحال ان الجمهور المغربي بشكل عام واع للسينما. وليس هذا بالامر الغريب على بلد فيه اكثر من خمسين ناد للسينما, وتشكل حركة النوادي والهواة فيه, مدرسة فنية حقيقية يتخرج منها السينمائيون والصحافيون, وربما اصحاب المهن الفنية والادبية الاخرى ايضاً. حركة النوادي هذه حركة عريقة في المغرب, حركة ناشطة تؤثر ايجاباً في العلاقة الحيوية التي تقوم بين مثقفي المغرب والسينمائيين العرب عموماً. واذا كان بالامكان اختصار هذه الحركة في اسم واحد, فان هذا الاسم سيكون, دون شك, نور الدين صايل, الناقد والمؤلف والمنتج وستاذ الفلسفة السابق, الذي رغم انه يقيم اليوم في فرنسا حيث يشرف على "قناة اوريزون" الموجهة بثها الى الدول الافريقية, فانه يعتبر نقطة الجاذبية في الحياة السينمائية المغربية, ويعتبر "ام العروسة" في مهرجان خريبكة نفسه. من هنا, كان من الطبيعي ان يضفي الصايل على المهرجان طابعاً ثقافياً غنياً, وان يدفعه في اتجاه تكريم المخرج المصري الكبير توفيق صالح, وان يختار مخرجاً عربياً آخر هو برهان علوية لترؤس لجنة التحكيم المؤلفة من نقاد وسينمائيين وفنانين من المغرب عبدالوهاب الدوكالي وفاطمة الوكيلي وايطاليا لينوميتشيكي وافريقيا دانيال كاموي, وفرنسا جاك بواترا والجزائر مولود ميمون. واعضاء هذه اللجنة كانوا طوال ايام المهرجان محط انظار واهتمام المتفرجين, ومحط آمال السينمائيين, لذلك لم يكن غريباً في اليوم الاخير ان يبدي الكثير من هؤلاء استياءهم ازاء اختيار اللجنة لفيلم افريقي متوسط الاهمية لمنحة الجائزة الذهبية, على حساب ثلاثة افلام عربية كبيرة كانت كل التوقعات تسير في اتجاهها: "شيشخان" لمحمود بن محمود و "البحث عن سيد مرزوق" لداود عبد السيد و "طوق الحمامة المفقود" لناصر خمير. كان منطقاً غريباً ان ثمة في الامر حسابات تخرج عن نطاق العمل السينمائي البحت. على اي حال, جاء اعلان النتائج في نهاية الامر ليتوج سبعة ايام شهدت عروض اكثر من اربعين فيلماً انقسمت على عدة تظاهرات: المسابقة الرسمية, وتضمنت فيلمين من مصر "سيد مرزوق" و "يا مهلبية" وفيلمين من تونس "شيشخان" و "طوق الحمامة" وفيلمين من الجزائر "شاب" و "اطفال النيون" والاثنان يعالجان مشالك فقدان الهوية لدى اطفال المهاجرين العرب في فرنسا, وفيلمين من المغرب "حب في الدار البضاء" و "يوميات حياة عادية" وفيلمين من بوركينا فاسو, وفيلماً من السنغال وآخر من الكامرون وواحداً من المالي... علماً بأن افضل الافلام الافريقية المعروضة, على الاطلاق, كان فيلم الافتتاح - خارج المسابقة - "تيلاي" للمخرج البوركينابي ادريس وادروغو, اما فيلم الاختتام فكان فيلم "روائي - اول" للمغربي مصطفى الدرقاوي. وبقدر ما شكل فيلم الافتتاح مفاجأة طيبة, بقدر ما شكل فيلم الاختتام مفاجأة سيئة, حيث رأى الكثيرون انه يكاد يعود بالسينما المغربية خطوات عديدة الى الوراء!! تكريم المخرج الكبير توفيق صالح حيث عرضت - في حضوره - اربعة من اهم افلامه: "درب المهابيل" و "صراع الابطال" و "المتمردون" و يوميات نائب في الارياف"... وكانت تلك العروض مناسبة طيبة مكنتنا ومكنت الجمهور من اعادة اكتشاف اعمال هذا الذي بأفلامه القليلة سبعة افلام فقط خلال اربعين عاماً! يشكل واحدة من الاساطير الحقيقية في السينما العربية. حتى اليوم لا تزال سينما توفيق صالح على رغم تجاوز الزمن لمواضيع تلك السينما تحتفظ بطراوة لغتها السينمائية. وتتميز بقدرة مخرجها الفائقة على التعامل مع الممثلين والكاميرا. سينما توفيق صالح مدرسة حقيقية ينبغي اكتشافها من جديد بين فترة واخرى.. ولقد كرم الملتقى من ناحية اخرى, ذكرى الفنان الغربي الراحل محمد الركاب عبر عرض فيلمه الطويل الوحيد "حلاق درب الفقراء"... والمدهش ان هذا الفيلم الذي يعود الى سنوات خلت, كان افضل فيلم مغربي عرض خلال الملتقى! واعدون ولكن ذلك ان الافلام المغربية القليلة التي قيض لنا ان نشاهدها, لم تؤكد لنا على ان السينما المغربية في خير عميم, على الرغم من النوايا الطيبة التي تزخر بها. فاليوم, في غياب الاسماء التي صنعت للمغرب "سينماه" القديمة المتميزة, من سهيل بن بركة الى احمد المعنوني, ومن مؤمن السميحي الى جلالي فرحاني وعبدالرحمن التازي وفريدة بليزيد, بدا الميدان خالياً, الا من تجارب سينمائية يقوم بها شبان جدد جلهم واعد بالطبع, لكن اياً منهم لا يمكنه - عبر فيلمه المعروض على الاقل - ان يمثل خطوة الى الامام في سينما تبدأ دائماً من الصفر من جديد. ينطبق هذا على سينما عبدالقادر الاقطع الذي يبدو فيلمه "حب في الدار البيضاء" الاكثر تماسكاً على اي حال, كما على سينما سعيد الشرايبي ذات البناء الدرامي المعقد, على سينما حسن بنجلون, الذي بات يبدو اكثر قدرة من زملائه على تجاوز تجربته الاولى لخوض التجربة الجديدة التي يعد لها منذ الآن. المفاجأة - كما في كل مهرجان منذ سنوات عديدة - كانت السينما التونسية التي قدمت فيلمين كبيرين نالا الجائزة الفضية والبرونزية في المسابقة الرسمية: "شيشخان" و "طوق الحمامة المفقود" كل منهما في لغته وفي انتمائه الى عوالمة الخاصة, فيلمان كبيران, ستتاح لنا اكثر من فرصة للحديث عنهما مستقبلاً, لكننا نقول منذ الآن انهما يساهمان مساهمة اكيدة في ذلك الزخم الذي تعرفه السينما التونسية التي تشكل ? الى السينما المصرية الجديدة, والى سينما المنفيين اللبنانيين -, افضل ما تعيشه السينما العربية على الاطلاق. لا ينطبق هذا الكلام - للاسف - على السينما الجزائرية, التي عادت لتبحث عن نفسها بعد سنوات تألقها القديمة. ومهما يكن فان في جعبة السينمائيين الجزائريين - كما قيل لنا - اعمالاً كبيرة لم تنجز بعد, وقد تساهم في الشهور المقبلة في تقديم صورة طيبة لسينما جزائرية ناهضة من رمادها وسط الظروف الصعبة التي نعرف. جديد القاهرة في انتظار ذلك تبقى السينما المصرية, هذه السينما التي دائماًًًَ وبقوة وتنتج اجيالها جيلاً بعد جيل, وسط عملية تراكم رائعة. في "خريبكة" تمثلت السينما المصرية - الى تكريم توفيق صالح - بفيلمين هما من انتاج جيل السبعينات ممثلاً في داود عبدالسيد, الذي رغم انه لا يزال اليوم عند فيلمه الثالث, باتت سينماه تلفت الانظار عبر اختيار فذ للمواضيع, كما عبر اللجوء الى لغة فيلمية تخرج عن السائد خروجاً كبيراً, وتؤكد على قدرة الفنان على المزاوجة بين رؤى مخيلته وآلام واحباطات الواقع. "البحث عن سيد مرزوق" لداود عبدالسيد فيلم كبير وهام, رغم التطويل غير المبرر في نهاياته, فيلم يدخل السينما المصرية في عوالم كافكاوية, ويعود بالسينما الى حبها الاول: الصورة - المناخ - اللغة, ثم عبر ذلك وبعده فقط يوصل الينا رسالته وموضوعه. فيلم "يا مهلبية" لشريف عرفه, هو آخر فيلم جيد ومفاجئ, تصل فيه مخيلة مخرجه الساخرة الى اقصى درجات اباعها, حيث يلعب الفيلم لعبة السينما داخل السينما, ليقدم لنا امثولة مسلية تحاول ان تقول تاريخ مصر بكلام قاس مرير... اذا كان هذان الفيلمان لم يلفتا نظر لجنة التحكيم - لاسباب غامضة - فان الجمهور اهتم بفيلم شريف عرفه, ومنحه جائزته وسط تصفيق حاد, كما ان النقاد المغاربة وكاتب هذه السطور, الذين عهدت اليهم مجلة "فيزيون" الثقافية الرائجة, بأن يمنحوا جائزتها للفيلم الذي يختارون, اعطوا الجائزة ليفلم "البحث عن سيد مرزوق" وكان اختياراً نال استحسان المتفرجين والمثقفين سواء بسواء. ربحوا رهانهم مهما يكن, حين منحت لجنة التحكيم الرسمية جائزتها الكبرى لفيلم "بياض الابنوس" الغيني, من اخراج شيخ دوكوري, كانت في الحقيقية تتوج ذلك التبادل الطيب بين النظرة للافريقية والنظرة العربية, الذي يمثله ذلك اللقاء. وكانت تكرم سينما افريقية تتمثل بأفلام - قد لا تكون افضل ما طلعت لنا به السينما الافريقية في الآونة الاخيرة - لكنها على اي حال تقدم درساً في استخدام الالولن الافريقية الحية وفي الرسم الخلاق للعلاقة مع الطبيعة وعناصرها, ناهيك عن قدرتها الفائقة على التعبير عن ذلك "التضاد" بين عوالم الريف وعوالم المدينة التي باتت تفصل بينها سنوات ضوئية, من دون ان يعني ذلك بأي حال من الاحوال تأييد "حداثة" المدينة ضد "تخلف" الريف. والحال ان هذه العناصر ساهمت في اضفاء طابع ما على الحضور الافريقي الذي تمثل بكثافة, عبر مشاركة السينمائيين الافارقة في شتى الندوات ورغبتهم الدائمة في التقرب من زملائهم العرب, لعل يوماً يأتي تكون فيه قد نمت فرص التعاون الخلاق بين سينما افريقية تنتمي حقاً الى جذورها, وبين سينمات عربية وصل بعضها الى سن الرشد, وبدأ بعضها الآخر ينهض من سباته. فان صار هذا الامر ممكناً في يوم من الايام, سيكون في الوسع القول ان نور الدين صايل ومحمد بركات رئيس الملتقى ورئيس المجلس البلدي في خريبكة وكل الناس الطيبين الذين عاونوهم لجعل التظاهرة عملاً ناجحاً قد ربحوا رهانهم...