على رغم أن المغرب انسحب من الاتحاد الأفريقي قبل سنوات طويلة، بسبب ظرف سياسي مؤسف، إلا أنه لا يزال يؤكد في كل مرة تسنح فرصة ذلك، انخراطه القاري مع عمقه الأفريقي، وهو أمر أتى ليؤكده اليوم، الدستور الجديد المتحدّث عن الرافد الأفريقي كرافد هوياتي راسخ, وهذا الأخير ليس إلا محصلة تواجد اقتصادي وثقافي قوي سابق وتاريخي. ومهرجان السينما الأفريقية الذي يعد أقدم مهرجان مغربي لا يزال نشيطاً وفاعلاً، هو أحد تمثلات هذا التواجد والحضور. وهو مما تستفيد منه السينما الأفريقية بما أن خريبكة تشكل بؤرة ضوء عالية النبرة بعد انحسار المد السينمائي القاري الذي نشأ مع تحرر الدول الأفريقية من الاستعمار الأوروبي المتعدد قبل أكثر من خمسين سنة. فهنا ولمدة ثمانية أيام تتأمل أفريقيا صورتها الحية المنتجة، ومخيالها الرمزي المعبر عن ذاتها وهمومها وانشغالاتها من 16 تموز (يوليو) إلى 23 منه. فهذا المهرجان ليس فقط واجهة عرض أفلام بل مكان تداول أفكار ونقاش وجدال وفرصة تبادل الرأي والبحث عن حلول لمشاكل القارة ومشاكل التعريف بها وبمخاضاتها وتوتراتها وأحلامها. وعلى سبيل المثال، قد عرفت إحدى الدورات جلسة نقاش مهمة جداً حول هيئات المصالحة والإنصاف حول سنوات القمع العنصري في جنوب أفريقيا وسنوات الرصاص في المغرب، شارك فيها مخرجون من الدولتين ومسؤولون، وكان لها أثر قوي على المدعوين الأفارقة آنذاك. وليس أفضل لمثل هذه الأمور إذاً، من مهرجان فني بعيد عن تشنجات السياسة والصراع المصلحتي. وفي دورات سابقة أخرى، تم تناول التعاون ما بين شقي القارتين، العربي شمالاً والزنجي جنوباً بحضور أبرز مخرجي مصر وتونس والجزائر والمغرب وبوركينا فاسو وكوت ديفوار وساحل العاج وبعض دول الجنوب الشرقي. ومن هنا فإن، أرواح قامات سينمائية عظيمة من طينة يوسف شاهين وعصمان صمبين لا تزال تنفث حضورها الشامخ في ردهاتها. مدينة خريبكة تمنح هذا، هي الواقعة في امتداد جغرافي حار يذكر بامتدادات أفريقيا الجغرافية الموحية بالسفر والاستبطان في الوقت التي لا ترضى سوى بالتحرر وحرية الإبداع. بخاصة في زمن الخضات الثورية والانتفاضات الحالية. ما وقع في مصر وتونس والمغرب والجزائر وكوت ديفوار، من حراك عميق هنا وتغير ثوري هناك، والذي نقلته جميع وسائل الإعلام في دول العالم، يجعل من هذه الدورة مجال توقف للتأمل والتفكير للمضي أماماً في حفر السؤال الكبير، سؤال التحقق بعد سؤال التحرر القديم. والسينما أبرز معبر وأدقه بما أنه مباشر ويملك قوة الأثر والتأثير. ثبات ما... إن نظرة ملقاة على الأفلام المشاركة في الدورة الرابعة عشرة الحالية، تؤكد إلى حد ما هذا النزوع الضروري. فالملاحظ أن أفلام المسابقة الرسمية الأحد عشر تأتي من ذات الدول التي تعودت على الحضور باستمرار، وحصة الأسد فيها مخصصة لأفريقيا الشمالية. وهكذا تشارك مصر بفيلمين هما «6،7،8» لمحمد دياب و «ميكروفون» لأحمد عبد الله، وتونس بفيلم «النخيل الجريح» لعبد اللطيف بن عمار، والجزائر بفيلم «سفر إلى الجزائر» لعبد الكريم بهلول، والمغرب بفيلم «الوتر الخامس» لسلمى بركاش و «ماجد» لنسيم عباسي. أما أفريقيا جنوب الصحراء فتشارك منها بوركينا فاسو- البلد الأفريقي السينمائي بامتياز منذ عقود - بفيلمين هما «في انتظار التصويت» لميسا هيبي و «ثقل العهد» لكوللو صانو، وتشارك كوت ديفوار بشريط «الصديق المثالي» لأويل براون، ودولة مالي بفيلم «غزوة صامايانا» للمخرج سيدي دياباتي، كما تشارك الموزامبيق من أقصى الجنوب إفريقي بشريط «آخر رفة لطائر النحام» لريبيرو جاوو. وهكذا يلاحظ توزيع سينمائي يحترم السينماتوغرافيات الأفريقية المعروفة إجمالاً، على رغم غياب سينما أفريقيا غير الفرنكوفونية والذي يتكرر إلا فيما ندر، لكن ذلك خاضع لظروف علاقات وبرمجة وخصوصاً لصعوبة إيجاد العدد الكافي من الأفلام الأفريقية وبالأحرى الناطقة بكل اللغات المتداولة ومنها الإنكليزية التي تجد صعوبة في التواجد في مهرجان خريبكة. إلا أن الأساسي هو الاحتفاء بالسينما الأفريقية، وهكذا سيتم تخصيص الدورة لندوة رئيسية مخصصة لدولة السينغال ومجهودات الدولة هناك لإنعاش السينما والقطاع السمعي البصري. السنغال التي قدمت مخرجاً كبيراً من طينة صمبين عصمان الذي تحمل الجائزة الكبرى للمهرجان اسمه تخليداً لما قدمه ككاتب متميز وكرائد للسينما الأفريقية. الدورة أيضاً وفي المنحى نفسه قررت فتح جلسات نقاش ما بين شباب المدينة والنساء الأفريقيات تم اختيار عنوان «لقاء منتصف الليل» لها، وذلك بهدف تجسير العلاقات وتقريب الرؤى والطموحات ما بين شباب القارة الأفريقية ومبدعيها، وهو الأمر الذي لا يحصل قط، بما أن اللقاءات الثقافية غير مبرمجة إطلاقا ولا مدرجة في أجندة حكام القارة ونخبها، هذا في الوقت الذي تعرف دول أفريقيا الشمالية توافد أفارقة جنوب الصحراء إما للدراسة والعمل أو للهجرة. خريبكة ستمكن لا محالة من طرح أوجه هذه العلاقات المتعددة والملتبسة، من خلال نقاش الأفلام والسينما والإبداع. وقد اختير للجنة تحكيم الدورة أسماء يتزعمها القاص المغربي والناقد السينمائي المعروف مصطفى المسناوي، وهي بادرة طيبة ومحمودة، فقد كان من اللازم إيلاء أقلام الإبداع والسينما القدر نفسه من الحضور الذي للمخرجين. ويجاوره في طاولة الاختيار النهائي للجوائز المخرجة والمنتجة المصرية مريان خوري قريبة يوسف شاهين، والمخرج السنغالي منصور صورا واد والممثلة نجاة الوافي من المغرب والمخرج المغربي محمد مفتكر والمخرج بالوفو نيندا من الكونغو والمنتج ديدي بوجار من فرنسا. وكسعي الدورة الثقافي المعهود تم تخصيص صبحيات لتقديم الكتب المغربية الصادرة حول السينما والتي تعرف تزايداً ملحوظاً. وهكذا سيتم تقديم توقيع كتب النقاد بوبكر الحيحي ومحمد شويكة وعزالدين الوافي وبوشتى فرقزايد ومنشورات نوادي القبس وإيموزار وجمعية النقاد السينمائيين، من طرف نقاد معروفين. في المحصلة من المتوقع أن تكون مدينة خريبكة التي تضم أكبر مناجم الفوسفات عالمياً موعداً للحديث الأفريقي، إبداعاً وفكراً، بعيداً من قلاقل السياسة والمثبطات من كل نوع، وإن لن تكون بعيدة، بما أن الإبداع صورة الممكن والكائن، والقارة الأفريقية في حاجة إلى تأمل ذاتها عبر ما هو ثقافي أساساً، تماماً كما سطر ذلك منظر الزنوجة العبقري الشاعر السنغالي سيدار سنغور رفقة رفيقه شاعر المارتينيك الكبير إيمي سيزير...