على رغم ما يبدو على سطح الاحداث من ان الازمة الليبية - الغربية، تندفع بقوة العناد المتبادل بين الاطراف الى حائط مسدود، فإن ثمة مؤشرات تومض بين وقت وآخر، تظهر أن جهوداً مشتركة لا تكف عن العمل تحت السطح من أجل فتح ثغرة في الحائط المسدود قبل ان تحين لحظة الارتطام. ولعل في مقدمة هذه المؤشرات ما صرح به الرئيس حسني مبارك، بعد لقائه اخيراً العقيد معمر القذافي في قاعدة رأس براني على الحدود المصرية - الليبية، بأنه يلمس من محادثاته مع الزعيم الليبي ان ثمة بريقاً من الامل يلوح في الافق حول امكان الوصول الى تسوية سياسية للأزمة. ما هي العقدة في اجراء هذه التسوية؟ اذا صحت الاجابات التي تلقيتها ممن يشاركون في ادارة هذه الازمة من مصريين وليبيين، رداً على السؤال -وربما يكون من الادق القول اذا صحت قراءتي لهذه الاجابات - فإنه يمكن القول ان العقدة من شقين: * الشق الأول: هو تسليم المتهمين الليبيين طبقاً للتحقيقات الاميركية - البريطانية الأولية، لمحاكمتهما امام المحاكم الاميركية او محاكم اسكوتلنده بتهمة الاشتراك في اسقاط الطائرة الاميركية فوق لوكربي، والمدى السياسي الذي تنتهي اليه مثل هذه المحاكمة. * الشق الثاني: هو اصرار الحكومة البريطانية على قيام ليبيا بتسليمها كشفاً مفصلاً باسماء ومواقع الشبكة الدولية لمنظمة الجيش الايرلندي المنوط بها تلقي الدعم المالي والتسليحي لنشاطها، والتي كانت طرابلس - وفقاً للاتهام البريطاني - تتعامل معها، وتنفرد لندن بهذا الشرط المحدد، للقبول بما تسميه "التوبة الليبية عن الارهاب" تحقيقاً لقرار مجلس الامن الرقم 731. والملاحظ - هنا - ان مفاوضات التسوية الجارية تحت السطح، تصطدم بهذه العقدة ذات الشقين، مع كل من الولاياتالمتحدة وبريطانيا، دون فرنسا على رغم انها الطرف الغربي الثالث في الازمة. ولعل السبب في ذلك يعود الى ان طرابلسوباريس يمكن ان تتوصلا من خلال محادثات مشتركة غير رسمية الى اتفاق متكامل الشروط والآليات حول تسوية الازمة بشأن الطائرة الفرنسية، وترددت في هذا الشأن انباء من مصادر موثوق بها عن رحلات مكوكية قام بها احمد قذاف الدم منسق العلاقات الليبية - المصرية بين باريسوطرابلس والقاهرة، اكثر من مرة في الآونة الاخيرة. والأرجح الا يوضع هذا الاتفاق موضع التنفيذ، قبيل الوصول الى تسوية سياسية مماثلة بين طرابلس وكل من واشنطنولندن، ذلك ان فرنسا تحرص على عدم الظهور بمظهر المنفرد بتسوية مشاكلها مع ليبيا في معزل عن الازمة مع اميركا وبريطانيا، وإن كان يمكن - من زاوية اخرى - النظر في هذا الموقف الفرنسي باعتباره نوعاً من الضغط على ليبيا للإسراع بالتجاوب مع الشروط الاميركية - البريطانية للتسوية. الموقف الليبي نقطة الانطلاق الليبية في تسوية الازمة تدور حول ثلاثة محاور: - المحور الأول: ضرورة احترام السيادة الوطنية الليبية كما يقررها القانون الدولي وميثاق الأممالمتحدة، وفي هذا الاطار تؤكد ليبيا عدم قانونية تسليم المتهمين الليبيين لمحاكمتهما في بلد اجنبي وفقاً لقانون غير ليبي، وبالتالي فان طلب التسليم هنا هو في الحقيقة طلب سياسي من قوتين دوليتين، احداهما عظمى هي الولاياتالمتحدة الاميركية اللتين منحهما مجلس الامن نوعاً من الشرعية تضع ليبيا في مأزق سياسي دولي على رغم شرعية موقفها القانوني. وبالتالي اذا كانت المسألة اصبحت سياسية في المقام الأول، فان التسوية المقترحة هذا يجب ان تأخذ في الاعتبار الحجية القانونية للموقف الليبي ولا تسقطه تماماً، ذلك ان معيار اي تسوية سياسية لأي ازمة بين اطراف مختلفة هو المعيار التوفيقي الذي يبلور "حلاً وسطاً" بين مطالب وشروط جميع الاطراف دون استثناء. ومعنى هذا، انه اذا كان لا مفر من تسليم المتهمين - على سبيل المثال - الى الولاياتالمتحدة وهذا هو مطلب الاطراف الغربية في الازمة فإن محاكمتهما لا تكون بقانون غربي معين او امام محكمة غربية صرفة، وإنما يتوجب - لضمان العدالة والشرعية القانونية الدولية - ان تكون المحكمة مختلطة ذات صفة دولية تشارك فيها ليبيا، وان تطبق - بصورة او اخرى - قانوناً دولياً خاصاً تستجمع مواده - اذا صح التعبير - من القواعد والاعراف الدولية، خصوصاً في ما يتعلق بقضايا الارهاب وقضايا سلامة النقل الجوي. - المحور الثاني: الا يكون تسليم المتهمين ومحاكمتهما فاتحة لقائمة جديدة من المطالب الاميركية البريطانية ضد ليبيا، ذلك ان سوابق التعامل بين الدول الصغرى وبين الدول العظمى والكبرى، في مثل هذه الحالات، تظهر ان الدول العظمى تركز في البداية على طلب واحد حتى اذا تحقق اتخذته سبباً جديداً لسلسلة اخرى لا تنتهي من المطالب. من هنا فإن منظور ليبيا للتسوية هو ان المحاكمة بنتائجها تكون من ناحية ملزمة لجميع الاطراف، ومن ناحية اخرى نقطة النهاية للأزمة الليبية - الغربية، ويتم اغلاق "الملف" دون اية رجعة، ومن هنا ليس هناك مجال للمطلب البريطاني بشأن شبكة الجيش الايرلندي حيث ان الدعم الليبي له كان موقفاً سياسياً في ظروف معينة شاركتها فيه قوى اخرى كان من بينها الاميركية من اصل ايرلندي. - المحور الثالث: ان ازمة لوكربي ليست ازمة ليبية فحسب وإنما هي في جوهرها ازمة عربية مع اميركا وبريطانيا، سواء في الواقع الراهن او المستقبل اللذين يجري في اطارهما محاولات بناء نظام دولي جديد. فمن جانب هناك اليوم تحالف اميركي - بريطاني - عربي نشأ خلال ازمة الخليج نتيجة احتلال العراق للكويت قام على أسس التعاون الأمني الدولي - الاقليمي ضد استخدام القوة في العلاقات الدولية، وذلك بهدف الاستقرار في منطقة الشرق الاوسط ودعم وحماية السيادة الوطنية لكل دولة من دون استثناء. كذلك فان واشنطنولندن، عندما فجرتا الازمة حرصتا على ايفاد مندوبين عنهما الى البلدان العربية لاقناعها بمواقفهما من ليبيا، وان هذه البلدان العربية عبرت عن ارادتها الجماعية من خلال جامعة الدول العربية في دعم ليبيا مع ادانة الارهاب في الوقت نفسه. وبالتالي فإن آلية الوصول الى تسوية سياسية للأزمة بما في ذلك تسليم المتهمين تكون منوطة اولاً وأخيراً بالجامعة العربية وليس بليبيا وحدها وما تنتهي اليه الجامعة العربية من خطوط لهذه التسوية وكيفية تنفيذها تكون ملزمة لليبيا باعتبارها عضواً بالجامعة. 5 نقاط اميركية في مقابل هذه المحاور الليبية الثلاثة لتسوية الازمة تؤكد الولاياتالمتحدة وبالذات على النقاط الخمس الآتية: 1- ان تسليم المتهمين الليبيين لم يعد موضوعاً يتصل بالسيادة الوطنية الليبية او القانون الدولي، ذلك انه بعد صدور قراري مجلس الامن بات موضوعاً دولياً يتصل بشرعية الاممالمتحدة الواجبة الاحترام. 2- ان قرار مجلس الامن الرقم 731 ينص على محاكمة المتهمين امام المحاكم الاميركية او البريطانية، وهذا يعني - بالضرورة - ان القانون الذي يطبق هو اما القانون الاميركي او القانون البريطاني، اما الدعوة الى محكمة دولية مختلطة او قانون دولي خاص مستحدث، فان هذا كله لا سابقة له. ولا يعني الا شيئاً واحداً هو التحايل على تنفيذ قرار مجلس الامن او على الاقل تعطيله الى اجل غير مسمى. 3- ان من حق المتهمين ومن حق ليبيا كدولة ان تضمن محاكمة عادلة وعلنية، وهذا التزام اميركي ? بريطاني مقرر، ولا بأس في هذا المجال ان يكون هناك مراقبون من ليبيا او غيرها من الدول والمؤسسات المعنية بحقوق الانسان لاجراءات سير المحاكمة، ولكن من دون اي تدخل في عملها. 4- ان قرار مجلس الامن الرقم 748 لم يقتصر - وحسب - على تسليم المتهمين، وإنما طالب ليبيا في الوقت نفسه بأن تكف عن امداد الجماعات الارهابية بأي نوع من انواع الدعم وان تتعاون - دولياً - على مكافحة الارهاب، وبالتالي فان هناك مطالب محددة غير تسليم المتهمين، وإغلاق ملف الازمة يكون عند وفاء ليبيا بكل هذه المطالب وذلك مع احترام السيادة الليبية. 5- انه لا يهم من يسلم المتهمين او كيفية التسليم بيد انه يكون من الافضل لليبيا ان تقوم هي مباشرة بالتسليم ولكن هذا لا يمنع ان تمنح الحكومة الليبية المتهمين - بحكم انهما من رعاياها - حرية تسليم انفسهما طوعاً وكذلك ان يجري التسليم مباشرة او عن طريق جامعة الدول العربية. ولا تشير الولاياتالمتحدة بشكل صريح الى المطلب البريطاني الخاص بشبكة الجيش الايرلندي كشرط من شروط التسوية وذلك على الرغم من الاصرار البريطاني عليه. ويمكن القول ان الحوار العربي - العربي بشأن الازمة سواء داخل الجامعة العربية او خارجها بات يتحدد في الخطوط الثلاثة الآتية: * الخط الأول: رفض ومنع استخدام القوة ضد ليبيا من جانب اميركا وبريطانيا، ويبدو ان مصر حصلت على ضمانات مؤكدة بذلك من واشنطن وتحرص بين وقت وآخر على اعلانها. * الخط الثاني: قرار تسليم المتهمين او عدم تسليمهما ولمن؟ هو - أولاً وأخيراً - قرار ليبي، ولا تستطيع جامعة الدول العربية وفقاً لميثاقها ان تأخذ على عاتقها اصدار قرار في هذا الشأن، والا اعتبر ذلك تدخلاً في الشؤون الداخلية لدولة عضو في الجامعة العربية. ولكن يمكن للجامعة - في ضوء القرار الليبي من ناحية او قرار الجامعة بدعم ليبيا ومساندتها من ناحية اخرى - ان توظف آلياتها في سبيل الوصول الى تسوية سياسية للأزمة، بما في ذلك تسلم المتهمين من ليبيا، اذا اتخذت طرابلس قرارها لتسليمهما للأمم المتحدة من دون قيود او شروط. * الخط الثالث: حكم المحكمة ملزم لجميع الاطراف بكل النتائج الجنائية والمدنية، وبعد ذلك يكون تنفيذ بقية بنود قرار مجلس الامن الرقم 731، ليبياً - عربياً - اقليمياً - دولياً، من دون ان يترتب على ذلك مزيد من المطالب والأعباء على ليبيا او التدخل في سيادتها وشؤونها الداخلية. ان قراءة هذه التحركات الليبية - الاميركية - العربية، والتي تقوم فيها مصر بدور بارز وملحوظ يعني ان ثمة ثغرة صغيرة انفتحت في الحائط المسدود ولكن حجم الثغرة لا يسمح بعد بمرور تسوية سياسية متفق عليها من جميع الاطراف. ومن هنا ما زال "الحل الوسط" يحتاج الى مزيد من الجهد، واذا كان مثل هذا الجهد سوف يتواصل كالعادة تحت السطح فانه يمكن التنبؤ بحذر حول امكانية عقد طاولة مستديرة غير رسمية يشارك فيها مندوبون مفوضون من كل الاطراف في مكان ما، بعيداً عن الاضواء في مقر الأممالمتحدة في نيويورك مثلاً تكون مهمتها انضاج "الحل الوسط" الذي قد يتضمنه مشروع قرار الى مجلس الامن تتقدم به المجموعة العربية في نهاية المطاف. * كاتب ومفكر سياسي مصري.