تجري الانتخابات النيابية العامة في بريطانيا في 9 نيسان ابريل وسط اجواء جديدة لم يألفها الناخب في السابق، حيث ان الحملات الانتخابية التي تعود البريطانيون عليها تغيرت وصارت اميركية الطابع، فالتلفزيون صار الآلة التي تسوق البرامج الحزبية اضافة الى الصحف كما يروي التحقيق التالي: لم يعد هناك اي شك بأن اللعبة السياسية في بريطانيا منذ خريف 1989 صارت من صنع وتخطيط الاعلام ووكالات الاعلان والتسويق وليس مكنة الحزب وكادراته اذ كشفت الاحصاءات الرسمية ان نفقات الحكومة على سياستها الدعائية قد ارتفعت نسبتها من 35 مليون عام 1979 الى 200 مليون جنيه استرليني عام 1989، مما وضع الحكومة في خانة اكبر المعلنين الذين لا يتجاوز عددهم اصابع اليد الواحدة. وقد جيرت حكومة المحافظين 21 مليون جنيه للهيئات المشرفة على قطاع المشاريع المائية للقيام بحملة ترويجية تجذب مستثمري القطاع الخاص. كما خصصت 9 ملايين جنيه استرليني لحملتها الدعائية "ACTION FOR JOBS" الموجهة الى العاطلين عن العمل للالتحاق بمراكز التدريب المهني، بالاضافة الى مليون و25 الف جنيه استرليني لتسويق سياستها الصحية "العمل من اجل المرضى" في حملة تلفزيونية شملت كافة المحطات البريطانية. اما حصة الاسد في الانفاق الدعائي فقد استأثرت بها الحملات الانتخابية في الپ83 والپ87، تلك "البالوعة" الكبرى التي تستهلك نسبة محترمة من ضرائب المواطن البريطاني لخزينة الدولة. هذا الاحتكار الدعائي لم يستفرد به حزب المحافظين طويلا اذ التحق حزب العمال بالسباق الدعائي وبث اولى حملاته الاعلانية التلفزيونية خلال انتخابات عام 1987. آخر المنضمين كان حزب الليبراليين الذي اخذ حصته من "الكوتا" الدعائية المتلفزة خلال الجولة الانتخابية الحالية. فهل يمنح هذا التسابق الدعائي الدائر بين الاحزاب السياسية البريطانية على احتلال الشاشة الناخب البريطاني حق الاقتراع عبر التلفزيون بعدما منحه القانون عام 1985 حق الانتخاب عبر البريد؟! ربما يصبح ذلك رائجاً في القرن الآتي. يبقى للمرشحين اليوم ان يقنعوا الناخبين عبر دعاياتهم الانتخابية المتلفزة من ان الشاشة الصغيرة هي بمثابة صندوق اقتراع في الصالون بدل الدائرة الانتخابية في حيهم! التذمر البريطاني بلع البريطانيون تلك الجرعة في الجولات الانتخابية السابقة، في الپ79 ثم في الپ83 وبعدها في الپ87، لكن في هذه الجولة الانتخابية، وإزاء هذا التسلط الاعلامي الذي يتعرضون له، قرروا ان يرفعوا الصوت. فوسط جمهرة من الصحافيين والإعلاميين التفّت حول رئيس حزب العمال نيل كينوك وأعاقت الناخبين من الوصول وتقديم شكواهم ومطاليبهم، خاطبت احدى الناخبات مندوباً تلفزيونياً بالقول معبرة عن استيائها من الحصار الاعلامي: "لقد اتى الرجل ليزورنا ويصغي الى مشاكلنا. لم نتمكن حتى من الاقتراب منه بسببكم. فنحن الذين سننتخب في النهاية. انني لم اعد افهم وكأنما الاعلام يستهدف انتزاع هذا الحق منا. لم نعد نرى مرشحينا الا على التلفزيون!" لقد اعتاد البريطانيون على الاتصال المباشر والشخصي مع مرشحيهم. وهم متمسكون بهذا التقليد السياسي، وصورة المرشح وهو يطرق بابهم ويستقصي اراءهم على عتبة البيت او في صالونه عُرف لا يريدون التفريط به. هذا المشهد التقليدي الذي طالما لازم الدورات الانتخابية في بريطانيا بدأ يتلاشى تدريجياً حتى يكاد ان ينقرض اذ تحولت جولات المرشحين من زيارات تفقدية للاهالي الى حفلات تصويرية دعائية تتوّج المرشح بهالة من الشخصانية لا تمت بصلة الى برنامجه الانتخابي او الى قيمة طروحاته السياسية. الاطلالة التلفزيونية لقد اختطفت اضواء الاستديوهات التلفزيونية المرشحين الذين باتوا يعتبرون الاطلالة المتلفزة عملية رابحة، نتائجها افضل وآفاقها اوسع وجهودها اقل عناء خاصة اذا كان المرشح يتمتع بتلك "الهيبة الكاريزماتيكية" KARISMA وبملكة التحاور والمناقشة دون ان ترهبه الكاميرات وتتفرس في مواطن ضعفه. فالحسم بالنهاية يعود الى تماسك شخصية المرشح ونجاحه في استخدام كل التقنيات والاصول الاعلامية التي جهزه بها ودربه عليها اخصائيون في فن "التجميل السياسي". ولا احد يريد ان يكون مايكل فوت، زعيم حزب العمال عام 1981 "الذي عرف بارتباكه الشديد في حضور الكاميرا التي كان يتوجه اليها كما يتوجه الى جمهرة من الناخبين في مهرجان انتخابي. وكان فوت يهمل مظهره الخارجي ويطل على الشاشة بثياب غير ملائمة حتى انه ظهر يوماً بنظارات "الحم" كسرا فيها بلاصقة بلاستر"* فالحضور الاعلامي والقدرة على الاتصال بجمهور المتفرجين اصبحا من الخصائص المميزة التي يشترط ان يتحلّى بها رئيس وزراء بريطانيا. وتذكر المصادر ان احد الاسباب الاساسية للإتيان بنيل كينوك الى سدة القيادة يكمن في كونه النقيض "التلفزيوني" لسلفه فوت. في كل الاحوال ولّت ايام زمان حين كانت الحملات الانتخابية والسياسية الدعائية تخاض من وراء مذياع الراديو حيث كانت صورة القائد السياسي غائبة عن انظار الجماهير لكنها حاضرة في نبرات صوته الجهوري. اما النموذج التاريخي في تلك الحملات الانتخابية الاذاعية فكان طبعاً تشرتشل الذي كانت ارتجاجات صوته تصيب جهاز الراديو والمستمعين معاً! اما الطاقة التي كانت تفيض بها رئتا غلادستون او جورج لويد في مهرجاناتهما الانتخابية الخطابية ما بعد عام 1945، فقد كانت تشهد حضوراً جماهيرياً يوازي جمهور مباريات كرة القدم في عصرنا هذا. ولم تعد السحبات الخطابية الطويلة لهؤلاء نافعة لمرشحي عصر شبكات التلفزيون والاقمار الاصطناعية وتكنولوجيا الاتصالات المتفوقة في سرعتها وتطورها. فالحضور التلفزيوني يشترط تعليباً PACKAGING محنكاً للخطاب السياسي الذي يجب ان يتم عبر نظام شفري يتطلب من المرشح ان يحشر بيانه السياسي في مساحات زمنية لا تتعدى ثلاث دقائق. كذلك عليه ان يتقن تحريك الشعارات والجمل التي تشكل المفاتيح المناسبة لاختراق الآذان وطبقات الوعي واللاوعي لدى المتفرجين. وفي محاولتها تأدية دورها على اكمل وجه، استعانت مارغريت تاتشر بپ"غوردن ريس، احد افضل خبراء الدعاية والتسويق وعيّنته مديراً للعلاقات العامة اثناء الحملة الانتخابية عام 1983. وقد لعب ريس دوراً فعالاً في تهذيب صوتها ليلائم التقنيات المعتمدة في التسويق التلفزيوني. كما عينت كريس لوسون مدير التسويق وكان يعمل في شركة "مارس" للسكاكر فصمم لها شعار المشعل الاولمبي - ما زال شعار المحافظين الانتخابي - ونشيد الحملة الانتخابية التاتشيرية ونظم سباق الشباب حيث حشد مجموعة وافرة من المشاهير. الطريقة الاميركية انها "الامركة"! طقطقت حناجر بعض البريطانيين الملتزمين بتراث ثقافتهم السياسية والذين شكلوا تياراً هاج وماج لما طرحت المسز تاتشر مشروع تحويل الپ"بي. بي. سي." من مؤسسة تمولها الدولة الى مؤسسة تجني الارباح من الاعلانات التجارية. وعاد هذا التيار الى الواجهة الاعلامية خلال الحملة الانتخابية الجارية محذراً من تغلب الطراز الاستعراضي الدعائي الاميركي او الپSHOWBIZ كما يسميه الاميركان. وفي هجومه المضاد شهر حزب العمال المعارض سلاح ذلك "الاسلوب الاميركي الجديد" متهما حزب المحافظين باعتماده فلسفة ونمطا لطروحاته السياسية وبالتحديد تلك التي تتعلق باقتطاع مؤسسة الصحة العامة NHS بين الخاص والحكومي. وفي سياق الحوار الذي اجرته "الوسط" مع المسؤول الاعلامي المكلف بالاجابة عن اسئلة الصحافة الاجنبية في المركز الرئيسي لحزب المحافظين اعيد تقويم مصطلح "امركة" الانتخابات البريطانية بالتأكيد على "ان الجسم الناخب يميل الى التطبع بالصورة اكثر من التصريح الكلامي. فكان من الطبيعي اللجوء الى تقنيات الدعاية المحترفة والمختصة". ويعتبر حزب المحافظين "ان صناعة الصورة والبرنامج السياسي وجهان لعملة واحدة" وان "هذا النمط اعتمد في الحملات الانتخابية السابقة واثبت جدواه. وهذا امر طبيعي لأن بريطانيا اعتادت ان تجاري التقدم وهي تشكل كغيرها مجتمعاً استهلاكياً". وفي الختام أشار المسؤول الاعلامي الى ان نمط الانتخابات المتلفزة "قد اتى نتيجة تعدد وتكاثر الشبكات التلفزيونية وتنوع المنابر الاعلامية" مضيفا ان "في ذلك مردوداً ايجابياً على الناخبين اذ يتعرضون لسيل من المعلومات والمعطيات تزودهم بما يلزم لاحاطة الحركة الانتخابية من كافة جوانبها". وفي تبريره لپ"جنوح" حملة المحافظين في ابراز صورة جون مايجور القيادية وتسليط الاضواء على شخصه وسيرة حياته وتجاربه الشخصية كما ورد في شريطهم الدعائي الاول، قال الكادر الاعلامي: "لا ارى في ذلك اي تناقض وبرنامجنا السياسي. اذ ان هوية ميجور الخصية تتناغم وطروحات السياسة التي يتبعها". فالمسرح التلفزيوني في هذه الدورة الانتخابية يضم اكثر من منبر وتعج استديوهاته بأصناف من المنتوجات السياسية والانتخابية يجري بثها وقت الترويقة والغداء والعشاء وحتى في العصرونية! مما دفع بمدير حملة حزب العمال عام 1989 الى التصريح بأن "البرامج السياسية تباع وكأنها كيس خضار أو مجلد علبة محارم ورق!" لكن مهما قيل او يقال فالحملة المتلفزة مستمرة بدون هوادة: مؤسسات استطلاع الرأي تقوم بعملية تعويم الساحة الانتخابية بالارقام والاحصاءات التي تفرزها كبسة زر على اجهزة البارومتر الاقتراعي من قبل شرائح نموذجية من الناخبين. اما المناقشات والمقابلات السياسية والريبورتاجات الميدانية فهي تلقيم متواصل يعلكه الناخب طيلة نهاره! ويقول كريستوفر كايبرون وهو منتج تلفزيوني مستقل رافق السير روبين داي احد اعرق المحاورين السياسيين الذي لقبته بريطانيا بپ"سيد المقابلات السياسية" لپ"الوسط": "ان هذه "الهمروجة" الانتخابية المتلفزة التي تصل الى حد التخمة قد افقدت الناخب البريطاني الشعور بانتمائه الى بيئته الاجتماعية والذي كانت توفر له المهرجانات والتجمعات السياسية الميدانية في الازمنة الماضية". وما يخشاه كايبرون ان "ينزلق الناخب البريطاني في فردية قد تقوده الى عدم الاستقرار في صناعة قراره الانتخابي". وفي تعليق على ظاهرة الضياع تلك، كتب احد الصحافيين: "حيال تراشق الاحزاب بكتل الارقام المعقدة بات الناخب بأمس الحاجة الى اقتناء آلة حاسبة ليستوعب "بورصة الميزانيات" التي تتلاعب بها الاحزاب عند كل اشراقة يوم انتخابي جديد". وعلى الرغم من تلك الثغرات التي يعتبرها خبراء السياسة البريطانية عيوباً تستوجب التأمل فالاستدراك، تشكل الحملات الانتخابية المتلفزة محكاً رئيسياً وامتحاناً جدياً لممارسة الديموقراطية في بريطانيا ولو عرف البريطانيون نعمة الاقتراع بعيداً عن سياسات الارهاب والترهيب لهانت عليهم مصائبهم… البسيطة!