ديون خارجية تبلغ 30 مليار دولار. مصانع تعمل بأقل من نصف طاقتها. زراعة متخلفة لا تكفي حاجة البلاد الغذائية. بطالة هي الاعلى في العالم العربي. وضع سياسي غير مستقر. هذه هي الجزائر حالياً بعد 30 سنة على استقلالها. في هذا التحقيق اضواء على اسباب الازمة الاقتصادية الجزائرية وآراء خبراء اقتصاديين. الاقتصاد الجزائري مريض واسباب المرض كثيرة. علته الاولى, كما يقول الاقتصاديون انه اقتصاد موجه, حيث مجمل العملية الاقتصادية تقاد من فوق, وفق معايير بيروقراطية تجهل الدينامية الاقتصادية وقوانين السوق. ومثله مثل الكثير من اقتصادات العالم الثالث والاشتراكي السابق انه وصل الى طريق مسدود. فالهيكل الاقتصادي الجزائري يشكو من خلل بنيوي في الاساس, ذلك ان الجزائر راهنت على الصناعة الثقيلة وعلى القطاع العام دون سواهما, فتكلست بنى الاقتصاد وغرقت في البيروقراطية المنقطقة عن دينامية الحياة وعن محرك المجتمع. واهملت الهيكلة الاقتصادية الجزائرية الى حد كبير, الصناعات الاستهلاكية الصغيرة التي تضمن الحاجيات والسلع البسيطة. لكن خطأها الكبير هو اهمالها الزراعة التي دخلت بدورها دهاليز البيروقراطية لانها تفتقر الى ظاهرة الحداثة, كما يقول الخبير الاقتصادي محسن التومي. ولأن عدد السكان الى ارتفاع والمحاصيل الزراعية الى انخفاض, فان الخلل تزايد ومعه زاد الاعتماد على الخارج. لكن السمة الدامغة للاقتصاد الجزائري انه قام على استغلال الثروات النفطية والغاز الطبيعي. وكل الخطط الاقتصادية التي وضعتها الحكومات الجزائرية تمحورت حول العائدات النفطية. واذا كان الاقتصاد الجزائري وصل في انطلاقته الى تحقيق انجازات رئيسية وتوفير الخدمات فلان العائدات من مبيعات الغاز والبترول ضربت في السبعينات ارقاماً قياسية. غير ان المشكلة هي ان الصدمة النفطية الاولى التي انتعشت بها الجزائر, اعقبتها صدمة نفطية معاكسة, تهاوت معها المداخيل النفطية بانهيار السوق. فاجأت السلطات الى الخارج للاستدانة وتوفير الاموال اللازمة لخططها. ولأن الديون تجر الديون ولأن الزراعة انكفأت ولأن السكان يتزايدون ومع تزايدهم ترتفع حاجات التعليم والطبابة والصحة وفرص العمل, فان الجزائر غرقت شيئاً فشيئاً في رمال متحركة, مسؤولية الخارج فيها الاسعار تتزاوج مع مسؤولية الداخل البيروقراطية, افلاس النظام والفساد. وهكذا وجدت الجزائر نفسها تعيش حالة من التفجر: الوضع الاقتصادي الصعب انعكس على الحالة الاجتماعية والسياسية التي كانت بدورها تؤثر على الوضع الاقتصادي. ومنذ العام 1988 وما تبعه من تطورات سياسية واجتماعية واقتصادية, فان السؤال المطروح في الجزائر ان تخرج من أزمتها الاقتصادية الخانقة التي عناويها الديون وتردي المستوى الانتاجي الزراعي والبطالة؟ من الواضح ان الجزائر تعتمد في خطتها, للخروج من الازمة الاقتصادية والمالية التي تتخبط بها, على القطاع النفطي والغازي. فهذا القطاع هو المحرك الاساسي لاعادة تنشيط الدورة الاقتصادية الجزائرية. وفي حال عادت هذه العجلة الى الدوران فانها ستخفف من وطأة الضغط الاجتماعي وتسحب الكثير من الاوراق التي استغلها الخطاب السياسي لهذه الفئة او تلك خصوصاً للاصوليين. غير ان الارقام المتوافرة تدفع الى استخلاص نتائج معاكسة. فعائدات الجزائر من النفط تدور حول 8 مليارات دولار سنوياً, في حين انها كانت عام 1987 بحدود 25 مليار دولار. ويلاحظ محسن التومي ان سعر برميل النفط في السوق الحرة هو 12 دولاراً, في حين ان بعض دول منطمة الاوبيك تلجأ اليه لتصريف جانب من انتاجها "على رغم انه يبعثر استراتيجية هذه المنظمة". وهذا يعني ان المراهنة على ارتفاع اسعار النفط لمنح الجزائر بالون الاوكسيجين الذي تحتاج اليه أمس الحاجة هو رهان خاسر. والنتيجة, كما يقول محسن التومي, ان القطاع النفطي الذي كان يعتمد عليه لتحقيق البحبوحة وتوفير الرساميل اللازمة للاستثمار في القطاعات الاخرى "أخذ يتلوى على ذاته ويبتلع عائداته لا بل ان الجزائر جيرت بعض القروض التي حصلت عليها للقطاع النفطي". ويعتبر بيار ترزيان, الخبير النفطي ورئيس تحرير مجلة "بتروستراتيجي" ان تدهور القطاع النفطي في الجزائر مرده, في الدرجة الاولى الى التأخر التكنولوجي الذي تعاني منه الصناعة البترولية الجزائرية خصوصاً منذ ان هبطت العائدات بعد الصدمة النفطية المعاكسة عام 1986, حيث تراجعت اسعار النفط ومشتقاته تراجعاً حاداً, الانتاج النفطي انخفض والمداخيل انخفضت وكذلك احتياط الجزائر من النفط الذي لم يعد يتجدد باكتشاف حقول جديدة. وفي رأي الخبير المذكور, فان الجزائر "اذا استمرت على هذا المنوال فستتراجع صادرتها, وربما تحولت الى دولة مستوردة للبترول". يقول بيار ترزيان ان اعادت تشكيل الاحتياط النفطي في الجزائر, حتى لا ينقص من عام الى عام, تتطلب حفر مئة بئر سنوياً. والحال, يضيف بيار ترزيان, هو ان شركة سوناطراك الشركة الوطنية الجزائرية للبترول والغاز لا تقوم الا بربع المطلوب سنويا, الامر الذي يلزم الجزائر بالتفتيش عن حلول اخرى غير التي اعتمدتها حتى الآن. فالتقنيات المستخدمة في التفتيش عن النفط واكتشافه واستخراجه تطورات في الغرب في السنوات الاخيرة من غير ان تستفيد الجزائر منها. والمثال على ذلك ان التقنية التي يستخدمها الجزائريون تسمح لهم باستخراج ما نسبته 22 في المئة من المخزون النفطي الموجود في باطن الارض, وهذه النسبة تهبط وترتفع بحسب الحقول, ولكنها تبقى متدنية جداً. واذا نجحت الجزائر, بالاستفادة من التقنيات والطرق الجديدة, في رفع نسبة استخراج النفط من 22 في المئة الى 32 في المئة, فانها بذلك ترفع سقف احتياطها النفطي بنسبة 50 في المئة من غير اكتشاف حقول جديدة او حفر آبار جديدة غير تلك الموجودة. وقياساً الى الاحتياط العام المعروف في الجزائر والمقدر ب9 مليارات برميل فان الانتاج الاضافي وعائداته تمثل كسباً كبيراً للجزائر هي بأمس الحاجة اليه. اذن يظهر بوضوح ان الجزائر امام خيارين: اما الابقاء على سياستها النفطية والغازية والاستمرار في التراجع, واما الانفتاح على العالم الخارجي والاعتماد عليه للعودة الى احتلال مكانتها في الدورة النفطية العالمية. ويبدو ان الجزائر اختارت الحل الثاني. الامر الذي تمثل في تعيين آيت الحسين وزيراً للطاقة, ثم في اقرار مجموعة من القوانين في شهري كانون الاول ديسمبر وكانون الثاني يناير الماضيين وكلها تفتح الباب القانوني والتشريعي امام الشركات العالمية للانخراط في القطاع النفطي الجزائري. حظوظ النجاح والفشل اذا كانت بعض الاصوات والتحليلات تحذر من المدلول الرمزي والسياسي لادخال الشركات الاجنبية طرفاً اساسياً في الصناعة النفطية الجزائرية, فان التحليل الاقتصادي يظهر ان الجزائر ليس لديها الحل البديل. واذا كان القطاع النفطي اساسي لنهضة الاقتصاد الجزائري, الا انه بحاجة الى اموال وتوظيفات وتكنولوجيا. ويقوم المشروع الجزائري, لادخال الشركات النفطية الى القطاع النفطي,على صيغ متعددة. احدى الصيغ ان تشتري الشركة الاجنبية حقوقاً للانتاج في الحقول للنفط موجودة ومستغلة لقاء مبالغ معينة تختلف باختلاف الحقول, وبذلك تحصل على جزء من الانتاج النفطي نسبته مرهونة بما تكون الشركة دفعته بداية, وبمدى استعدادها للتوظيف والاستثمار. والانتاج النفطي ليس محسوباً هنا في كليته بل الفارق القائم بين ما كانت تنتجه هذه الحقول اساساً وبين ما تتوصل الشركة صاحبة الامتياز الى استخراجه. وفي بعض الاحيان, فان الامتياز يتيح للشركة العالمية ان تحفر آباراً جديدة في الحقول التي دخلت اليها. غير ان المسؤوليين الجزائريين, الذين ادركوا حدود هذه الصيغة, بلوروا صيغاً جديدة تقوم احداها على اقتراح مناطق جديدة للاستغلال على الشركات العالمية التي يكون لها الحق وقواعد معينة. وقد ذهب الجزائريون ابعد من ذلك اذ اقترحوا ان تدخل الشركات البترولية في عملية اكتشاف واستخراج الغاز الطبيعي, الامر الذي ينظر اليه على انه "ثروة وطنية مئة في المئة". ويرى بيار ترزيان ان المسؤوليين الجزائريين اختاروا هذه الطريق بما تحمل من تمزقات داخلية ومخاطر سياسية, بسبب اقتناعهم بأنهم وصلوا الى الحدود القصوى لما هم قادرون عليه بوسائلهم الخاصة. غير انه من الواضح ان السلطات الجزائرية تراهن على تجديد القطاع النفطي لأسباب اقتصادية ومالية. التقديرات تختلف, فالارقام الرسمية تقول ان الجزائر, اذا ما نجحت في خطتها بشكل كامل, ستكون قادرة حتى العام 2005 على استدرار ما قيمته مئة مليار دولار. وهذا المبلغ يشمل كل العوائد والمبالغ التي ستدفعها الشركات لشراء حقوق الانتاج والامتيازات والعائدات المترتبة عن الفارق الاضافي في انتاج البترول والغاز. ولكن لا بد في هذا الاحتساب من النظر الى ما ستربحه الجزائر من خبرة وتكتسبه من تكنولوجيا. ووفق ارقام اخرى, فان الجزائر ستحصل حتى العالم 1996 على 9 مليارات دولار. لكن هذه المقاربة الايجابية التي ترى في المشروع الحل الوحيد لاخراج الجزائر من دوامة الديون, تقابلها اخرى سلبية تركز على ما تحتويه هذه العملية من مخاطر سياسية واجتماعية واخرى متأتية عن عجز السلطة التي تمنع الامتيازات من التحكم بما ستخرجه الشركات الاجنبية من باطن الارض ناهيك عن التشكيك بجدوى الاستفادة من التقدم التكنولوجي بهذه الطريقة. الخلاصة التي يصل اليها بيار ترزيان هي ان المشروع من الناحيتين الفنية والقانونية يمكن ان يلاقي نجاحاً. لكن المجهول الكبير يبقى الوضع السياسي والاجتماعي في الجزائر. فالاستثمار يتطلب استقراراً سياسياً يضمن للمستثمر بأن الاموال التي يوظفها لن تذهب هباء. وبحسب ما يقوله احد الخبراء الفرنسيين في الشؤون الجزائرية, فان الشركات العالمية لا تتزاحم الآن في الوزرات الجزائرية للرد على العروض الجزائر لأنها بحاجة الى طمأنة بخصوص مستقبل الوضع السياسي الذي يحدد مصير الاصلاحات الاقتصادية. ويقول خبير اقتصادي عربي مقيم في باريس ان الشرط الذي لا بد من تحقيقه لاخراج الاقتصاد الجزائري من حالة المرض يكمن في التخلص من مسألة الديون حتى تكرس الجزائر نفسها لتخصيص مبالغ وافية للتوظيف وتجديد النسيج الصناعي الذي يعمل ب40 في المئة من قدرته الانتاجية وللاستجابة للطلب الاجتماعي الناتج عن التوق الى المجتمع الاستهلاكي والارتفاع بالمستوى المعيشي للسكان. ويضيف الخبير ان فائدة بيع جزء من الصناعات النفطية الجزائرية مفيدة حاليا, في المرحلة الاولى, لانها ستخفف من عبء الديون. والحال ان هذا القول اقرب الى التمني منه الى التشخيص الاقتصادي الذي تدعمه الارقام. وتقول الارقام ان المديونية الجزائرية تصل في الوقت الحاضر الى 30 مليار دولار اميركي, اذا اخذنا بالاعتبار الديون العسكرية. وتقول ان خدمة هذه المديونية تصل سنوياً الى 9.5 مليار دولار. اما قيمة اجمالي الصادرات الجزائرية فهي 12.5 مليار دولار, منها 8 مليارات عائدات الصادرات النفطية. وبالمقابل فإن قيمة واردات الجزائر من المواد الغذائية تبلغ 3 مليارات دولار. وهذا يعني, بالارقام, ان خدمة الديون والواردات الغذائية تستهلك تماماً اجمالي الصادرات الجزائرية. يبقى السؤال: اين ستجد السلطات الجزائرية الاموال الازمة للتوظيف والاستثمار وتقويم الشركات الغارقة وتنشيط الاقتصاد والاستجابة للحاجات الملحة. لقد بدأت الجزائر تلقى تفهماً دولياً لمساعدتها على اجتياز ازمتها. والدليل ما حصل قبل فترة حيث نالت قرضاً بقيمة 105 مليار دولار من كونسورسيوم عالمي للمصارف يترأسه المصرف الفرنسي كريدي ليونه. وهذا القرض, كما هو معلوم, يتيح للجزائر الحصول على القروض اخرى من المؤسسات المالية الدولية البنك الدولي, صندوق النقد الدولي... ومن عدد من الدول مثل الولاياتالمتحدة الاميركية واليابان ودول المجموعة الاقتصادية الاوروبية. ووفق هذا الخبير الذي يعرف الجزائر جيداً بحكم وظيفته والمهمات التي قام بها, فإن ادارة جيدة لمسألة المديونية, مع استمرار الاصلاحات الاقتصادية, بامكانها اخراج الجزائر من دائرة الخطر وتمكينها من توفير الاموال اللازمة للاستثمار وتلبية الطلب الاجتماعي. واذا اضيفت الى هذه الارقام والنسب ما يمكن للجزائر ان تحصل عليه من بيع جانب من صناعتها النفطية وتخصيص عدد من صناعتها وانتعاش الزراعة, فإن ذلك يعني ان الجزائر استجمعت الشروط والمعطيات اللازمة لاجتياز المرحلة الحرجة والانتقال بالاقتصاد من المرض الى النقاهة. مصالحة الاقتصاد والسياسة ان الرأي القائل بأن الاقتصاد الجزائري يمكن انقاذه له انصاره والمدافعون عنه. غير ان هذا الحكم المتفائل انما يحتاج الى بعض التوضيح "لنزع بعض الاوهام من الرؤوس" كما يقول احد الخبراء الفرنسيين في الشؤون الجزائرية, الذي يضيف: "لا يمكن ان نتصور لحظة واحدة ان الجزائر قادرة على الخروج من أزمتها دون ان ينعكس ذلك على السكان: "ان الوضع مأساوي الى درجة ان تضحيات كبرى يجب ان تقدم". هنا يطرح سؤال آخر: اذا كانت الحكومة الجزائرية سعت في شهر رمضان الى تموين الاسواق والحفاظ على الاسعار كما هي, فكيف سيتطور الوضع عندما ستعمد الحكومة الى تحرير الاسعار وفسح المجال امام لعبة السوق القائمة على العرض والطلب للتحكم بالاسعار؟. ان التجارب السابقة التي جرت في اكثر من بلد, وآخرها في روسيا, تدل على ان تحرير الاسعار يؤدي الى ارتفاعها بنسب عالية. وارتفاع السلع الاساسية يضرب بالدرجة الاولى الطبقات الفقيرة وذات الدخل المحدود التي تعاني ايضاً من البطالة المرتفعة والتضخم ومن المشاكل الحياتية الخانقة, كالمسكن والصحة والتعليم والتنقل... واذا كانت المداخيل هبطت في السنوات بنسبة الربع, فإن ارتفاعاً حاداً في الاسعار من شأنه ان يفجر ازمة اجتماعية يتخوف الكثيرون منها بحيث تجرف التدابير الامنية والاحترازية التي عمدت السلطة الى اتخاذها وستزيد من شكوك المستثمرين الاجانب. يقول ريمي لوفو, الاستاذ في معهد العلوم السياسية في باريس, انه "اذا كانت السلطة في الجزائر اليوم, في ايدي من يستطيع ممارستها" الا ان "اقناع الناس بالذهاب الى العمل" اي المشاركة في العملية الاصلاحية "يستلزم احداث تغيير في الخطاب والممارسات". ويعقب محسن التومي ان "صاحب القرار السياسي في الجزائر هو البطن" اي حاجة الناس الى الطعام والشراب وتأمين الحد الادنى المطلوب, خصوصاً ان المثال الاجتماعي والاقتصادي الاعلى الذي يصيب العالم الثالث عنوانه "الجنون الاستهلاكي". ويرى بيارترزيان, ان "قدرة الناس على التحمل مرهونة بثقتهم بالمستقبل وبقناعتهم بأن هذه التضحية "محدودة في الزمن" وان الوضع "لا بد ان يتحسن بعدها". فالنجاح يفترض انخراطاً شعبياً ومشاركة قائمة على الحوار الذي يجب ان يتم, وفق آراء الخبراء وعلماء الاجتماع مع كل الاتجاهات الموجودة في المجتمع, وارساء الحد الادنى من الاجتماع حول مشروع وطني له اهدافه المحددة وخطته الواضحة.