عند مدخل بلدة بيت شباب المتن - لبنان سألنا شاباً كان يقف امام بيت قديم يرفرف فوق مدخله علم احد الاحزاب اللبنانية ان يدلّنا على منزل يوسف حبشي الاشقر، فابدى جهله صاحب هذا الاسم فعرفنا ان الاحزاب ما تزال تستقدم شباناً غرباء عن المنطقة تكلفهم بحراسة مراكزها فيها. اما الرجل الستيني الكهل الذي سألناه عن منزل الاشقر في ساحة البلدة، فأرشدنا بعدما استفسر ان كنا نقصد يوسف حبشي الاشقر المحامي، فأدركنا ان صفة المحاماة، التي قال الاشقر انه لم يتخذها في يوم من الايام مهنة له، تغلب، في البلدة، على صفته الادبية التي قال انه نذر لها حياته وجعلها غاية وجوده. ما تزال اللهجة الجبلية البلدية تطغى على كلام يوسف حبشي الاشقر الذي يبدو ان اقامته في بيروت ما بين العام 1944 والعام 1975 لم تقو على تبديلها الا تبديلاً طفيفاً مقداره مقدار ما ادخله من تحسينات جديدة على منزل العائلة القديم الذي يقيم فيه وأقام فيه من قبله جداه ووالداه. فالقرية و"حضارتها" ما يزالان مبعث طمأنينة صاحب "لا تنبت جذور في السماء" الذي قال ان العيش في المدينة لم يورثه الا الشك والقلق والخيبة، بينما تذهب جذوره عميقاً وتمتد في القرية مسقط رأسه وموطن اهله وأجداده. في الجلستين الطويلتين اللتين استغرقهما تسجيل هذه المقتطفات من سيرة حياة وذكريات يوسف حبشي الاشقر كان يرتدي "الدشداشة" نفسها التي خيل لي انه يبقى لأيام يرتديها لاستنكافه عن الخروج من المنزل الا مرتين في الاسبوع ينزل فيهما الى مركز عمله في الضمان الاجتماعي في بيروت، ليعود سريعا الى مطمأنه في مسقط رأسه. لكن هذا المطمأن لا يبدو قادراً على دفع حالة السأم التي لا يحتاج من يتعرف على يوسف حبشي الاشقر الى كبير جهد كي يستقرئ علاماتها في كلامه وجسمه. أهو سأم الذهاب في العمر ام سأم الانقطاع الطويل الى الكتابة والقراءة اللتين يعتبرهما الاشقر خلاصه الوحيد؟ لكن ربما يكون عزاء صاحبنا في ان هذا العمر لم يذهب سدىً، اذ خلف وراءه كتباً عشرة… وربما هي حرفة الكتابة لا تخلف في نفوس محترفيها غير السأم! وفي ما يلي مقتطفات من سيرة حياته وذكرياته كما يرويها بنفسه: ولدت هنا، في بيت شباب، سنة 1929، وفي هذا البيت الذي اقيم فيه وعائلتي منذ مطلع حرب لبنان، وهو البيت الذي ولد فيه والدي اميل حبشي الاشقر وورثه عن ابيه. فأنا منذ ولادتي وحتى موت والدي سنة 1981 لم انفصل عن اهلي للإقامة في منزل مستقل الا فترة قصيرة من فترات دراستي الجامعية في بيروت، حتى ان زواجي في سنة 1958 لم يفض بي الى حياة مستقلة عن والديّ، فبقينا، انا وزوجتي، التي تربطني بها صلة قرابة بعيدة وأولادي الثلاثة،نقيم وإياهما في منزل واحد، في بيروت وفي بيت شباب. وهذا امر شديد الاهمية في حياتي وحياة اولادي الذين نشأوا في كنف امهم وابيهم كما في كنف جديهم اللذين صارا بمثابة "دخيرة" اي رمز يتضمن قدراً من القداسة في حياتهم. وفي الحقيقة لم اشعر في حياتي كلها بحاجة الى الانفصال عن اهلي للاقامة بعيدا عنهم، فعشت وزوجتي وأولادي في وئام تام مع والديّ، الامر الذي لم يعرضني واولادي لانفصام في الشخصية. هذا فضلا عن ان فارق السن بيني وبين والدي قد الغت مفاعيله نشأته الثقافية والادبية التي كان لها اثر كبير في نشأتي وميلي، فعشنا معاً في جو ادبي وفي تناغم حياتي لم تنفصم عراه القائمة على التفاهم والاحترام المتبادلين. فوالدي وكذلك والدتي كانا يتمتعان بعقل واسع ومتفتح وليبرالي، فلم تعكر صفو حياتنا المشتركة شائبة تذكر. كان والدي اميل حبشي الاشقر اديبا معروفاً وصرف حياته كلها في الكتابة والتأليف، من دون ان يعمل في غير مجال الادب والكتابة ومن غير ان يسعى الى وظيفة يعتاش منها. فهو سليل عائلة عمل رجالها في التجارة فأثروا قبل ان تسوء احوالهم المادية في غضون الحرب العالمية الاولى، فعاش ابناء هذه العائلة على البقية المتبقية من تلك الثروات التي تضاءلت ولم يبق منها غير ذكريات عز منقض وغير الانصراف عن العمل والوظيفة. فجدي يوسف حبشي الاشقر الذي احمل اسمه، كان وحيد والديه، ولم يعمل الا مدة سنتين او ثلاث من عمره في تربية دود القز المنتج للحرير، لينصرف عن هذا العمل معتمدا على ما ورثه عن ابيه وملبيا ميله الى الفن والكتابة، قبل ان يموت سنة 1909، تاركاً دفتر شعر مطبوع وكتابا في علم الحساب ودفتراً آخر ضمّنه تاريخ آل الاشقر. اما والدي الذي كان ايضا وحيد ابويه، فقد تعلم في مدرسة مطرانية قرنة شهوان التي كانت شهرتها تضاهي شهرة مدرسة عينطورة، قبل ان ينصرف الى الكتابة والتأليف في مجال التأريخ والقصص التاريخي، معتمداً في حياته المادية على بقية من ارث ابيه وعلى ما كان يحصّله من اصداره مجلة وجريدة في بيت شباب التي كانت عاصمة "القاطع" اي المتن حالياً ومن اهم المراكز التجارية والصناعية في جبل لبنان كله. وهذه البلدة، شأنها شأن بلدات المتن وقراه، لم تعرف الحياة الاقطاعية، واكبر ملاك فيها لا يملك اكثر من 1500 متر مربع من الارض التي تحولت الى عقارات مرتفعة الاسعار. اما حياتها الاقتصادية فكان قوامها الصناعات الحرفية والتجارة. وكان حرفيوها ينتجون الفخار والحرير وقماش "الديما" الذي لا يفنى، فضلا عن اجراس الكنائس. لكن هذه الحرف كلها انقرضت من البلدة او هي في طريقها الى الانقراض، ولم يبق منها الا مباني مشاغلها المهجورة الخربة في اطراف البلدة. اما عائلة الاشقر فأكبر عائلة في بيت شباب ولها فروع في كل من برمانا وعين عار ومرجعيون - جنوبلبنان. والدي كان وجها من وجوه العائلة والبلدة والمنطقة ومن اصدقاء اميل اده وحبيب باشا السعد ومؤيديهما. حمله انكبابه على الكتابة والتأليف على اصدار جريدة اسبوعية باسم "النتيجة" بين العام 1912 والعام 1915 الذي شهد توقفها عن الصدور بسبب نشوب الحرب العالمية الاولى التي خصص لها والدي كتاباً بعنوان "جهاد لبنان واستشهاده"، ضمنه يوميات الحرب طيلة سنواتها الخمس. لكن توقف "النتيجة" عن الصدور لم يكن نهاية مطافه مع العمل الصحافي. ففي العام 1929 اصدر مجلة "الليالي" الفصلية المتسلسلة التي خصصها لنشر كتاباته القصصية التاريخية عن شخصيات من تراث العرب والمسلمين، شأن جرجي زيدان الذي كان والدي اكثر حداثة منه لناحية عدم تصرفه بالشخصيات التاريخية على هواه ومزاجه. لكن "الليالي" ما لبثت ان توقفت عن الصدور في العام 1949، بعد ان كان والدي يعتاش من مردود اشتراكاتها في لبنان وسورية والاردن، حيث كانت توزع وتنتشر. اما صدورها والجريدة الاسبوعية التي سبقتها فكان دائما مركزه بيت شباب التي كانت جريدة "النتيجة" تنقل اخبارها المحلية. لكن الطباعة، اي طباعة الجريدة، والمجلة لم تنتقل الى بيت شباب الا في آخر عهد صدور "الليالي". في البداية كان يطبع "النتيجة" في مطابع جريدة "النصير" البيروتية لصاحبها عبود ابي راشد، والتي عمل فيها محررا فترة من شبابه، ثم لم يلبث ان بدأ يطبع "الليالي" في بلدة بكفيا التي كان يصدر منها عبدالله الحشيمي مجلة "العرائس". كانت الطباعة آنذاك تتم على اليد وبطرق بدائية. لكن ما كان الوالد ألفه من قصص تاريخية ونشره في "الليالي"، أعادت طباعته ونشره لاحقا "دار الاندلس" في بيروت. المراهقة والشباب تلقيت دراستي حتى السادسة عشرة في بيت شباب. في البداية دخلت مدرسة الراهبات ثم تعلمت على الكاتب المعروف جورج مصروعة الذي انشأ مدرسة خاصة في البلدة. ووالدتي، وهي من آل الحايك من بيت شباب وتعلمت في مدرسة الراهبات فيها، هي التي كانت تنكب على تعليمنا، أخي وأنا، دروسنا المدرسية في المنزل، بسبب انشغال والدي في التأليف ومتابعة شؤون الجريدة والمجلة. حتى السادسة عشرة من عمري عشت حياة طبيعية في كنف اهلي في البلدة. وربما كان الحدث الابرز في سنوات صباي تلك هو تعلقي، في سن الثانية عشرة، بفتاة من البلدة كان اهلها اصدقاء اهلي وتقوم بيننا وبينهم زيارات متبادلة. وقد صرفني تعلقي المحموم المراهق ذاك عن دروسي، مما أخاف اهلي علي وحملهم على إيلائي اهتماما خاصا تعرضت بسببه لضغط ناء بثقله على نفسي وعلى الفتاة، لان الزواج وحده - وهو مستحيل في تلك السن - كان مآل ذلك التعلق، بحسب الاعراف الاجتماعية السائدة. لذا كنا نكتفي من ذلك التعلق بلقاءات بيتية عائلية وبأخرى على طريق الكنيسة. وقد حملني ذلك الكبت العاطفي المبكر على كتابة الشعر والانطواء على نفسي، خصوصا بعدما هاجرت الفتاة الى افريقيا حيث كان اهلها يقيمون ويعملون. والشعر الذي صرفت له جل وقتي جعلني كسولا في المدرسة، فتدخل والدي وقرأ بعضا من قصائدي المراهقة ونصحني بأن اوفق بين دروسي وبين انصرافي الى الشعر، انا الذي اذكر ان القلم والورقة كانا لعبتي الاولى والمفضلة، قبل ان تصير الكتابة مأواي وملاذي في سن المراهقة وفي حياتي كلها. في العام 1944 غادرت وحدي بيت شباب بهدف استكمال تحصيلي الدراسي في كلية الاباء اليسوعيين جامعة القديس يوسف في شارع مونو ببيروت، فأقمت في كنف عمتي وزوجها واولادها، الامر الذي لم يفقدني دفء العائلة وحرارتها. اذكر انني لم استسغ العيش في المدينة في اول عهدي بها. فلا الترومواي ولا البنايات العالية ولا الاختلاط السكاني ولا تعدد اوجه الحياة وتشعبها وتداخلها شكلت مصدرا لادهاشي، على الرغم من انني رأيت وادركت كم يختلف عالم المدينة عن عالم الريف. وفي الحقيقة لم تحملني اقامتي في المدينة آنذاك لا على رفضي لعالمها وقيمها ولا على التآلف مع ذلك العالم وتلك القيم. وربما يكون قد حال بيني وبين هذا الامر تفرغي لمتابعة دراستي وانكبابي عليها الوقت كله الذي كنت اقضيه بين الجامعة وبين منزل عمتي. اما في ايام الاحاد فكنت أذهب الى السينما واتسكع في شوارع المدينة مع رفاق الدراسة. وما اتذكره من بيروت الاربعينات انها كانت احياء كبيرة شبه مقفلة على ساكنيها الذين كانت طفيفة ومحدودة صلات بعضهم بالبعض الآخر. وهذا ما بدأ يرسخ في وجداني نفوري من حضارة المدينة وعالمها وشغفي بحضارة الحياة القروية وبساطتها. بين العام 1950 و العام 1953، استأجرت، انا وصديق لي يدعى جورج سكاف، غرفة مستقلة في شارع مونو، واقمنا فيها معاً وعشنا حياة عزوبة في كنف المرأة العجوز مالكة الغرفة التابعة لمنزلها. ثم لم يلبث اهلي ان غادروا بيت شباب للاقامة في بيروت، فكان من الطبيعي والبديهي ان اقيم معهم في المنزل الذي استأجروه في محلة الاشرفية وانتقلوا منه للاقامة في منزل آخر في محلة الجميزة القريبة من مرفأ بيروت. وفي اواخر الاربعينات، اي قبل وفادة أهلي الى بيروت، بدأت اعمل موظفا مياوما في وزارة البرق والبريد والهاتف، لأحصل مصروفي اليومي. كان راتبي الشهري آنذاك مئة ليرة لبنانية جعلت استخدمها لبعض من مصاريفي الخاصة، ومنها مصاريف التدخين الذي شرعت به وادمنته، واذكر ان سيجارتي المفضلة آنذاك كانت "اللاكي سترايك" التي كان ثمن العلبة منها 140 قرشاً. وبوجه عام كانت احوالي المادية غير ميسرة في تلك الفترة، شأني شأن غيري من اقراني وزملائي في الجامعة التي ما ان انهيت دراستي فيها حتى انتقلت الى العمل في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، ومن ثم الى الضمان الاجتماعي الذي ما ازال اعمل فيه حتى الآن موظفاً برتبة مدير فني. من كانت احواله المادية ميسرة من الشبان في نهاية الاربعينات ومطالع الخمسينات كان يستطيع السهر في احد ملاهي العاصمة. اما امثالي فكانوا يرتادون المقاهي التي كان اصحابها يحرصون على مراقبة مرتاديها خوفاً من تجاوزهم حدود الحشمة، اذا ما كانوا في صحبة فتيات من زميلات مقاعد الدراسة في الجامعة. وفي غضون سنة 1948 احببت فتاة تعرفت اليها في بيروت ورغبت في الاختلاء بها، فطفنا معاً على كثرة من مقاهي المدينة بحثاً عن مقهى مناسب لا تطاردنا فيه نظرات خدمه. واذكرانني اخيراً دخلت الى مقهى "الريجنس" في باب ادريس، وكان مقهى راقياً وهادئاً، فنبهت المسؤول عن المقهى الى ان غايتنا، انا والفتاة، ليست الا تبادل الاحاديث وتناول فنجانين من القهوة. اسوق هذه الوقائع لاذكر ان بيروتالمدينة الكوسموبوليتية المنفتحة لم تنشأ على نحو فعلي الا في مطلع الستينات، مع ازدهار رأس بيروت وبروز شارع الحمراء فيها كمركز مديني اكثر حداثة من ساحة البرج، مما اشاع مناخاً من الحرية في العلاقات والفكر والقول. لكن هذا كله لم يبدل نظرتي الى حضارة المدينة وقيمها، انا الذي انهيت دراستي الجامعية فيها في العام 1950 وتخرجت حاملاً شهادة دراسات عليا في الحقوق من الجامعة اليسوعية، وشهادة مثلها في الفلسفة من الاكاديمية العليا للفنون الجميلة، من دون ان اسعى الى ممارسة مهنة المحاماة، على الرغم من ان ممارستها كانت ميسرة لي عن طريق علاقات والدي الواسعة بشخصيات مرموقة في عالم المحامين. الكتابة والتمزق الوجودي انا الذي نشأت في بيت مهنته الكتابة، لم اقرر احترافها والتفرغ لها، بقدر ما وجدتني منقاداً اليها انقياداً منذ سن الثانية عشرة، فأحسست انها طريقي في هذه الحياة، من دون ان يكون الالهام موجهي ودافعي اليها. وحين صرت جاهزاً للعمل في مهنة المحاماة وجدتني انصرف عنها لئلا تصرفني عن الكتابة. وحتى سنة 1951 ظللت اكتب الشعر، الشعر النثري الحر، وانشر بعضاً من قصائدي في المجلات الادبية، حتى تعرفت بالروائي اللبناني فؤاد كنعان الذي كان رئيس تحرير مجلة "الحكمة"، فأشار علي بان اتجه الى كتابة القصة، فلا اهدر وقتي في كتابة الشعر، وهكذا كان. اما القصة الاولى التي كتبتها آنذاك فاستوحيتها من صميم احوالنا المادية الصعبة، كانت بعنوان "كان اذا جاع" ونشرت في مجلة "الحكمة"، وهذه القصة تتحدث عن رجل كنت اعرفه يشد زناره على وسطه اذا ما عضه الجوع. في الخمسينات كانت "الحكمة" تجمع حولها عدداً من كتاب القصة التي كانت "موضة" رائجة آنذاك. اذكر منهم موريس كامل الذي كان يسارياً، فأغضبه اسمه فقام بتبديله بان دعا نفسه صلاح بدل موريس. وعلى الرغم من ان صلاح كامل هذا كان مقلاً في الكتابة فانه كان ناقداً ادبياً مهماً. وربما تكون روحه النقدية طغت على كتابته الادبية. اما فؤاد حداد الذي كان ينشر في صحيفة "العمل" مقالات ضد جمال عبدالناصر بتوقيع "ابو الحن"، فكان من اهم الذين كتبوا القصة آنذاك. لكنه في المقابل كان كسولاً، اذ لم يكمل رواية بدأ بكتابتها. مجموعتي القصصية الاولى نشرتها في العام 1952 بعنوان "طعم الرماد". اما مجموعتي الثانية فكانت بعنوان "ليل الشتاء" وكتبتها تحت الحاح شك عصف بي، فجعلت ارى الصدفة في اصل الوجود واساسه. وربما كان في اصل نظرتي هذه الى الوجود والعيش ما حصل لي مرة في ساحة البرج. اذكر انني كنت خارجاً من محل لمسح الاحذية حين طالعني فجأة عراك بين رجلين في الشارع، فتدخلت بينهما لفض عراكهما. لكن واحداً منهما كان عاجل الآخر بطعنة في بطنه. وحين حضر رجال الشرطة اقتادونا نحن الثلاثة الى المستشفى حيث التقيت، صدفة، الفتاة التي كنت احبها في العام 1948، وكانت قد مضت سنوات اربع على افتراقنا وذهاب كل منا في طريق. اروي هذه الحادثة لابين كم اجتمعت من الصدف في ذلك النهار كي التقي بفتاة كنت احبها ولم اعد اراها منذ سنوات اربع؟ اصراري على اقتفاء اثر الصدف في رسم مصائر البشر وحيواتهم قادني الى حالٍ من التمزق الوجودي الذي كان العيش في المدينة اطاره وعنصراً اساسياً من عناصره. وحين اقول التمزق الوجودي اعني التساؤل عن مصير الكائن الذي يعيش في غربة عن ذاته في عالم المدينة. لذا كان عليه ان ابحث عن خلاص من هذه الحال التي لم الق خلاصاً منها الا في عالم القرية التي كنت انسلخت عنها وباعدت السنوات بيننا. في صيف العام 1957 عدت الى بيت شباب مسقط رأسي ومهد طفولتي وملعب صباي، حاملاً اسئلة تمزقي الوجودي الذي عانيته في المدينة، فكتبت عودتي الى الجذور واستعادتي صلتي المنقطعة بها، فكانت مجموعتي القصصية الثالثة "شق الفجر" التي حاولت فيها الاقتراب من السلام الذي يكتنف الحياة في الريف. لكن ذلك لم يشفني عما انا فيه، لان المدينة كانت بدأت تنتقل الى القرى، وهكذا وجدتني في حال من الضياع لا قرار له. كان والدي آنذاك بدأ يلح عليّ بأن اجدد تجربتي الكتابية وانميها، ما دمت جعلت الكتابة هدفاً لحياتي. وفي العام 1964 نشرت روايتي الاولى "اربعة افراس حمر" التي شكلت انطلاقة جديدة في عملي الكتابي، فاحدثت ضجة في اوساط بيروت الادبية. روايتي الثانية هي "لا تنبت جذور في السماء" ونشرت مجموعة قصصية بعنوان "المظلة والملك وهاجس الموت" في العام 1982. وهذه المجموعة احب كتبي جميعاً الى قلبي. اما "لا تنبت جذور في السماء" فكنت بدأت في تحضير مادتها منذ العام 1971. ذلك لان رواياتي تبدأ بعمل تقميشي يستغرق سنوات قبل ان ابدأ بكتابتها كتابة اولى. في البداية تحضرني فكرة عامة للرواية فأشرع في جمع مادتها من الصحف ومن وقائع الحياة اليومية فأسجل انطباعاتٍ وملاحظات على غير هدى ومن دون صياغتها في قالب محدد. وحين انتهي من هذا العمل اعود الى ما تجمع لدي اغربله حذفاً وزيادة قبل ان اشرع في الكتابة الاولى التي تتلوها اعادة كتابة، ربما يصل عددها الى اربع. هذا ما فعلته في "لا تنبت جذور في السماء" التي بلغ حجم مسوداتها اربعة امتار من الورق. وهذا ما فعلته ايضاً في روايتي الاخيرة "الظل والصدى" التي كنت شرعت في جمع مادتها منذ العام 1974. لكل جيل زلزاله انا قارئ نهم، والكتابة والقراءة لم يكونا مرة مورد رزق لي، بل كانا دائماً وابداً اشبه بخلاص وصلاة. وفي 15 ايلول من العام 1988، حين وضعت النقطة النهاية في كتاب "الظل والصدى"، شعرت انني وصلت الى قول ما اريد قوله وانني افرغت ما عندي كله. لذا يراودني شعور انه آخر كتبي. الكثير مما ترجم لكتاب الى اللغة الفرنسية قرأته. من الادب الصيني الى الياباني الى الاميركي الى الانكليزي الى الاسباني... فالقراءة متعتي الاساسية في هذه الحياة. في مراهقتي قرأت والدي وجرجي زيدان، ومتأخراً قرأت الادب المهجري من جبران الى نعيمة. وفي شبابي كنت استعير الكتب من مكتبة ابن عمتي فرج الله حايك، وهو روائي معروف باللغة الفرنسية، ونشر رواياته في "دار غاليمار" المعروفة. سارتر وكامو قرأتهما بعد مضي حوالي سنوات ست على شهرتهما، احببت تفكيرهما، فضلاً عن انني في نظرتي الى الدنيا انتمي الى جيلهما. اما دوستويفسكي فقد خضني عندما قرأته واثر بي في الصميم، وانا اعتبره كناية عن بركان، لانه طرح مشكلة الانسان الرئيسية: الايمان والخير والشر ثم انني في انتظام اعيد قراءة شكسبير. في عمري لم انتسب الى تجمعات ادبية ولم استسغ الالتزام. وقراءتي للتاريخ علمتني ان العقائد والايديولوجيات لا تصمد ولا تستمر، فعزفت عن الافكار الشمولية الكلية، وبقيت مقتنعاً ان العالم لا يكفله الا الله وحده. و في مطلع شبابي كنت مؤمناً، اما الآن فلا ادري، لكن ايماني ذاك لم يكن تديناً. اما اقصى امنياتي فهي ان اعود كما كنت مؤمناً في مطلع شبابي. لكنني في قرارة نفسي مقتنع ان العدل غريب عن هذه الدنيا وان مشوارها عذاب كله، لا يبعده عني غير الكتابة. الشك جعل الارض تهتز تحت قدمي. وانا اعتبر ان لكل جيل زلزاله الخاص. وفقد الايمان هو زلزال جيلي. القرية والمدينة ربما اكون في ميلي الى تفضيل الحياة في القرية على الحياة في المدينة مثل اسكندر بطل روايتي "لا تنبت جذور في السماء" فالمدنيّة الحديثة التي ولدت في المدن لم تضف الى حياة الكائن البشري الا التيه والالم والتعب والقلق وعدم الرضى والغربة عن الذات، الامر الذي ولّد فيه شعوراً عميقاً بأن الدنيا تسبقه ولا يستطيع اللحاق بها. اما في القرية، التي اعتبرها حضارة كاملة، فيمكن العيش في امن وسلام ودعة وطمأنينة. حضارة القرية هي حضارتي، وفي المقابل ارفض الحضارة المادية الحديثة التي انبتتها الحياة في المدن والتي ستوصل العالم الى الخراب، من دون ان تكون العودة الى حضارة الحياة الريفية ممكنة. والذي يمكن الحد منه هو فقط ركض البشر المسعور في طلب السلع الاستهلاكية واقتنائها، وهو ركض رسخته الحضارة المادية الجديدة التي اقامت سوء تفاهم بين الانسان ونفسه. افضل مكان يحلو لي ان احيا فيه هو قريتي، حيث تمتد جذوري عميقاً. ولكن المأساة تكمن في ان حضارة الريف هي في طريقها الى الزوال. وعلى الرغم من ذلك ما ازال قادراً على العيش في سلام هنا في قريتي، حيث تسود الاخوة والحرارة والدفء بين الناس الذين ما يزالون مؤمنين ويعيشون من دون الضغوط التي يتعرض لها اهل المدينة. هنا في الريف العالم اوسع وارحب واكثر حرية من عالم المدينة. فالقرية تتيح الانفراج والانفراد بالذات، بينما يفضي الانفراد بالمدينة الى وحدة سامة وعزلة كبيرة. منذ مدة كلفت بإعداد برنامج تلفزيوني عن القرية اللبنانية ما بين 1900 و1975، وحين رحت استطلع بعضاً من وجوه الحياة في بيت شباب، اضناني البحث عن جريمة حصلت فيها، وفي المنطقة كلها. فمنذ 200 سنة لم تحصل جريمة كبرى او سرقة، على الرغم من ان ثلث اهالي بيت شباب ماتوا جوعاً في غضون الحرب العالمية الاولى. هنا في القرية اشعر انني اعيش ما تبقى لي من عمر بسلام وطمأنينة لا توفرهما الحياة في المدينة. لكن السلام والطمأنينة اللذين اعيش في كنفهما لا يبعدان القلق والشك الوجوديين عني. فإلي اين يسير هذا الكائن التعيس وما هو مصيره؟!