} منذ تفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك وما أعقبه من حرب في افغانستان، تستكتب الصحافة العالمية الروائيين بقدر استكتابها المحللين السياسيين. هنا انطباع روائية عربية ترجم عدد من رواياتها الى لغات عدة وكتبت مسرحيات بالإنكليزية عرضت في مسارح طليعية في لندن. حلمت ان الطالبان دخلوا مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت. ولم أستطع ابعادهم من حول سرير أمي، خفت أن تلامس لحاهم الطويلة الكثة أغطية سريرها. خشيت من ان تصل رائحة ريقهم الى انفها. وقفوا كالأخطبوط ملتفين حولها، يحمونها من الأطباء الرجال لأن امي مسلمة. امي الجميلة الممددة على سرير سحري، لو أن هناك من يكتب ألف ليلة وليلة اخرى لوصفه بسرير الريح، يرتفع، ينخفض، يتصل بآلات ميكانيكية، تبث في فمها الروح، في انفها الطعام، في زندها المسكّن، في جسمها الدفء. آلات تحدثنا ايضاً، تواسينا لفترة، تخيفنا بالأرقام والرنين الهامس احياناً والمدوي احياناً أخرى. لا أريد أن أسمي هؤلاء الرجال بأسمائهم خوفاً من البكاء، فالطالبان تذكرني بالطالب النجيب الذي ينكب على طاولته، وببيت الطلبة حيث طاولة البينغ بونغ. وأسامة يذكرني بابن الجار الذي كان يصفر الألحان ويرتدي القمصان المكوية. تصورت انهم يحاولون منع الأطباء من الاقتراب منها وهي في بيروت بعد ان نجحوا في حجب النساء الأفغانيات عن الطب والأدوية، تركوهن وحيدات مع نحيبهن وهن يصارعن الآلام، بعد ان أفلحوا في إسقاطهن من الوجود. وبعد ان أثبت حكمهم ان المرأة عورة، أطرافها عورة، قدماها عورة، صوتها عورة، تجلد بالسياط إن هي أظهرت قدماً واحدة صدفة نتيجة هبوب الهواء على الشادري - الستارة أو البئر السوداء الملونة الذي يغطسونها بها تاركين فتحات صغيرة عند العينين تشبه قرص النحل، حجبت عنها الرؤية الكاملة، فترى السماء الزرقاء قطعاً قطعاً ذات دوائر سود. منعت من العمل وحرمت من الخروج من المنزل، لا لأن لخطواتها وقعاً، فهي أخذت تحسب لخطواتها الحساب وتسير الهوينى لإخفات صوت قدميها على الأرض، بل لأنهم أثبتوا انها "فتنة" فمظهرها كمظهر الشيطان، يدلون عليها ويدوّي الصدى عبر الوهاد والأودية والطرق مردداً حكمهم: "إنها عورة" تنزوي في عتمة بيتها، في المستوصف في صمت تعاني مرض الكآبة، تود الانتحار، لكن الأنهار بعيدة، تلك التي اعتادت على تلقف جسمها ومساعدتها على إنهاء حياتها غرقاً. وأمي واكبت مراهقة وشابة فترة الانتحار. في بيروت كانت المنتحرات من صديقاتها يعتمدن على رش اجسامهن بالكاز ثم إشعال عود كبريت واحد، يعلنَّ به التمرد على الظلم وعلى سطوة الذكور والانصياع لإرادتهم. المرأة الأفغانية تنتحر بالصمت، تنتحر بالارتعاش، ترى قبل ان تغمض عينيها شريط حياتها اياه، وتخاطب نفسها: أنا المرأة الأفغانية كان لي دور، كنت معلمة، كنت ممرضة، كنت طبيبة، كنت تلميذة ارتدي زي المدرسة القصير نسبياً، كنت زوجة، كنت حبيبة، كنت أماً، أخفيت عن جيش الاحتلال السوفياتي زوجي وابني. أعرف أنني موجودة، لا لأنني استشير المرآة، بل لأنني أشمّ، أتذوق، أسمع، أرى، أتلمس، وأخفق. من أوجد الرجل اوجدني. من خلق الحيوانات والزهر والرمل والذباب والأفاعي والقمر والأشجار والرياح والثلوج خلقني، فأنا لم أولد نتيجة تحاليل وتركيبات في المختبر. والآن أصبحت في بيتي الذي يغطيني كالسلحفاة، اجلس في عتمة البيوت، سواء كانت من القش الطيني ام من الطوب، صبغوا زجاج النوافذ باللون القاتم حتى لا أرى السماء، حتى إذا مر رجل امام داري ظن انه يمر امام ضريح، وإذا طار عصفور قرب الباب تخيل ان الليل قد غشي المكان بينما الشمس ساطعة. مكاني في ملاعب كرة القدم التي اصبحت مكاناً لإعدام بنات جنسي. رأيت امرأة مقرفصة كأنها خيمة، ورجلاً يصوب رشاشاً على رأسها، رأس الخيمة، بينما تقف امرأة اخرى على حدة ولا تجرؤ على البكاء، وأحد المارة يلتفت الى الوراء بعجلة لأن ما يراه ليس مهماً، فقط الخطوط الكلسية الآمنة للملعب هي التي استكبرت ما يحدث، لقد اعتادت على ارتطام الكرة وأرجل اللاعبين ولم تنؤ من قبل تحت ثقل امرأة تهاوت بلا حراك، دماؤها تصبغ الكلس الأبيض باللون الأحمر. أنا المرأة الأفغانية كان لي دور قبل ان يرجع الطالبان الحياة الى القرون الوسطى ويقوموا باضطهاد الرجل ايضاً وإجباره على إطلاق لحيته وارتداء العمامة والملابس الطويلة حتى وهو يلعب كرة القدم. قبل ان يشنقوا التلفزيونات عن رؤوس الأشجار، ويقفلوا المدارس وصالات السينما ويخرسوا الموسيقى ويحرموا لعبة الشطرنج وبقية ألعاب التسلية حتى لعبة طق البيض، منعوا طائرات الورق الهوائية، حرموا ممارسة لعبة كرة القدم ثم أعيد سماحها شريطة عدم التصفيق أو التهليل للأهداف الصائبة. رأيت بوذا باميان يتهاوى، سمعت رجال الطالبان يزغردون فرحاً لأنهم تمكنوا من تفتيت العملاق الذي أبى ان تقهره القرون، بل ظل واقفاً يذكر الإنسان بذكائه ومثابرته وبفنه وهو ينكب على نحت الصخر والجبال، ينسبون تفتيته الى قوتهم بينما الحقيقة أنه أقدم على الانتحار، لم يعد في إمكانه ان يكون شاهداً على التزمت القاتل، اللامعقول. انا المرأة الأفغانية أتهاوى كالبوذا، لا في الجبال الوعرة والمدن بل في العقل والمخيلة، فأنا وصلت الى احط الدرجات، الى الأسفل. سُحب مني وأنا حية أُرزق قيمتي وشأني. هم يحكمون علي بعدم الخروج من المنزل، أو الاختلاط، أو العمل، على رغم انني في مكنون صدري اعرف ان المرأة استطاعت ان تبلغ رتبة النبوة كحال مريم بنت عمران، ومرتبة المجاهدة والمحدثة كخديجة بنت خويلد، وأن تصبح ذات حضور في الحركة الاجتماعية والعلمية كعائشة بنت أبي بكر، وأن تقرض الشعر كالخنساء وسكينة بنت الحسين، وأن تتمرد كما فعلت امرأة فرعون، وأن تحقق الذكاء الباهر وتتفوق على الرجال وهو ما اتسمت به ملكة سبأ. اعرف ان الإسلام اعفى البنات من الوأد، من العبودية، علمهن انهن متساويات مع الرجال وأمام الخالق. أعطاهن كامل الحق في الميراث والتجارة واختيار الزوج وفي الطلاق ايضاً، لذلك ها أنذا اصيح: ماذا حصل؟ إذا كانوا مسلمين فأنا مسلمة وإن كانوا يتبعون الدين الحنيف فأنا كذلك. لكنني أعرف ان الدين الإسلامي يشوَّه منذ ان تولى الطالبان زمام الحكم، أعرف انهم يتاجرون بالمخدرات ومع ذلك ينادون: الله... الله... كما أطلقوا مدافع الدوشكا، وأعرف ان زمرة من الشباب الجائع الذين هجِّروا نتيجة الفقر والحروب قد انضمت الى صفوفهم، اعرف كل هذا، لكنني امرأة والمرأة أضعف. أتنفس الصعداء وأنا أتخيل امي تطرد الرجال الملتحين، ليحل مكانهم الأطباء والممرضات والممرضون من شتى الطوائف. يقلبونها من جنب الى آخر كي يريحوها. امي المسلمة التي كانت سافرة الرأي، سافرة الصوت، تؤمن بأن الظلم هو المنكر، والمعروف هو العدل، تصر حتى وهي تصارع الموت ان تعامل كإنسان أولاً لا كامرأة. عنفوانها هو الذي طردهم من حول سريرها. وهي زوجة في الرابعة عشرة من عمرها قذفت برجل دين كان صديق والدي الى ساقية في متنزه في دمشق لأنه ووالدي أرادا بعد ان استخارا خيرة ان تجلس امي وبقية النساء معها منفردات بعيداً عن الساقية وعن المتنزهين وغيرهن من المتنزهات، بينما جلس الرجل ووالدي قرب الساقية. انصاعت النساء للأمر لكن امي بعد حين سألت الرجل ما إذا كان في وسعه استخارة خيرة لها وعلى ما ضمرت، فاستجاب لطلبها وبشرها بأن الاستخارة كانت ايجابية، وراح يقول مؤكداً لها "ولا أحسن من هيك، استجابة عظيمة". دفعته بيديها الى الساقية: "إذاً مع السلامة... هذا ما نويت عليه واستشرت الخيرة من اجله". كان خوفي هو الذي أوهمني اقتحام الطالبان غرفة امي أو بالأحرى هم دخلوا نتيجة هوسي بالصحف وبالأخبار وأنا في الانتظار عند مدخل العناية الفائقة في المستشفى، وتصورت ايضاً دخول اللبنانيين ملتحين وغير ملتحين بينما كانوا يحاكمون بالشمال نتيجة كشف خطتهم الرامية الى إقامة دولة إسلامية في قلب لبنان تحكمها الشريعة من خلال الجهاد المقدس، وتخيلت ايضاً قوى إسلامية تبدي حماسة كبيرة لنهج الطالبان تطلق على ما يحصل الآن بحرب صليبية جديدة. وتناهت الى مسمعي خطب لبعض السياسيين يستنكرون ذبح المسلمين في افغانستان من غير ان يستنكروا ما حدث في نيويورك وواشنطن، من غير ان يتنصلوا من "القاعدة". وها هم المتظاهرون والمتظاهرات يحملون صور اسامة بن لادن ويهتفون باسمه في شتى البلاد العربية. ارتعد من صورهم وهم في الكهوف، ومن لحاهم، من ألقاب مثل "امير المؤمنين" وما شابه. من لغتهم العربية المتينة الأصولية، من منطقهم المتحجر المجرد من أي لهجة ديموقراطية. تخيفني الكوة التي يطلون منها على الكون، كما أرعبني من قبل رفض الإمام الخميني رفع نظره الى برج ايفل أو الى قوس النصر حين كان محتمياً بالعاصمة الفرنسية. يدي تكمش قلبي، تتحسس رقبتي وأنا أتخيل نفسي وقد أرغمت على العيش كالأفغانيات، إذا رفعت الحجاب قليلاً عن انفي وفمي من اجل أن أستنشق شذى الحبق انهال السوط ضرباً على يدي، أطرب لأم كلثوم فإذا باللكمات تنهال على أذني، أحاول أن أشير برأسي من بعيد لأحيي بصمت صديق الطفولة فأجرجر الى باحة المدينة الرياضية لتأديبي. ثم أجرجر مرة اخرى لأنني تجرأت وأمسكت بيد زوجي ونزعت الشادري - ستارتي عن قصد وطبعت على وجنتيه قبلة. لا. إنني لا أشطح بأفكاري، لا أكتب رواية، ولا قصة قصيرة ولا سيناريو لفيلم، انني في كامل وعيي، كما كنت قبل ستة وعشرين عاماً، في بدء الحرب اللبنانية عندما اتصلت بي صديقتي من اجل ان نذهب الى البحر معاً فأجبتها آنذاك: "لا أستطيع، الحرب قد وقعت"، تضحك على جبني وعلى دراميتي وتقول لي انها معركة لا حرب، سرعان ما تزول. إنها بعيدة عنا، في عين الرمانة، لم أقل لها انني أشعر بأعين القناصين والمقاتلين تتربص بنا بل تراقب حتى العمود الفقري للأسماك. وها أنا أشهد التبدل والتغير حتى في أروقة الانتظار وصالات المستشفى حيث أرى أعداد المحجبات في ازدياد مستمر. ويذهلني طلب مجلة نسائية مني ان أبدل لون النبيذي الذي ورد في سياق القصة القصيرة بلون آخر، وتدهشني البرامج التلفزيونية والإذاعية التي تستضيف وبكثرة ملحوظة رجال الدين، ويؤلمني ان أدرك ان البلاد العربية ما تزال تشدد في خناقها على الروايات والكتب، وأصعق لمرأى الكتّاب يخرون ارضاً وهم يغتسلون بدمائهم التي هدرت ثمناً لكلماتهم. وها هي هيمنة الأصوليين المتطرفين تخترق كالأشعة السينية حتى المجال الفكري للإنسان وتشيع الذعر من مجرد التطرق الى أي موضوع يتعلق بالإسلام. ولكنني بعد احداث 11 ايلول سبتمبر تحررت من الحذر وها أنا أنطق بما يجيش في صدري قائلة ان الأصوليين المتطرفين بنوا آراءهم لا على أسس دينية عادلة بل على أسس مزاجية وسياسية محضة، ترمي الى محو التاريخ العربي والإسلامي ومحاصرته بسدّ معدني منيع، حتى لا ينفذ إليه اي تيار فكري مستقل ولو بحجم قشة. أشعر بأنني أريد ان يندفق الجيشان الذي يعتلج في صدري كي تبقى البلدان العربية سباقة الى الخروج من سراديب القهر والفقر، سباقة الى مواكبة الحضارة الحديثة محترمة الأديان السماوية كلها. الطالبان يمنعون حق المرأة في العلم، وأمي الممددة تحتضر فوق السرير تود ان تقول لنا شيئاً، الأنابيب اخرست حبال صوتها، وشلّت الجلسات الكيماوية حنجرتها وحبست انفاس أنفها. تكتفي بالابتسام لنا. تكتفي بهز رأسها نافية أنها تتألم، لكنها تود ان تقول لنا شيئاً، لتعبر عما تفكر به في اللحظات الحاسمة، ربما تشاء أن توصينا بوصيتها الأخيرة، تشير بعينيها، تستفهم، تعلق، ربما تريد توديعنا في تلك اللحظات التي صَحَت فيها، ولم تستطع، ونحن ندور بهلع: كيف لنا ان نعرف ما تريده؟ نحاول ان نتفهم، ان نحلل الألغاز، الشيفرة، ولكن من غير فائدة، نسأل الطبيعة، نستجدي معجزة ما تجعلها تخط على الورقة ما تود قوله... بلا فائدة، فأمي حرمت من الحق في تعلم القراءة والكتابة وحملت هذا العار كالوشم على روحها، تنتقم بكسر كل قلم تراه، حتى قلم الكحل، على رغم انها كانت خارقة الذكاء والفطنة. وجدت نفسها كالأعمى الذي يزيد من سنّ حواسه الأخرى تعويضاً لفقدان بصره ومع ذلك يبقى في الظلام. ندور بهلع نبحث عن طريقة لنفهم ما تريده منا، لربما أرادت ان تتحدث بالرسم، كما كانت تفعل كلما شاءت أن تدل نفسها على أصحاب الأرقام الهاتفية المدونة في دفتر التلفونات إياه، الأزرق، فترسم في مقابل الأرقام صفة صاحبه، ثريا هبطت من السقف الى جانب رقم صديقتها التي انتقلت الى مسكن آخر وعلقت في صحن غرفة الصالون ثريا كبيرة. لكن كيف سيتسنى لها رسم وداعها على بضع ورقات؟ "العلم نور. اطلب العلم ولو في الصين". والدي التقي، الذي رفض ان يرفع دعوى قضائية ضد شريكه الذي تحايل عليه واستولى على محله التجاري، بل رفع يديه الى السماء وقال "المحامي هو الله". والدي الذي أيقظ ولداً شريراً كان ينام على الرصيف وأتى به الى البيت ليعيش بيننا، لكنه هرب بعد يومين. والدي الذي عاش وكأنه من دعاة الصوفيين عاش حياة تقشفية زاهداً في الدنيا مستبشراً بالآخرة، احترم الأديان الأخرى. والدي التقي الذي أراد لي ولشقيقتي وكل نساء العائلة ورجالها اتباع الدين الإسلامي بكل تعاليمه وفروضه، بكى عندما واجهته وشقيقتي الكبرى حاسرتي الشعر بعد ان أوهمناه لسنوات طويلة بأننا نغطي شعرنا. بكى من قهره ثم غفر لنا وقال: أحبكما. عندما نويت السفر الى مصر لتلقي العلم وافق والدي بينما اعترض اخي مذكراً إياه بأنني فتاة لم أتخط بعد الثامنة عشرة من عمري، فكيف لي أن أعيش وحيدة من غير رقيب في بلاد نجهلها؟ وإذا بوالدي ينهره "يا مزفت. انها تطلب العلم، ما يهمني هو العلم، العلم نور. اطلب العلم ولو في الصين". الظلم هو الذي يرافق غير الواثق، التحكم هو التعويض عن الضعف والخوف، ووالدي كان يثق بالدين ولا يخاف عليه من الذين لا يتبعونه، ولم يكن يستسيغ الاحتفالات الدينية لعاشوراء في النبطية التي كان يتخللها ضرب الرؤوس بالسيوف منتقداً ثقافة فطرته الأولى. منتقداً المحتفلين "بالهرطقات" كما كان يدعوها، يحث الرجال والنساء للخروج من متاهة الجهل والاستماع الى القرآن الكريم. الظلم هو الصمت على ما أراه. نساء مسلمات في بعض الأقطار العربية يتظاهرن ويرفعن صورة بن لادن ولا يدرين انهن بذلك يرفعن شعائر نعيهن، كم أود أن أسألهن: كيف تتظاهرن مطالبات الغرب بتفهم دفاعكن عن اسامة بن لادن وهو الذي سيحرمكن حتى من الحق في التظاهر، بل إنكن اول من سيشنقن ان خرجتن من بيوتكن مجرد خروج، فكيف بالمجاهرة امام الملأ وأنتن نساء؟ ألا تعلمن إنكن محرومات حتى من إظهار التعاطف مع السجان المسؤول عن حبسكن في المنازل؟ هل تتظاهرن من اجل حقكن في حياة افضل؟ بصراحة اقول ان حقكن في الحياة هو الموت. نودع امي الى مثواها الأخير في البلدة الجنوبية الجميلة حومين التحتا. ونقف عند قبرها في اليوم السابع رجالاً ونساء، هناك من ترتدي الفستان الأسود المخرم المرفوع عند الركبة، ومن تضع الكحل وأحمر الشفاه، ومن تنتعل الكعب العالي. وهؤلاء يختلطن مع المحجبات ومع اللواتي وضعن غطاء الرأس احتراماً لهذه المناسبة فقط. انظر الى صاحبة الخصلات الشقر، وألاحظ ان هناك من ينظر إليها وإذا بي أتذكر شعراً من أغاني نساء البشتون السرية التي تتناقلها الشفاه معبرة عن زفرات العشق والحرمان والألم: سأعبر القرية بوجه حسير وبشعر، متروك للريح. أشعار وأغاني النساء الأفغانيات هي التي تنبهني الى سبب خوف الرجل من المرأة، لماذا يود ان تبقى سجينة؟ لماذا يلفها بأمتار من القماش الآن وقبل الآن، انه لا يرى في المرأة سوى جسدها، لا يجد فيها سوى مرتع لشهوته فقط. فهي لا تحمل روحاً ولا عقلاً. هي كالحلوى في الثلاجة. يخرجها كلما اراد ان يحلي ضرسه، ومع ذلك يقلقه وجودها حتى وهي في الثلاجة. يتساءل، كيف اتفق له وهو صاحب السلطة والنفوذ ان يجد نفسه في الموقف الأضعف، يحتاج الى المرأة ولو لدقائق، يلحق برجليه الذاهبتين حيث يميل القلب، حيث تميل الشهوة إليها، عندها يتأكد انها في الموقف الأقوى ولو لدقائق لربما سبقه آخر، عليه ان ينتقم، يتحكم بها بأدق تفاصيل امورها وحياتها. ماذا يفعل... أوه كم يتمنى لو أنها تمحى من الوجود، فيرتاح، لكن كيف وهي تلد البنين والبنات لو أنها تمحى من الوجود، يحاول إزالتها كما حاول الكثيرون من قبله. لكنها موجودة بالقوة المطلقة، وجودها كوجود الغرسات التي تحيط بالجذوع، والتي مهما اقتلعت من جذورها تنبت بذورها من جديد لتكمل عرف الطبيعة وحكمها. أسير وإلى جانبي بعض من شباب البلدة الذين وعوا الحرب والذين حاربوا بين صفوف "أمل" و"حزب الله"، والآن هم يبحثون عن اشغال ووظائف. يختلطون مع صاحبات الخصلات الذهبية، والبناطيل الضيقة، يشير احدهم الى طرف المقبرة حيث مقابر الشباب الذين سقطوا برصاص الإسرائيليين في مجزرة "حومين التحتا" عندما دخلت اسرائيل الى البلدة وأخرجتهم من مخابئهم في أسرّة العجائز ومخازن التبن. نسير باتجاه قبور الشباب، شواهد قبورهم تحمل صورهم الفوتوغرافية، كل الجاذبية، كل الرجولة، اعينهم السود الباهرة لا تنذر إنما تبشر بشغب صباهم. وتحت أسمائهم، الاسم يلي الآخر، كأنهم في صف جامعي يعد نفسه للتخرج، مزهريات فيها باقات من ورود اصطناعية، والغبار فوقها دليل الهجر والنسيان. اصبح حضور الشباب في صفوف حزب الله ضرورياً في كفة الميزان حيث الإسرائيليون يتمركزون في الكفة المقابلة في طائرات خارقة للصوت وخلف الأسلاك الشائكة وفي أعين جواسيسها. وجودها في كل مكان، كالوحش الكاسر الذي يطل في اي مكان في اي زمان، يهدد القرية الآمنة، فيخشاه الكبار وتخشاه اشجار الزيتون بينما يشعر الشباب بتحديه، بجبروته فيهبون للاقتصاص منه. انا كاتبة هذه الأسطر، مسالمة الى حد الخنوع وصديقة للمرأة التي فاجأها لص وأخذت تصيح، تصيح وتصيح، لكنها حين رأت الذعر على وجهه سألته المعذرة لأنها أرعبته. لذلك من السهل ان افهم سر البريق في اعين الموتى من الشباب ولا أعتقد انهم هبوا لمحاربة اسرائيل لأنهم يعدون خلف الحوريات. إنهم بكل بساطة أرادوا طرد من جاء يوماً واحتل ارضاً ونكّل بكل من صاح احتجاجاً، فهذا الشاب الوسيم الذي نقلني ونقل اخواتي بسيارته حتى يرينا القرية القديمة ويوقفنا عند بائع "بوظة حومين" الشهيرة، عطلت إسرائيل حاسة سمعه من وطأة الضربات التي تلقاها على رأسه. أقف بعيداً عن النظريات والتحليلات، أفهم وبكل بساطة المعادلة التي تقول: لكل عمل مسبب. إذا جاء من يغزو شقتي طردته، وإذا لم أستطع استعنت بمن حولي، وإذا حاولنا جميعنا طرده من غير فائدة، امتد صياحنا يطلب النجدة من الأمم ومن العدل وإذا لم يستمع الى شكوانا احد: قمنا بتفجير انفسنا. والأم التي جاءت لتودع امي في مثواها الأخير، تشتاق الى ولدها الشهيد، تخر على ضريحه وهم يحاولون نشلها من على الرخام الأبيض، من على الآيات القرآنية المنقوشة باللون الأسود، ولأن المقبرة كانت فوق تلة تحيط بها الأشجار القليلة، والجبال الواقعة حولنا جرداء إلا من بضع بقع خضر هنا وهناك، شعرت كأنني في أفغانستان. أهرب بأطفالي والقنابل تنهمر علينا تحت الفضاء الواسع اللامتناهي وأنا أحاول حماية نفسي. القنابل تمتد الى أوسع رقعة قبل ان تنفجر فوقها. احاول حماية جميعنا متوسلة حتى الى التراب، حتى الى الإسمنت وإذا بما حصل وسوف يحصل لي ولغيري من النساء والأطفال والرجال يجعل واقعي الأليم، أنا الأفغانية التي سجنت لأنني عورة، يتلاشى ويضمحل مع صخب الشظايا التي اخرستني. * روائية لبنانية.