فرنسا هي اكثر الدول الغربية اهتماماً بتطورات الاوضاع في الجزائر، وترقبا لما ستقوم به القيادة الجزائرية لتجاوز الازمة الحادة التي تمر فيها البلاد. وقد تكون فرنسا هي احدى اكثر الدول الغربية اطلاعاً على ما يجري في الجزائر. ومن هذا المنطلق التقت "الوسط" مسؤولاً رسمياً فرنسياً يتابع عن كثب تطورات الوضع الجزائري وحصلت منه على معلومات خاصة وافق المسؤول على نشرها شرط عدم ذكر اسمه وتحديد الوظيفة التي يشغلها في الحكومة الفرنسية. وقد سألنا المصدر الرسمي الفرنسي في البداية عن صحة الاخبار التي تتحدث عن خلافات عميقة بين الرئيس محمد بوضياف ورئيس الحكومة سيد احمد غزالي. وأكد هذا المصدر وجود هذه الخلافات بين رئيس المجلس الاعلى للدولة وغزالي. وعندما سألناه عن اسباب الخلافات وعما اذا كان رئيس الحكومة سيترك منصبه في الاسابيع المقبلة فضّل ان يتناول مجمل الملف الجزائري من الزاوية التي تتعامل بها فرنسا مع هذا الموضوع. يقول المصدر الفرنسي ان تعامل باريس مع الحالة الجزائرية يلجمه الكثير من التحفظ بسبب نوعية وخصوصية العلاقة بين الطرفين التي تضرب جذورها في التاريخ وبسبب وجود ما يقارب المليون جزائري في فرنسا. وفي رأيه ان الجزائر حاضرة في قلب الحياة السياسية الفرنسية الى درجة ان احد الوزراء السابقين درج على القول ان مستقبل فرنسا "يرسم في بون ولكن ايضا في الجزائر". غير ان المسؤولين الفرنسيين وان ابدوا الكثير من التحفظ في تصريحاتهم، الا انهم في الواقع ينظرون بكثير من القلقل لما يجري في الجزائر. وما يهم الحكومة الفرنسية، كما يقول المصدر، هو ان تجعل الجزائريين يشعرون، ليس بالنصائح والتصريحات ولكن بالاعمال الملموسة والمحسوسة انها تسعى لمساعدتهم بالفعل، خصوصا في الميدان الاقتصادي. وقد تجلى الحرص الفرنسي اخيراً من خلال وقوف الحكومة الفرنسية وراء مصرف كريدي ليونيه التابع للقطاع العام لإقرار قرض للجزائر بقيمة 5،8 مليار فرنك فرنسي لمساعدتها على تحمل عبء ديونها ولتمكينها على رغم المعارضة الاميركية، من الحصول على قروض اخرى من المجموعة الاقتصادية الاوروبية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ويضيف المصدر الحكومي ان باريس تسعى الى ان تجرّ وراءها، في عملية مساعدة الاقتصاد الجزائري، المجموعة الاقتصادية الاوروبية وحتى الولاياتالمتحدة التي تتشاور مع باريس باستمرار بشأن الجزائر. وعلى رغم ما يقوله المسؤولون الفرنسيون عن التزامهم بمساعدة الجزائر، الا انهم يعترفون، في ندواتهم الخاصة، بأن القلق ينتابهم، بسبب شعورهم بأن المسؤولين في الجزائر وان كانوا يشخّصون المرض بدقة لكنهم لا يدركون ما هو العلاج الناجع، وبكلام أدق، هم لا يعرفون بما يبدأون عملية المعالجة. ويسرد المصدر الفرنسي بعضاً من ملاحظات باريس على ما تم في الجزائر منذ شهور، وخصوصاً منذ الاطاحة بالرئيس السابق بن جديد. فالخطة الاقتصادية غير واضحة والتصور السائد ان اعادة تحريك العجلة الاقتصادية في الجزائر يمكن ان تتم عبر القطاع العام "فيه نوع من المخاطرة لأنه يتضمن شحنة قوية من الاوهام". ولأن الاصلاح الاقتصادي يتأخر في الظهور، ولأن عملية الاصلاح، اي الانتقال من الاقتصاد الموجه الى اقتصاد السوق، تتخبط في متاهات لا تخرج منها، فان قلق باريس يزداد خصوصاً انها ليست مقتنعة بالتحليل الذي يقول ان الجزائر بحاجة فقط الى الاموال والقروض حتى تبدأ بالخروج من ازمتها. من هنا، يضيف المصدر، ان باريس "تنتظر وتستعلم وتراقب وتسأل حتى تظهر لها حقيقة الخطة الجزائرية وطبيعة ما يطلبه الجزائريون منها وما يقررون فعله". ويشدد المصدر الفرنسي على ان باريس تعتبر ان الجزائر تمتلك الكثير من المصادر والامكانيات والاوراق الرابحة التي يمكن توظيفها. لكنه يلاحظ ان النجاح يفترض نوعاً من "الثورة الذهنية". والمشكلة ان باريس لا تعرف بعد من بوسعه ان يحدث مثل هذه "الثورة الذهنية" وان يعمد الى اجراء "قطيعة مع الماضي" القريب جداً والأبعد وان يمنح الجزائريين الأمل ويطرح مشروعاً متكاملاً يتحقق حوله نوع من الاجماع الوطني. والأمل في رأيه ليس فقط اقتصادياً بخفض نسبة البطالة واعادة اطلاق مسيرة الاقتصاد ورفع المستوى المعيشي وتخفيف معاناة الناس، بل يفترض ان يتم رسم قواعد اللعبة السياسية الديموقراطية والخروج من دوامة العنف بكل اشكاله والانقطاع عن عقلية الحزب الواحد وعن الممارسات التي ترافقها وادخال "جديد ما" في حياة الشعب الجزائري. من يمكنه أن يجسّد هذا الأمل؟ يقول المصدر الفرنسي ان "الرئيس بوضياف شخصية تاريخية تتسم بالنقاوة الثورية وتستمد قوتها من مشاركتها في حرب الاستقلال". ولكن، يتساءل المصدر، "اذا كانت هذه الخصال مطلوبة وضرورية فهل هي كافية لاعطاء الأمل للعاطل عن العمل والذي يرى ان الافق مسدود امامه؟" وبعد ان يعترف المصدر بأن بوضياف غير معروف في باريس "لحداثة وصوله الى السلطة"، يذكر بأن المسؤولين الفرنسيين تعاملوا مع رئيس الحكومة سيد احمد غزالي منذ فترة طويلة ايام كان ممثلاً لبلاده لدى المجموعة الاقتصادية الاوروبية وكذلك ايام اشرافه على القطاع النفطي، ولاحقاً عندما شغل منصب وزير الخارجية. وفي رأي المصدر الفرنسي ان باريس وان كانت تثق بغزالي، الا انها تطرح بعض علامات الاستفهام حول طبيعة خطته الاقتصادية وحول التدابير العملية التي ينوي المسؤولون الجزائريون البدء بتنفيذها. ويتساءل المصدر: "اين اصبحت مشاريع الانتقال ببعض مؤسسات القطاع العام الى القطاع الخاص؟ الى اين آلت مشاريع تخصيص او بيع جانب من الصناعة النفطية الجزائرية؟ ما هي التدابير المتخذة للخروج من الكساد الاقتصادي وتأمين حاجة الاسواق من السلع، الى ما ذلك من تدابير ملحة للتخفيف من وطأة معاناة الناس؟". وفي رأي المصدر الفرنسي ان اللعبة السياسية الداخلية قد تكون مسؤولة عن الشلل الذي يضرب الادارة الجزائرية ومسؤولة ايضا عن الخلافات بين بوضياف وغزالي. وفي رأيه كذلك ان الاقتصاد لا ينتعش الا بالتوظيف والاستثمار، الداخلي والخارجي. غير ان الاستثمار يحتاج الى استقرار، والاستقرار لا يمكن ان يكون الا سياسياً. وهنا تبرز مجموعة اخرى من التساؤلات التي يطرحها المصدر الفرنسي حول الدستور وحول الحد الادنى من ضرورة الاجماع على شروط الحياة السياسية وكيفية ممارستها والتعامل معها، بما من شأنه ان ينزع فتيل هذه القنبلة المتفجرة. وهذه العبارة الاخيرة تعني، في اللغة غير الديبلوماسية، ان المسؤولين الفرنسيين يطرحون اسئلة حول مستقبل العملية الديموقراطية والانتخابية في الجزائر التي توقفت بالغاء الانتخابات وباستقالة الرئيس الشاذلي بن جديد وبحلّ الجبهة الاسلامية للانقاذ واعتقال الآلاف من اعضائها. لكن هذه التحفظات الفرنسية لا تمنع من قيام علاقات جيدة مع الجزائر. ويؤكد المصدر الفرنسي ان باريس تريد ان توصل للسلطات الجزائرية رسالة مفادها ان "بامكان الجزائر الاعتماد على فرنسا لمساعدتها على الخروج من ازمتها. لكن على الجزائر اولاً ان تقول لفرنسا ماذا تريد منها". فالحكومة الفرنسية لا تريد ان تحلّ محل السلطات الجزائرية ولا ان تنوب عنها في اتخاذ القرار. وحتى الآن اكتفت فرنسا بالمراقبة والاستماع والتوسط لدى المؤسسات المالية الدولية ولدى المجموعة الاقتصادية الاوروبية عندما يطلب منها ذلك. لكن فرنسا، وفق المصدر الحكومي، لا تمتلك حتى الآن إلا الاسئلة التي تطرحها وعلامات الاستفهام التي ترسمها، وهي تنتظر من المسؤولين الجزائريين ان "يحسموا امرهم وان يعرضوا خطتهم" لمعالجة الاوضاع في بلادهم. وفي رأي المسؤول الفرنسي انه من الضروري الاقدام، إن في الميدان الدستوري والسياسي او في الميدان الاقتصادي والاجتماعي. فاهتراء الوضع خطير وعامل الزمن مهم جداً.