الحياة بالنسبة للبريطانية بيغي فوليس هي سلسلة لا تنتهي من التحديات، ما ان نقهر واحداً حتى علينا ان نتقدم لمواجهة الآخر، ولهذا حققت هذه العجوز "الشابة"، والتي تبلغ الثامنة والسبعين من العمر، انجازاً ادخلها الى صفحات كتاب غينيس للارقام القياسية، ويبدو انها ضمنت مكانها فيه لاعوام مقبلة عدة. فما هي قصة هذه المرأة وما هي انجازاتها؟ ببساطة ان بيغي انسانة عادية استطاعت في عمر غير عادي ان تحقق حلما طالما راودها، وهو ان تقود طائرة وتطير بها الى اجواء الفضاء! ولكن القصة على بساطتها غريبة، ومثيرة، وتبعث الحماسة في النفوس بمجرد ان تتكشف تفاصيلها. وليس هناك افضل من بطلة القصة نفسها لتروي لنا حكايتها مع الطيران، لهذا توجهنا للقائها. أعيش للتكنولوجيا تعيش بيغي فوليس في شقة متوسطة الحجم في حي "كامدن تاون" في وسط لندن. ولأول وهلة يشعر زائرها انه يلتقي شخصية غير عادية، فبرشاقة الشباب تفتح الباب مرحبة محيية، وبمرح وحبور ابنة العشرين تستقبلك. بخفة تقودك الى غرفة الاستقبال لتلمس بنفسك ان بيغي التي تكاد ان تقارب الثمانين، لا تخاف من التطور والتقدم، فالغرفة المستطيلة تحفل بكل ما هو جديد ومفيد في عصر وسائل الاتصال. في احد الاركان تلمح جهاز الكومبيوتر، وتعتذر بيغي بسرعة انها كانت تنشغل قبل قليل بترتيب شؤون حساباتها مع الضرائب! في ركن آخر صفّت بعناية آلات التسجيل والاستماع العصرية من احدث طراز، وفي ادراج مبوّبة ومرقمة توجد الصور وشرائح "السلايدات"، وتشرح مرة اخرى في شبه اعتذار انها تحتاج كل هذه التكنولوجيا لتتابع عملها كصحافية تكتب في الشؤون الطبية ورعاية الاسرة. يرن الهاتف، وترد مضيفتك ثم تعتذر بلباقة منك لاستقبال هذه المكالمة الهامة من رئيس تحرير مجلة "نوفوم" الفصلية، والتي تكتب لها وهي مجلة تعنى بشؤون تنظيم الاسرة. ومن الحوار يتضح مرة اخرى ان هذه العجوز بمقاييس البشر العاديين ليست سوى امرأة خارقة. حتى ملابس "بيغي" مريحة وعملية، حذاؤها لا كعب له ويشبه حذاء الطالبات، وماتحرص على ارتدائه دائما، هو ابتسامتها التي لا تفارقها، على الطريقة الانكليزية بالطبع! بعد قليل تشعر أنك تريد ان تسألها لماذا؟ لماذا كل هذه الحماسة في التعامل مع الحياة؟ ومن اين تأتي بهذه الطاقة المتجددة؟ تضحك وتجيب: ولمَ لا؟ ألست معي في ان العمر ليس سوى رحلة قصيرة تمضي كالحلم، علينا اذن ان نحاول تحقيق كل احلامنا في هذه الرحلة. اقاطعها: مثل حلمك بالطيران؟ تهز رأسها بالايجاب وتقول: "نعم مثل حلمي بالطيران، ولكن هذا ليس الحلم الوحيد الذي تحقق، بل لدي احلام وأفكار بمغامرات اخرى مثل تسلق الجبال والسير لمسافات طويلة، ولكن دعيني احدثك عن الطيران اولا". حكاية العمر كله "كنت احلم بالطيران منذ وعيت، وأذكر اني كنت اهوى مراقبة الطيور وأنا صغيرة واحسدها لقدرتها على التحليق في اجواء الفضاء. وفي ايام الحرب العالمية الثانية، وكنت شابة في مقتبل العمر، تطوعت للخدمة العسكرية مثل الالوف غيري، ومن حسن حظي اني عملت في مجال الطيران فكنت اساعد الفريق المختص بالذات بمحركات الطائرة، وهكذا عملت وتعرفت على هيكل وكيفية تشغيل كثير من طائرات تلك الفترة. وأذكر ان من متطلبات العمل آنذاك، كان ان اوقع على الاوراق الرسمية بأنني ضمن المجموعة المختصة بصيانة الطائرة قد فعلت كل ما في وسعي لصيانتها، وبالتالي، كنا نأخذ الطائرة في رحلة قصيرة لتجربتها. لكن النساء لم يكن يسمح لهن بقيادة الطائرة آنذاك. وانتهت الحرب وبقي الحلم كامناً في داخلي دون ان استطيع تحقيقه". وما الذي جعلك تفكرين بعد كل هذه السنوات في تحقيق امنيتك في الطيران؟ - "الواقع انني انشغلت بعد الحرب بأسرتي وتربية طفلين، وكنت اعمل ايضا في وظيفة كاتبة بالشؤون الطبية وتنظيم الاسرة مما لم يترك لي اي فرصة للتفكير في تعلم الطيران، ومضى العمر بسرعة، وكبر اطفالي واستقلوا بحياتهم وتقاعدت من الوظيفة الدائمة، فوجدت ان لدي بعض المال والوقت وأردت استثمار الاثنين في ما يرضيني ويحقق ذاتي، وهكذا قررت العودة الى حبي الاول الطيران وتعلمه على اصوله! ولكن كان وراء هذا القرار حكاية اخرى… هل تودين معرفتها؟". أطير أو لا أطير؟ وتمضي "بيغي فوليس" في حديثها من حكاية الى اخرى، وكل حكاياتها مسلية ومثيرة! وتذكر سبب اتخاذ القرار فتقول انها كانت تحضر امسية ثقافية فرنسية قبل حوالى العامين، وفيها استمعت الى محاضرة للكاتب الفرنسي سانت اكسوبري حول الطيران، وعن التحديات الاخرى في الحياة، وقد اثارت بيغي في نهاية المحاضرة موضوع قبول المغامرة في حياة البشر. وبعد النقاش وتبادل وجهات النظر عرفت انها تريد ان تغامر في سنها هذا بتعلم الطيران. وأسألها هل وقف التقدم في السن عائقا امام التحاقها بمدرسة تعلم الطيران؟ فتجيب ضاحكة: - "لم يكن عمري عائقا، ولكنه كان مثار دهشة. فعندما ملأت اوراق طلب العضوية في النادي الذي اتعلم به، لم يصدق احد ان عمري ثمانية وسبعون عاما، ولكنهم لم يقفوا في طريق تحقيق رغبتي واشترطوا فقط اجتيازي للكشف الطبي، وقد اجتزته بنجاح، وعليّ ان اعيد الكشف كل ستة اشهر نظرا لسني المتقدم، بينما الاشخاص الآخرون لنقل من فئة الاربعين عاما لا يعيدون الكشف الطبي الا كل عامين". وسألتها عن طبيعة هذا الكشف؟ وما هي الاسباب الطبية التي يمكن ان تعوق اي شخص عن قيادة الطائرات، فقالت: - "هناك اسباب عديدة، منها مثلا ضعف النظر او امراض القلب او اي امراض اخرى تجبر الشخص على تناول ادوية لها بصفة شبه مستمرة. وعادة ما يطلب من راغبي قيادة الطائرات ابلاغ المسؤولين في نادي الطيران عن اي تغير لحالتهم الصحية على الفور". وما هي اجراءات التسجيل في النادي؟ - اجراءات سهلة، ولكنها حازمة في الوقت نفسه. في البداية يطلب من المتقدم ان يطير على سبيل التجربة لمدة نصف ساعة، وفي هذه الآونة يسمح له بأن يقود الطائرة تحت اشراف مدرب، ويصعد ويهبط بها ويديرها شمالا ويميناً وما الى ذلك. وبعد هذه الرحلة القصيرة يمكن للشخص ان يحدد تماما ما الذي يريد عمله، ويمكنه الانسحاب كلية، اما اذا قرر المضي قدماً، عندئذ يبدأ في تلقي دروس قيادة الطائرة. وكم عدد الساعات التي يقضيها الشخص قبل ان يسمح له الطيران بمفرده؟ - عادة لا تقل عن اربعين ساعة طيران، وفيها يتعلم الشخص كل الاساسيات اللازمة للطيران، ومع هذه الناحية العملية، عليه ايضا درس الجانب النظري وهو قوانين ونظم الطيران المدني، فمثلا لا يمكنني اثناء قيادة الطائرة وفي مناطق معينة من بريطانيا ان اصعد الى اي ارتفاع خشية الاصطدام بالطائرات المدنية، وهكذا فهناك دائماً حدود لا يجب ان نتعداها. ولو سألتك عن اصعب ما وجدتيه في قيادة الطائرة وتعلم هذا الفن، ماذا تقولين؟ - الجانب النظري لم يكن صعبا نظراً لأنني كنت اتذكر كل المعلومات بشتى الطرق، عن طريق قراءة الكتب او سماع الكاسيت او مشاهدة اشرطة الفيديو الخاصة بتعليم قيادة الطائرات، ولكن في التطبيق العملي كنت اجد صعوبة في ادارة الطائرة كما اريد، خاصة وان هناك ثلاثة ابعاد للقيادة بعكس قيادة السيارة. وهل انت سائقة ماهرة للسيارات؟ - منذ ثلاثين عاما وانا اقود السيارة ولكني وجدت قيادة الطائرة اصعب نظراً لأن التحكم فيها ليس بالاتجاه يميناً ويسارا فقط، ولكن ايضاً في الصعود او الهبوط، وتمارين التدريب نفسها صعبة لأنها يفترض ان تعلمنا كيف نتصرف في حالات الطوارئ. والجدير بالذكر ان قيادة الطائرة ليست مجرد تعلم القيادة فقط، بل انها مجموعة متشابكة من العلوم، فالى جانب القيادة ينبغي تعلم القوانين كما ذكرت، ثم تعلم كيفية تغيير الاتجاه اثناء الطيران والتوجه الى مكان بدلا من مكان آخر، هناك ايضا علم الاتصالات حتى يظل قائد الطائرة على اتصال بالعالم من حوله ولكي لا يصاب بمكروه دون ان يشعر احد. علينا ايضا تعلم بعض الشيء عن الجو والطقس واستطلاع هذه الامور الهامة لنا في قيادة الطائرة، واخيرا وليس آخراً يجب معرفة تركيب ومكونات الطائرة التي يقودها الانسان، وهذا يدخل في نطاق هندسة الطيران بالطبع. بعد كل هذا يحصل المرء على رخصة القيادة. وطلبت من السيدة فوليس ان تحدثني عن دخولها الى عالم الارقام القياسية من خلال كتاب غينيس فقالت: - "لم يكن لي اي دخل في الاتصال بالمشرفين على هذا الكتاب، انما قامت احدى صديقاتي العزيزات بالاتصال بهم واخبرتهم قصتي مع الطيران وأنني قمت فعلا بالطيران بمفردي، وجاء الرد سريعا الي بضرورة تزويد الهيئة المشرفة على الكتاب بالمعلومات اللازمة. وارسلوا لي شهادة اعتراف بطيراني في هذا العمر المتقدم اعتز بها وأضعها في مكان الصدارة في بيتي. الطريف ان الانجاز الذي حققته لن يخرج الى النور الا في طبعة عام 1993 من كتاب غينيس السنوي للارقام وعليكم خير.. والسبب انهم يعدون الكتاب للنشر قبل طبعه الفعلي بعامين. وهل تتوقعين ان يقوم شخص بتحطيم الرقم القياسي الذي حققتيه بقيادة طائرة في هذا العمر المتقدم؟ تضحك "بيغي" وهي تجيب: "لا اظن، فتعلم قيادة الطائرات على كبر كان امراً صعبا ولا يرجع الامر للمثل القائل "العلم في الصغر كالنقش على الحجر" فقط، ولكن الثابت علميا ان الانسان كلما تقدم في العمر، قلت قدرته على استخدام غريزة التوافق العضلي، اي استخدام كل حواسه واطرافه في التحكم في قيادة شيء ما، ناهيك عن انني محظوظة بصحتي الممتازة والتي يرجع السبب فيها الى ممارستي المستمرة للرياضة والانشطة المختلفة خارج البيت. أحلام اخرى والآن وبعدما حققت بيغي فوليس حلم الطفولة وقادت الطائرة، وحطمت الرقم القياسي في العالم بصفتها اكبر شخص سنا يتعلم ويقود الطائرة في هذا العمر، هل ما تزال امامها احلام اخرى لتحققها؟ هل تطمح في ان تحطم رقما قياسيا آخر؟ قالت وفي عينيها بريق ينم عن الاصرار انها لا ترغب في تحطيم رقم قياسي معين، ولكنها تتمنى لو استطاعت ان تتعلم القيام بالاستعراضات البهلوانية في الهواء بالطائرة. وتتمنى كذلك ان تزيد من خبرتها في قيادة انواع اخرى من الطائرات ذات المحركين حيث ان رخصتها تقتصر حاليا على قيادة الطائرة ذات المحرك الواحد. هذا بالنسبة للطيران، ولكن جعبة بيغي تحفل بأمان كثيرة.. فهي من هواة السير في الاماكن المرتفعة وتسلق الجبال. سألتها ان تحدثني عن هذه الهواية، وكيف بدأت فقالت: - "بدأت من حبي للترحال والسفر، فقد كنت اذهب مع اسرتي عندما كان اطفالي صغاراً لزيارة دول اوروبا المختلفة، وكنا نعيش في مخيمات السياحة ونقضي وقتا ممتعا، ثم كبر اولادي، ولم يستطع زوجي على ما اظن ان يتابع خطاي المتلاحقة في الحياة، ورغبتي المستمرة في المغامرة فاختلفنا وانفصلنا، وحدث ان ورث ابنائي حب السفر والمغامرة مني، فقاما بالسفر الى تايلاند وهناك تسلقا الجبال، وحكيا لي عن هذه التجربة بعد عودتهما، فقررت ان اذهب لأجرب بنفسي، وبالفعل سافرت الى بانكوك ومن هناك توجهت الى الجبال والمرتفعات في شمال تايلاند حيث قمت بتسلق الجبال والسير على المرتفعات. وكانت تجربة لا مثيل لها فقررت تكرارها وذهبت مرة اخرى مع احدى صديقاتي. وامنيتي الآن ان اسافر الى نيبال لتسلق الجبال والمرتفعات هناك، ولكن ينبغي ان اتأكد من طبيبي اولا ان صحتي تتحمل ضغط الهواء في جبال نيبال المرتفعة. وما هو اغرب شيء حدث لك في مغامراتك هذه بالسير على المرتفعات وتسلق الجبال؟ - لن يصدق احد، ولكني غامرت بركوب الفيل ذات مرة، ووجدتها تجربة مزعجة لا اعتقد انني سأكررها مرة اخرى. فعلى رغم كل مطبات الهواء التي تمر بها الطائرة، اعتقد ان ركوب الفيل هو اصعب ما غامرت به في حياتي، لقد اصابني بالدوار والغثيان وهو يترنح يمنة ويسرة بجسمه الضخم وخرطومه الطويل..! وهل هناك مغامرة اخرى لم تقومي بها وتندمين لفوات الاوان عليها؟ تجيب بلهفة: "نعم، كنت اتمنى لو استطيع القفز بالمظلة من الطائرة، ولكني لم افعل، وغير مسموح لي القيام بهذه المغامرة الآن للاسف، لذلك دائما ما انصح غيري بانتهاز الفرصة في حينها، لأنها لو ضاعت لن تتكرر". وفي ختام اللقاء لم استطع تجنب سؤال عن معنى العمر بالنسبة لها فقالت بعد فترة من التفكير: "لا ينبغي ان نشغل انفسنا كثيرا بالسنين، الافضل ان نحيا هذه السنوات حريصين على صحتنا، نمارس رياضة محببة، ونأكل باعتدال، ونأخذ قسطا عادلا من النوم، كل هذا يساعدني على ان ابحر في الزمان بيسر، ولا ارى سببا يمنع غيري من الشيء نفسه، وأعود بكم الى المقولة القديمة جداً "الشباب شباب القلب"، وصدقوني انها مقولة صادقة مئة في المئة. والدليل امامكم متمثلا بيّ..