في الربيع المقبل، يعرض على الشاشات الكبيرة فيلم كاترين دونوف الجديد "الهند الصينية" الذي تعود به سيدة الشاشة الفرنسية الى لعب الادوار الكبرى المعقدة حيث تمثل كما العادة لغزا يستعصي على الحل، ويبرز من خلال ارستقراطية وجهها التي تتناقض مع عواطفها المتأججة، وبراءة نظراتها. هنا محاولة للاطلال على هذه الشخصية السينمائية المميزة. عمرها السينمائي اليوم خمسة وثلاثون عاما، ورصيد حياتها الفنية اكثر من ستين فيلما. وهي، بهذا، تشكل ظاهرة فريدة في تاريخ السينما العالمية، اذ ندر، ولا سيما في النصف الثاني من القرن العشرين، بعدما ولى عصر النجوم الذهبي الهوليوودي، ان استمرت ممثلة كبيرة في عملها اكثر من ثلاثة عقود من السنين. ومع هذا، فان كاترين دونوف نفسها تكاد لا تصدق ان السنين مرت بهذه السرعة. خمسة وثلاثون عاما وما زالت في القمة... ما زالت في أوج عطائها، سيدة كبيرة من سيدات الشاشة العالمية، وسيدة الشاشة الفرنسية من دون منازع. صارت كاترين جزءا من تاريخ السينما، لكن هذا الواقع لا يلوح ابدا على ملامح وجهها الارستقراطي النبيل، ولا في نظرات عينيها اللتين تجمعان البراءة الشديدة مع الذكاء المدهش، ولا حتى في حركات يديها التي تبدو كحركات صبية مراهقة حسنة التربية لكنها عاجزة دائما عن معرفة ماذا تريد حقا. والمدهش اكثر من هذا كله ان كاترين دونوف تبدو دائما وكأنها طازجة تبدأ في كل مرة من جديد. هذا ما اكده دائما اولئك الذين يحبونها والذين يتابعون افلامها... وما اكده، اخيرا، اولئك الذين قيض لهم ان يتابعوا تصوير فيلمها الجديد "الهند الصينية" الذي صور بين ماليزياوفيتنام وسويسرا، وكلف اكثر من اي فيلم فرنسي حتى الآن: مئة وعشرين مليون فرنك 23 مليون دولار، اي ما يعادل كلفة اي فيلم اميركي كبير. فهؤلاء حتى وان لم يثر الفيلم نفسه حماسهم، فانهم ابدوا دهشتهم امام قدرات كاترين دونوف الفنية الرائعة وقدرتها على تقمص شخصيتها في الفيلم. ولكن هل كانت كاترين دونوف على غير هذا النحو في اي من افلامها السابقة، سواء اعملت مع مخرج كبير من طراز فرانسوا تروفو او رومان بولانسكي او جاك ديمي، ام مع عشرات المخرجين الصغار او الجدد الذين عرفت دائما كيف تعطيهم فرصتهم؟! اللعب مع الكبار كاترين دونوف هي اليوم في التاسعة والاربعين من عمرها.. وهي لئن كانت عرفت كيف تتربع على القمة طوال سنوات عديدة، فما هذا الا لأنها - قبل ان تكون امرأة في غاية الجمال - كانت ولا تزال فنانة يجري الفن وحب الفن في عروقها: فأبوها من قبلها كان ممثلا، وكانت امها ممثلة.. وكذلك شقيقتها فرانسواز دورلياك التي لا يزال من الصعب على هواة السينما نسيانها رغم انقضاء اكثر من 02 عاما على رحيلها. اذن، الفن متأصل في حياة كاترين دونوف وفي شرايينها وفي هذا ما ينفي ما يقوله البعض عن برودها، وعن ان جمالها هو الذي يدفع المخرجين الى التعامل معها. هذا الكلام قد ينطبق على بعض المخرجين الذين يصرون على الاكتفاء برسم شخصيتها انطلاقا من ملامحها الخارجية: الشقراء - البيضاء - الباردة - ذات السحنة الارستقراطية، مشبهينها في هذا بغريس كيلي، وبمعظم النساء اللواتي فتن بهن الفريد هيتشكوك، لكنه، اي هذا الكلام، لا ينطبق ابدا على اولئك المخرجين الكبار الذين عرفوا دائما كيف يحركونها ويطلعون منها بأفضل ما يمكنها ان تعطي كما فعل بولانسكي في الدور الرائع الذي اعطاه لها في فيلمه الانكليزي "نفور"، او جاك ديمي في "مظلات شربورغ" او في الفيلم الجميل الذي اخرجه ومثلت فيه كاترين مع شقيقتها فرانسواز دورلياك... ولكن خاصة، كما فعل سيد السينما الاسبانية لويس بونييل الذي ادارها في اجمل فيلمين مثلتهما: "حسناء النهار" 1968 و"تريسنانا" 1970.. ثم فرانسوا تروفو الذي كانت افلامها معه انجح افلامه، من "حسناء الميسيسيبي" الى "المترو الاخير"…. على مدى هذه الافلام وفي غيرها، مثلت كاترين دونوف شتى انواع الادوار، وهي تقول اليوم انها على اي حال احبت معظم الادوار التي مثلتها حتى ولو كانت في افلام ثانوية الاهمية... واذا سئلت عما اذا كانت تحس بنوع من الخوف حين يخلط الناس بين شخصيتها وبين الادوار التي تلعبها تقول كاترين: "الامر عندي سيان… فهذا واحد من الامور التي عمدت الى تسويتها منذ زمن بعيد. وهي مسألة تقع في الصراع الداخلي، بيني وبين نفسي، فان لم يكن الامر على هذا النحو ستكون هناك امور كثيرة يتوقف المرء عن فعلها. ان هناك، كما تعلمون ادواراً لا يمكن للفنان ان يقبل القيام بها... لأنها تبدو غليظة وغير متواكبة مع مسار شخصيته. ولكن، مع هذا، قد يتعين على الممثل ان يقبل في دور من الادوار بأن يبدو غليظا في لحظة او في اخرى، خاصة اذا كان هذا الامر هاما بالنسبة الى الفيلم، والى الشخصية التي يلعبها في الفيلم". وكذلك ترفض كاترين دونوف تدخل الصحافة في حياتها الشخصية: "ان شخصيتي كممثلة هي كل ما ستحصلون عليه.. اما حياتي الخاصة فملكي وحدي.. وهي مملكتي التي فيها احب ان اكون انانية الى ابعد حدود الانانية" تقول كاترين، وتضيف: "حتى حين كنت رفيقة لروجيه فاديم.. كنت ابذل كل ما في وسعي لكي ابقى وعلاقتي معه خارج اطار الهمس الصحافي تضحك مع ان ذلك كان مستحيلا". فمن المعروف ان روجيه فاديم كان زير نساء حقيقي في السينما الفرنسية، وتنقل بين اجمل فاتناتها من بريجيت باردو الى آنيت فاديم الى جين فوندا... الى كاترين دونوف. ومع هذا كانت علاقته بكاترين اقل علاقاته صخباً واثارة للفضائح. ويرتبط هذا الامر، بالطبع، بشخصية كاترين نفسها... الشخصية المتكتمة المكونة من حول نفسها حواجز وسوائر من الصعب اختراقها. وهذا ما دفع الصحافيين الى اعتبارها سيدة محافظة، بكل ما تعنيه هذه الصفة، بما في ذلك محافظتها على شكلها وتسريحة شعرها ونوع اناقتها هي زبونة دائمة ورفيقة دائمة للمصمم المشهور ايف سان لوران، بل ونوع الماكياج الذي تضعه على وجهها. كل هذا لم يتغير، لا في الحياة... ولا في السينما... الا حيث كان الدور يقتضي ذلك. والدور في فيلمها الجديد "الهند الصينية" الذي سيبدأ عرضه في نيسان ابريل المقبل، تسبب في مثل هذا التغيير: فهي اليوم اصبحت اكثر نحولاً مما كانت في السنوات الاخيرة، وقصرت شعرها وابدلت من كحل عينيها. لماذا؟ تقول كاترين مجيبة: - "حين مثلت الفيلم السابق "الملكة البيضاء" رغبت في ان تكون شخصيتي ممتلئة بعض الشيء، شخصية امرأة انجبت ثلاثة اطفال... ولم اكن ارغب في ان العب دور سيدة معقدة المظهر.. اما اليوم فلقد رغبت في "الهند الصينية" ان ابدو اشبه بسيدة انكليزية، مني بسيدة ايطالية. وجدت ان من الافضل ان اكون نحيلة". ويبدو واضحاً هنا مدى تأثر كاترين دونوف بالدور الذي لعبته ميريل ستريب في فيلم "خارج افريقيا" قبل سنوات انطلاقاً من حكاية حياة الكاتبة الدانمركية / الانكليزية كارين بلكسن... ومن الواضح ايضاً انه اذا كانت كاترين وافقت على تمثيل "الهند الصينية" فما هذا الا لأن في قصة هذا الفيلم ملامح كثيرة من قصة "خارج افريقيا". وهو امر لا تنكره تقول، "وانني كنت قرأت كتابها "خارج افريقيا" في كينيا - حيث تدور احداث الكتاب - يوم كنت اصور فيلم "الافريقي"... والتقيت هناك، بالفعل، باشخاص عرفوا كارين بلكسن... ومنهم خادمها الذي وضع كتاباً عنها. ولقد زرت الاماكن التي عاشت فيها وشاهدت الاماكن التي كتبت فيها... ولكن كان من سوء حظي ان الفيلم صور وكانت ميريل ستريب بطلته" على اي حال، تقول كاترين "آمل ان يكون فيلمي الجديد هذا تعويضاً على امنيتي التي لم تتحقق...". دهشة الاطفال الدائمة عن المخرجين الذين اشتغلت معهم تقول كاترين دونوف انهم كلهم كانوا طيبين ولطيفين جداً معها، ولا سيما الكبار منهم، من بو نييل الى ماركو فيريري "لكن فضلت دائماً العمل مع المخرجين الشبان، الذي كانوا يحققون معي فيلمهم الاول او الثاني... مع هؤلاء احس انني شابة واشعر كما لو انني اشتغل في السينما للمرة الاولى. هذا الشعور جاءني خاصة، اخيراً خلال تصوير "الهند الصينية" مع المخرج الشاب ريجيس فارنييه، الذي لا يزال يخطو اولى خطواته السينمائية كان فيلمه الاول "امرأة حياتي" قد حاز على اكبر جائزة سينمائية فرنسية للعمل الاول في العام 1987، ففي البداية كنت مترددة للعمل في الفيلم، لكني قبلت في النهاية، واصارحكم انني شعرت بسعادة كبيرة خلال العمل، حتى ولو كان الفيلم مليئاً بالمشاهد القاسية والامور المعقدة... ولعل من اكثر الاشياء التي اسعدتني، العمل في فيتنام، هذا البلد الرائع الذي لم اكن اعرفه من قبل". بالنسبة الى كاترين دونوف، اروع ما في هذا الفيلم هو جمال وطيبة الناس الذين التقتهم وعملت معهم في الفيتنام "الفيتناميون شعب جميل، نبيل. وانا لم يكن لدي اي تصور عن هذا البلد، بل كنت اتخيل هانوي مدينة كبيرة عملاقة ذات جادات عريضة، ولكني حينما وصلت اكتشفت مدينة صغيرة ساحرة، تمتلئ ببيوت تنتمي الى سنوات الثلاثين، وبالبحيرات وبالخضرة... لقد شعرت وكأنني في بلد بكر...". هذه الدهشة التي تبديها كاترين دونوف ازاء فيتنام، هي هي الدهشة التي لا تكف عن ابدائها امام كل شيء ساحر وجميل تكتشفه للمرة الاولى، أكان هذا "الشيء" مخرجاً جديداً او ممثلاً شاباً او موضوعاً سينمائياً طريفاً، او بلداً. ودهشتها دائماً هي دهشة الطفلة المسحورة بما حولها...