ما هي استراتيجية وخطط القيادة الحاكمة في الجزائر اليوم لمواجهة الجبهة الاسلامية للانقاذ واخراج البلاد من مشاكلها المتعددة؟ وهل كان ينبغي ترك جبهة الانقاذ تصل الى الحكم ثم "محاسبتها على اعمالها"، أم لا؟ وكيف ينظر الغرب الى تطور الاوضاع في الجزائر؟ هذه التساؤلات تجيب عنها بسمة قضماني درويش في هذا المقال الخاص بپ"الوسط". وبسمة قضماني درويش مسؤولة عن الدراسات والابحاث المتعلقة بمنطقة الشرق الاوسط والعالم العربي والاسلامي في "المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية" وهو احد ابرز مراكز الابحاث في فرنسا. وقد نشرت بسمة قضماني درويش، خلال السنوات القليلة الماضية، كتبا عدة عن الشرق الاوسط كما اعدت مجموعة تقارير تحليلية لوزارة الخارجية الفرنسية، وتعتبر خبيرة بارزة في شؤون المنطقة في فرنسا. ان ما يجري في الجزائر منذ اشهر عدة يستوقفنا نحن العرب المشرقيين والمغاربيين الذين يتطلعون الى اشاعة الديموقراطية في انظمتهم السياسية. نحن الذين، من دون ان يرفضوا الغرب، يسعون الى التميز عنه والى استلهام الديموقراطية، خير ما انتجه هذا الغرب لنمو الفرد وتفتح فكره. نحن الذين يريدون ان يقيموا مع الغرب حواراً مثمراً وخلاّقاً في اطار الاحترام المتبادل لكرامتنا وكرامته على حد سواء. ما يجري في الجزائر يطرح علينا فجأة هذا السؤال: هل نريد الديموقراطية بأي ثمن وقبل كل شيء؟ الجواب نعم. ولكن هل نحن مستعدون في هذه الحالة ان نقبل بأن توصل نتائج الانتخابات الى السلطة حركة ليس الحفاظ على الديموقراطية من اولوياتها، كيلا نقول من نواياها الحقيقية؟ واذا كانت الاجابة عن هذا السؤال اكثر تردداً، فهل في وسعنا ان نصفق للانقلاب الذي اوقف العملية الديموقراطية واعاد العسكريين مجدداً الى الحياة السياسية، علماً ان هؤلاء العسكريين كانوا سبب حرماننا وكابوساً فوق صدورنا منذ ان نالت دول منطقتنا استقلالها؟ وكم من رابطة عربية لحقوق الانسان انشئت لدعم شعوبنا والدفاع عن حقها في حرية التعبير؟ فجأة وصلت الجزائر الى ما كنا نصبو اليه وشرّعت الابواب امام نشر الديموقراطية، مثيرة الرجاء والاهتمام لدى كثير من الشعوب. ان اكثر ما يؤلم، في ما سماه البعض تعطيل انتخابات كانون الثاني يناير بالقوة، هو اثبات ان التحرر المطلق العنان قد ضلّ طريقه، وان العسكريين ما زالوا ضرورة لا غنى عنها في الحياة السياسية. والمأزق ليس سهلاً بكل تأكيد. فنحن لا نعرف جميع الخلفيات لانتخابات كانون الاول ديسمبر 1991 التي ادت الى فوز الجبهة الاسلامية للانقاذ ولأحداث حزيران يونيو التي سبقتها. هل ثمة صفقات سرية بين المحاربين القدماء في السلطة وبعض المسؤولين عن الجبهة الاسلامية للانقاذ ؟ هل حصل تزوير في الانتخابات او مداخلات غير شرعية من قبل الاسلاميين؟ لا يمكننا ان نستبعد هذه الافتراضات مع انها لا تكفي لشرح ابعاد الموجة الاسلامية التي اكتسحت الجزائر. وفضلاً عن ذلك فان اصحاب قرار تعطيل الانتخابات ليسوا عسكريين يتصرفون وحدهم، لكنهم مجموعة يلعب فيها المدنيون دوراً بارزاً بقيادة رئيس الوزراء سيد احمد غزالي وهو رجل يتمتع باحترام كبير نظراً الى كفاءاته كاداري ولاهتمامه بتحديث بلاده سياسياً واقتصادياً. ولما كان خيار نشر الديموقراطية في الجزائر اتخذ طوعاً، فان قرار العودة الى الوراء لا يمكن الا ان يكون عنيفاً، وهو من دون شك بمثابة اقرار بالفشل اذ يعني الاعتراف بان الاستراتيجية السياسية التي تمّ اختيارها بعد اضطرابات تشرين الاول اكتوبر 1988 كانت خطأ. وهذا المنحى في الاوضاع الجزائرية يوفر لأنظمة اخرى في المنطقة العربية وخارجها المبرر غير المنتظر لتأخير عملية التحرر السياسي بل وللتخلي عنها بكل بساطة. ولو ان الجزائر نجحت في تحولها السريع الى الديموقراطية، لكانت اثارت قلق وانزعاج عدد من الدول ولكان الاسلاميون فيهااهتدوا الى وسائل جديدة لتشجيع اخوانهم التونسيين والمغاربة، وحتى المصريين والاردنيين، على المضي في الطريق نفسه. لكن فشل الجبهة الاسلامية للانقاذ في تحقيق اهدافها - ولو موقتاً على الاقل - يريح هذه الدول القلقة كما يدفعها الى ضبط القوى الاسلامية النشطة فيها والمعادية لانظمتها، وايضاً الى تعطيل الديموقراطية، هذه اللعبة الخطرة في نظر عدد من المسؤولين. استراتيجية على مرحلتين لكن كيف يتصرف اهل الحكم في الجزائر الآن؟ القيادة الحاكمة في هذا البلد تبنت استراتيجية تنوي ان تضعها موضع التنفيذ خلال المهلة التي منحتها لنفسها قبل اعادة العملية الديموقراطية الى مجراها الطبيعي. وهذه الاستراتيجية تنفذ على مرحلتين: في المرحلة الاولى وعلى المدى القصير جاء رد الحكم الجزائري على الجبهة الاسلامية ونشاطاتها عسكرياً وبوليسياً وهو اتخذ - ويتخذ حالياً - شكل نشر دوريات من الجيش لضبط الامن، واعتقال عدد من المسؤولين في جبهة الانقاذ، وفرض رقابة مشددة على المساجد والاماكن المختلفة التي يلتقي فيها أنصار ومؤيدو الجبهة. لكن الرد جاء، ايضاً، سياسياً. اذ ان الاستقالة التي فرضت على الرئيس الشاذلي بن جديد ادت الى الاطاحة برأس النظام بعدما اصبح هدفاً للنقمة الشعبية. في المرحلة الثانية، وعلى المدى الطويل، تنوي القيادة الحاكمة في الجزائر تنفيذ برنامج للاصلاحات الاقتصادية من شأنه ان يعالج جذور المشاكل التي تعاني منها الجزائر، وذلك عن طريق القضاء على اسباب الحرمان التي جعلت الجزائريين يصوتون لجبهة الانقاذ. هذا الرهان، كما يبدو، محفوف بالمخاطر. فمن جهة قد يجرف الرد العسكري السلطة في تيار القمع والعنف، ومن جهة ثانية لن تظهر نتائج ملموسة للرد الاقتصادي الا على المدى الطويل. ان الاستحقاقات الاقتصادية لا يمكن ان تتكيف مع الاستحقاقات السياسية لانها بالضرورة ذات مدى اقصر، والضغط الذي يرافق العمل في مناخ سياسي واجتماعي متوتر يقلل دائماً من فرص نجاح الاصلاح الاقتصادي. ماذا جرى بين الجبهة وبن جديد؟ واضافة الى هذا الرهان غير المضمون، فان نقطة الضعف الكبرى لدى الذين قاموا بهذا الانقلاب هي اختيار التوقيت. فهم بتدخلهم بعد الجولة الاولى من الانتخابات التشريعية للحيلولة دون اجراء الجولة الثانية، حاكموا جبهة الانقاد الاسلامية "على نواياها" بدل الانتظار وضبطها "بالجرم المشهود" لنيلها من الديموقراطية ومعاقبتها حينذاك. ولذا يتوجب عليهم ان يتدبروا نقطة الضعف هذه لاقناع الجزائريين بأن خيارهم كان مبرراً. ان من حقنا لا بل من واجبنا ان نتساءل عن الاستراتيجية البديلة: هل كان في وسع الجزائر ان تسمح للاسلاميين بالوصول الى السلطة؟ وما هي الكلفة البشرية لازاحتهم عن السلطة بعد توليهم مقاليد الحكم؟ وما هي الكلفة الاقتصادية في انتظار ان يفقدوا صدقيتهم لغياب اي برنامج اقتصادي متماسك لديهم؟ وما هي اخيراً الكلفة السياسية لو حصل الاسلاميون على اكثرية الثلثين وعدّلوا الدستور بالغاء آلية النظام الديموقراطي وضماناته؟ ولابد من التوقف عند مسألة مهمة. هناك، بالطبع، من يرفض ان يحكم على جبهة الانقاذ قبل ان تبدأ ممارستها الفعلية لإدارة شؤون البلاد. الى هؤلاء نقول: لقد سعت جبهة الانقاذ، بعد الجولة الاولى من الانتخابات في نهاية العام الماضي، الى التفاوض مع بن جديد بهدف التوصل الى "اتفاق تعايش" بينها وبين السلطة. لكن ما حدث هو ان الجبهة الاسلامية طالبت بن جديد بتعيين عناصرها في المراكز الرئيسية الحساسة في الجيش. ان المنطق الذي بموجبه ينبغي ان نترك الاسلاميين يصلون الى السلطة لكي يفقدوا صدقيتهم وعندئذ نتخلص منهم نهائياً، هو منطق لا يخلو من خطر. وليس من الضروري ان يكون المرء عرّافاً ليدرك ان من الصعب ازاحة الاسلاميين عن الحكم بعد توليهم مقاليد السلطة. ولئن كانت المقارنات بين الجزائر وايران مغلوطة معظم الاحيان بسبب الفوارق الاساسية بين المجتمعين والمؤسستين الدينيتين، الا ان ثمة مقارنة تستحق ان نقوم بها: ان الثورة الايرانية لم تكن ثمرة الاصوليين وحدهم، بل كانت حركة تعددية عبرت عن الاستياء الشعبي واختلط فيها انصار الخميني بالديموقراطيين والليبراليين والاشتراكيين والشيوعيين. غير ان الخمينيين نجحوا خلال المرحلة المضطربة بعد سقوط الشاه، في توجيه الثورة لصالحهم وفي مصادرتها لقمع سائر التيارات التي لم تتنبه الى الامر الا بعد فوات الاوان واقامة السلطة الخمينية. ان هذه السابقة تستحق ان نعيدها الى الاذهان. صحيح ان الجزائر شهدت انتشار عشرات الاحزاب السياسية في غضون السنوات الثلاث الماضية، وهي شهادة على التنوع والتعددية في المجتمع، لكن ما من حزب بين هذه الاحزاب يستطيع ان ينافس آلة الجبهة الاسلامية للانقاذ في تعبئة الناس وتنظيمهم. "الانقلاب أهون الشرين" ذات يوم قال احد المسؤولين عن الثورة الفرنسية: "لا حرية لاعداء الحرية". واحداث الجزائر كما ينظر اليها في فرنسا تربك المسؤولين الفرنسيين اكثر مما تثير انقساماً في صفوفهم. اما على صعيد المعارضة فان السياسيين يقفون للحكم الاشتراكي في المرصاد لكي يتخذوا موقفاً في ضوء موقفه. وهكذا بعد صمت تخللته بعض تعليقات مقتضبة وغامضة للوزراء المعنيين قرر الرئيس ميتران ان يتخذ موقفاً مبدئياً تمليه ضرورات الديموقراطية فوصف وقف العملية الديموقراطية في الجزائر بأنه "عمل اقل ما يقال فيه انه غير طبيعي". وبذلك فهو يستنكر من دون ان يدين ودون ان يتمادى في الكلام على النتائج المحتملة للديموقراطية بأي ثمن. وخارج قصر الاليزيه عبّر المحللون عن ارتياحهم "فالانقلاب هو أهون الشرين" بالنسبة الى البعض، "وهو يقف سداً في وجه تهديد خطير، وينقذ الديموقراطية موقتاً" بالنسبة الى البعض الآخر. وفي الواقع، فان الفرنسيين لم يخفوا قلقهم ازاء نمو جبهة الانقاذ واتساع نطاق شعبيتها وتغلغلها في صفوف الجزائريين. وقد وجدت "خلايا التفكير" ولجان التخطيط في الوزارات الفرنسية المختلفة، وكذلك في الدوائر الأوروبية، في "الخطر الاسلامي" - على حد تعبير الكثيرين في الغرب - تجسيداً نموذجياً لما يعتبره الفرنسيون والاوروبيون "تهديدات الجنوب الجديدة"، وهي تهديدات لم يتم تحديدها او توضيحها بعد، لكن تكتب بشأنها سيناريوهات مختلفة لملء الفراغ الذي خلفه ما كان يعرف بپ"التهديد الشرقي"، اي "التهديد الشيوعي" الذي استمر عقوداً من الزمان. بالنسبة الى هؤلاء، فان "الازمة الجزائرية" وصلت في الوقت المناسب لبلورة جميع المخاوف ولتغذية انواع الهلع الجامح. فهي تمثل "العدو الألد" لأنها تشكل في الوقت ذاته خطراً ايديولوجياً وثقافياً وجيوسياسياً وبشرياً بسبب مخاطر هجرة جماعية، واجتماعياً اذ تضيف تهديدات ذات طبيعة داخلية للمجتمع الفرنسي ولهويته ولقيمه وحتى لأمنه من خلال 900 ألف جزائري يقيمون في الأراضي الفرنسية. ان اوساطاً مختلفة جداً في فرنسا تراقب التطورات في الجزائر عن كثب، تماماً كما ان الجزائريين يتابعون باهتمام الجدل الفرنسي وردود الفعل على احداث بلدهم. ويجدون في بعض ردود الفعل الفرنسية تعبيراً ينم عن "ابوية متعجرفة" كما ورد في تصريحات وزير ديغولي سابق راح يتساءل بهذه العبارات: "وما العمل اذا كان النظام التمثيلي يفترض نضجاً لا يتوافر لدى شعوب العالم الثالث؟". هذا التساؤل مؤلم بالنسبة الى الجزائريين الذين يعتبرون، خلافا لما يفكر فيه هذا الوزير الديغولي السابق، بان لديهم نضجاً سياسياً لكنه نضج مكبوت. ان الافق يبدو قاتماً امام جزائر الغد وامام الذين راهنوا على نجاح التحول الى الديموقراطية. ومع ذلك فاننا نريد، مخلصين، ان ينجح الجزائريون. فالنجاح لهم ولنا ولجميع الذين يريدون ان يثبتوا ان الاسلام يتفق تماماً مع الحداثة، وأن الشعوب العربية والاسلامية جديرة بالديموقراطية.