دفع الروائي المصري جميل عطية ابراهيم الى المطبعة بروايته "أوراق 1954" وهي جزء ثان من ثلاثية روائية بدأها بپ"1952" وسوف يختتمها برواية عنوانها "1956". ثلاثية جميل عطية ابراهيم تؤرخ فنياً للمجتمع المصري من الثورة الى حرب السويس، ويقول المؤلف انه اثناء كتابتها كان يهجس بثلاثية نجيب محفوظ التي أرخت للمجتمع المصري في المرحلة بين 1919 والحرب العالمية الثانية. "الوسط" التقت جميل عطية ابراهيم الذي يمضي وقته هذه الايام متنقلاً ما بين سويسرا ومصر، وجرى الحوار التالي حول ثلاثيته الروائية. عناوين رواياتك الجديدة تواريخ: "1952"، وفي المطبعة رواية "أوراق 1954". هل تكتب رواية متسلسلة؟ - الرواية الجديدة التي انتهيت منها عنوانها "أوراق 1954" وهي بمثابة الجزء الثاني من ثلاثية اعكف على اعدادها، نشر منها الجزء الاول منذ عامين بعنوان "1952"، وأراعي امكانية قراءة كل جزء مستقلاً بمفرده، فلكل جزء نهاية تصل فيها الشخصيات الى خاتمة معينة تمتع القارئ. الجزء الثاني - في الواقع - يبدأ من أزمة 13 كانون الثاني يناير 1954 حين وقعت اضطرابات في جامعة القاهرة. وكان هذا الحدث منذراً بأزمة تحت السطح تتعلق بالديموقراطية وكيفية تشكل نظام الحكم والصراع بين جمال عبدالناصر من جانب ومحمد نجيب من جانب آخر. في ذلك الوقت كان محمد نجيب يترأس مجلس قيادة الثورة والسلطة كاملة - من الناحية الشكلية - في يديه، بينما جمال عبدالناصر لم يكن قد بدأ يكشف عن شخصيته بشكل واسع، لكن السلطة التنفيذية كانت لا تخرج من يديه. وهذه الازمة تطورت الى ازمة آذار مارس الشهيرة والى الاستقالات التي تمت والى تمرد في سلاح الفرسان والى عزل محمد نجيب والى نزول الناس الى الشارع ثم عودة الرئيس محمد نجيب في آذار وصدور قرارات 5 آذار، وهي قرارات ارتجلها عبدالناصر ليكتسب رضا المتمردين في سلاح الفرسان وأعلن عنها، وعرفت بأنها قرارات 5 آذار. لكن محمد نجيب عاد وتتالت الازمات في مجلس قيادة الثورة الى ان تكسرت اجنحة محمد نجيب واستسلم ثم بدأت المفاوضات الجدية مع البريطانيين الذين كانوا يراهنون على تفجر الثورة ونظام الحكم من الداخل، وأسفرت عن اتفاقية الجلاء، الى ان اطلقت الرصاصات الطائشة على جمال عبدالناصر في المنشية وأعقب ذلك عزل محمد نجيب ودخوله الى فيلا المرج. هذه أحداث كثيرة يعرفها قارئ التاريخ ويعرفها من عاشها، لكن المشكلة هي تحويل الاحداث الى عمل فني، فوظيفة الفنان ليست سرد التاريخ ولكن تحويله الى عمل فني ممتع يضيف اليه الكاتب رؤيته في تفسير هذه الاحداث أو تحمسه لرأي معين او ترجيح رأي على آخر. الاحداث كثيرة في الفترة من كانون الثاني يناير الى تشرين الثاني نوفمبر 1954 ولا يستطيع الكاتب الروائي الغوص فيها وتقديمها بشكل فج. عليه الاختيار والتركيز على السمات الانسانية للشخصيات بحيث يكون هناك معنى لقراءة الرواية، وأنا اعتقد ان الرواية يجب ان تحقق شيئين اساسيين هما: المتعة الفنية والمتعة الروحية او المتعة الجمالية. اذا لم تحقق هذا فالرجوع الى كتب التاريخ افضل، السياق الموجود في الرواية هو سياق مكمل لسياق "1952" بمعنى ان معظم الشخصيات في "1952" سنلتقي بها في "1954" بعد مرور عامين بالتقريب، لأن الجزء الاول بدأ في 26 كانون الثاني يناير 1952 وانتهى بتطبيق قانون الاصلاح الزراعي في مصر في 9 ايلول سبتمبر 1952، والجزء الثاني يبدأ في 13 كانون الثاني يناير 1954. أسئلة "النزول الى البحر" لماذا لجأت الى كتابة رواية تاريخية؟ - لكل كاتب مبرراته وأسبابه الخاصة، ولم يكن واضحاً في بالي كتابة رواية تاريخية او رواية اجيال. انتهيت منذ حوالي سبع او ثماني سنوات من رواية بعنوان "النزول الى البحر" معظم احداثها يدور في حي المقابر في القاهرة، والزمن الروائي فيها عصر الرئيس السادات والتحولات الكبيرة التي طرأت على مصر وعلى العالم العربي آنذاك. بعدما انتهيت من "النزول الى البحر" ولاقت نجاحاً كبيراً لدى النقاد، وجدت من الضروري لفهم اشياء كثيرة العودة الى ثورة 52، ليس ككاتب فقط ولكن كقارئ ايضاً، لأني وجدت تساؤلات في الرواية لم يجد بطل الرواية اجابة عنها، بطل الرواية سيد الذي قطعت قدمه والذي كان عضو الاتحاد الاشتراكي اخذ يطرح تساؤلات في هذه الرواية لم يستطع الاجابة عنها. وأصبح هناك علامات استفهام كبيرة: لماذا حدث هذا؟ لماذا بعد 30 عاماً من الثورة في مصر تسكن الناس المقابر؟ ولماذا يذهب الرئيس السادات الى الكنيست ويلقي خطاباً؟ ولماذا الفلاحون عاشوا كما هم؟ كل هذه التساؤلات جعلتني اعود كقارئ، كدارس للتاريخ، الى قيام ثورة 52، انا اعتقد انه مهما كان للثورة من ايجابيات وسلبيات فهي اعظم حدث في التاريخ الحديث في مصر والعالم العربي. لذلك قررت أن أكتب "ثلاثية" عن الثورة متمثلاً في ذهني ثلاثية الاستاذ نجيب محفوظ عن ثورة 1919، وأعتقد ان الاستاذ نجيب محفوظ اضاف الى فهمنا الكثير بالنسبة لثورة 1919، وأنا رأيت انني من جيل ثورة 52 وأنا اقدر من غيري من الاجيال الأخرى سواء السابقة او اللاحقة على كتابة تاريخ هذه الثورة. فتصديت لهذه الكتابة. هل لجأت الى الارشيف لمعرفة تفاصيل الزمن الواقعي لروايتك؟ - درست دراسة اكاديمية، دراسة قراءات، وأجريت اتصالات بالناس وتحقيقات صحافية مع بعض ابطال الحدث. درست في الجزء الاول حريق القاهرة دراسة مستفيضة، وقضية اعدام خميس والبقري في كفر الدوار، وهي الجريمة الفظيعة التي اخطأت الثورة كثيراً بارتكابها. لم اضمن الرواية نتائج الاحداث التي درستها، ولكن، بعد عملية الدراسة كانت هناك عملية الاختيار والخضوع للضرورات، وأنت تذكر انه في نهاية رواية "1952" نشرت قائمة ببعض المؤرخين الذين استفدت منهم وهذا ليس معتاداً في الرواية، وهناك مؤرخون ساعدوني كثيراً بكتاباتهم ولقاءاتي معهم مثل احمد حمروش، صلاح عيسى، الدكتور رفعت السعيد، وكانت تقابلني مآزق في فهم بعض الاحداث التاريخية. يوجد هناك حدث تاريخي واضح ولكن ملامح شخصياته التاريخية غير واضحة. كنت اهتم وأسأل عن امور يضحك منها المؤرخون، اسأل: في تلك الواقعة هل كنت متزوجاً؟ لديك اطفال؟ ألم تكن تخشى الاعتقال؟ ما الذي كنت ترتديه؟ وفي أوقات كنت أبحث عن درجة حرارة الجو في القاهرة. أين دور الذاكرة الشخصية؟ - ذاكرتي الشخصية قوية - بالطبيعة - وفي زمن هذه الثلاثية كنت صبياً أعيش الاحداث، ولكن تركيبتي الثقافية لا تساعدني على الفهم، عشت ايام طرد الملك فاروق وانا حزين لطرده، كانت علاقة وجدانية بيني وبين الملك فاروق وأنا طفل صغير وعمري ثلاث سنوات، كنت اسكن في بيت أمام جامع عمرو بن العاص مباشرة حيث الملك فاروق اعتاد صلاة الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، وكانت الزينات والالوان والخيالة والطبول والموسيقى العسكرية تعد ليلة الجمعة، وذلك احتفال لا يفوتني وفي هذه السن - ثلاث سنوات - كان يسمح لي بالوقوف على الشرفة فقط، وليس بالنزول الى الشارع، ثم اصبحت انزل بعد ذلك بسنتين او ثلاث، ولما طرد الملك فاروق من مصر كان عمري 15 سنة، فهزني الحدث، كنت متعاطفاً مع الملك فاروق وعشت ساعة بساعة قيام الثورة وطرد فاروق، لكن وعيي وفهمي لم يكونا يسمحان لي بفهم اعمق من هذا. فهمك السياسي اتكلم عن الذاكرة الخاصة، بمعنى ما احتوته من مشاهد وصور وعلاقات ساهمت في صبغ الكتابة في ثلاثيتك، ما هو دور هذه الذاكرة في هذه الرواية؟ - كل ما عشته اتذكره، ولكن تغير فهمي له مع مرور الوقت، وأنا ذاكرتي قوية بالطبيعة لا أنسى. عبدالناصر والمثقفون ما هي ظلال الايديولوجية او الموقف السياسي في ثلاثيتك الروائية؟ - في صباي كنت معجباً بالملك فاروق ولكن تغيرت الاحوال، انا كتبت هذا العمل وأنا من المقدرين لدور ثورة 1952 في حركة التحرر المصري والعربي والافريقي. لكن، في مراحل النضج اعرف ايضاً سلبيات 1952 وهي أزمة الديموقراطية. ثورة 52 كانت لا تثق في المثقفين الذين يتحمسون لها واستطيع ان اقول ان 90 في المئة من اصدقائي مروا بتجرية الاعتقال وطوردوا في ارزاقهم، وهذه التجربة لا انساها. انا لم اعتقل لأنه لم يكن لي نشاط سياسي مباشر ولكن جميع اصدقائي الذين اعتز بكتاباتهم دخلوا هذه التجربة المريرة جداً في تقييمي لثورة 52. عندما بدأت كتابة "1952" في سويسرا كانت طبول انهيار الكتلة الاشتراكية، وهذا سبب لي ازمة كبيرة جداً، احسست انني اكتب عن شيء خارج التاريخ. اتحدث عن ثورة والعالم كله معاد لفكرة الثورة وكلمة الثورة، كما لو كان العالم يعاديني وأنا اكتب عن ثورة 1952 احسست انني خارج التاريخ، فما قيمة العمل الذي اكتبه والعالم كله يسقط، ولكني صممت على كتابة التجربة كما عشتها وكما اؤمن بها وليس كما سوف يتقبلها الناس او النقاد، وقلت، على الاقل، في مصر والعالم العربي سوف اجد قلة ترغب في فهم هذا العمل. هل الثلاثية شهادة على عصر أم رد على منتقدي تموز يوليو 52 او انقاذ لها من اسئلة البسطاء التي طرحتها انت في رواية "النزول الى البحر" والتي تبلورت حول "لماذا حدث ما حدث بعد 30 سنة ثورة"؟ - هي بالنسبة لي محاولة للفهم اكثر مما هي رد على آخرين، ومحاولة للبحث عن الاجابات: لماذا هذا لم يحدث؟ وأعتقد انني توصلت الى اجابات عن بعض التساؤلات في الرواية بشكل واضح، لماذا القيادة المصرية التي كانت متمثلة في جمال عبدالناصر تخاف الرأي الآخر؟ هل هي سمة شخصية فيه؟ ام هل هي سمة في كل النظم العسكرية؟ هذا تطلب مني دراسة جوانب كثيرة في شخصية جمال عبدالناصر، رجعت بقدر استطاعتي الى كل ما كتب عنه، الى كل الحوارات، سألت من اتيح لهم الجلوس اليه، عن طبيعته، كيف يتكلم، كيف يشرب القهوة، سادة ام مضبوطة؟ ما رأيه؟ وتصرفه؟ وطبيعة وكيفية اخذ القرار؟ لماذا كان يخاف؟ من الجمل المؤثرة التي اكتشفت ان جمال عبدالناصر قالها في السنوات المبكرة جداً من الثورة عندما لم يكن يحلم ان يمتلك مثل هذه السلطة، قال لصحافي اجنبي: "جيشي هو برلماني"، وهذا كان يدل على مصادر اعتماده. وعندما تدرس تخصص جمال عبدالناصر ودراساته في الجيش تجد انه متخصص في التكتيك، حسابات صغيرة دقيقة لكل عامل من العوامل. طريقة معالجته ازمة آذار مارس وانشاؤه هيئة التحرير وتخلصه من رجال هيئة التحرير، وانشاؤه الاتحاد القومي وتخلصه منه ثم انشاء الاتحاد الاشتراكي. الطرق التي يعالج بها هذه المشكلات تكشف ان جمال عبدالناصر انسان برغماتي بغض النظر عن المبادئ المثالية السطحية، يتحرك مع تفاصيل الواقع المتحرك. من الاشياء المهمة محاولة فهم - روائياً - علاقته بعبدالحكيم عامر الذي هو مسؤول عن هزيمتين كبيرتين للجيش المصري 56 و67. محاولة دراسة الدور الذي لعبته اجهزة الاعلام في تلك الفترة. علاقته بالمثقفين: عبدالناصر كان عنده من الوعي ان يستمع للمثقفين ويستفيد منهم ولكن لا يمنحهم السلطة. كان يحترمهم في قرارة نفسه ولا ينفر منهم ويناقش، وهو مستمع جيد جداً ولكن السلطة يجب ان تكون في يده هو وليست في يد المثقفين، كان لا يثق بهم، نفذ قرارات اشتراكية بعيداً عن الاشتراكيين الذين كانوا في السجون. هذه اشياء صغيرة من متطلبات العمل الفني، المؤرخ قد يقف عند واقعة منها او واقعتين او ثلاث، لكن العمل الفني يحاول دراسة كل هذه الاشياء والحصول منها على بعض النتائج او العلامات المميزة، وأعتقد انني في الجزء الثاني اوضحت فهماً معيناً او تفسيراً معيناً لشخصيتين اساسيتين في "اوراق 1954" وهما اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية والبكباشي جمال عبدالناصر الذي كان الرئيس الحقيقي لتنظيم الضباط الاحرار، قد يوافقني البعض وقد يختلف معي البعض الآخر، لكنني كنت حريصاً على ان اكون اقرب الى الصدق بقدر المستطاع، لأن العمل الفني فيه سحر، وكنت حريصا على ان لا اقدم تفسيراً خادعاً او متطرفاً مستخدماً ادوات الفن الساحرة لاقناع الآخرين، وحاولت ان اكون محايداً بقدر الامكان، ولكن، اتوقع ان تثير "اوراق 1954" انتقادات واعجاب وغضب كثير من الناس. هل نستطيع القول انك بهذا العمل الكبير تدخل مع روائيين كتبوا عن الثورة المصرية؟ وبماذا يمكن ان يتميز عملك بينهم؟ - اعمال كثيرة تناولت جوانب من الثورة. الاستاذ نجيب محفوظ رصد ظواهر كثيرة، رصد قضايا المعتقلات والديموقراطية وضياع الشباب ومنحى الثورة الى ضرب اتجاهات فكرية معينة. الاستاذ نجيب محفوظ كرجل وطني اصيل وروائي كبير قدم هذه الظواهر بنظرة فاحصة عميقة ومن دون افتعال، وهناك كتاب آخرون هاجموا الثورة من بدايتها مثل الاستاذ ثروت اباظة وله اعمال شهيرة يهاجم فيها الثورة بشدة ويحزن على النظام القديم والديموقراطية التي كانت تتمتع بها مصر قبل ثورة 52. لكن لا اعتقد ان هناك كاتباً تفرغ لرصد الثورة بمثل ما اقوم به حالياًً، ولا مثيل في الادب العربي الا في التجربة الرائدة لاستاذنا الكبير نجيب محفوظ في رصده لثورة 19 وللاجيال التي أتت بعدها، رصد قيام ثورة 19 الى سنة 1941. نجيب محفوظ هو ابن ثورة 19 وهو في اعماقه يرى ان سعد زغلول اعظم قائد وطني تحرري في هذا القرن، ونجيب محفوظ كان صغير السن عندما قامت ثورة 19 ولكنه يحس انه ابن ثورة 19 بالدراسة والوعي والفهم. انا بدوري احس انني ابن ثورة 52. كنت صغيراً عندما قامت، لم افهمها، ولكن عشت تطوراتها لحظة بلحظة، وأعتبر جيلي احق الاجيال برصد هذه التجربة. لم اكن اجرؤ على الاقدام على هذه المهمة اذا لم يكن الطريق ممهداً، وأعتقد ان الاستاذ نجيب محفوظ مهد هذا الطريق. كتب ثلاثيته العظيمة لجيلي وربما اعتقد انه كتبها لي انا فقط، فعندما كتبت "1952" في سويسرا كنت قبل ان ابدأ في الكتابة اخصص ساعة لقراءة فصل او عدة فصول من ثلاثية نجيب محفوظ، اقرأ فصلاً واستمتع ثم اقفل ثلاثية محفوظ وابدأ في الكتابة، ليس للتقليد او الايحاء، ولكنني كنت احس ان عمل الاستاذ محفوظ يشبعني روحياً ويشجعني.