دراما الخريف الحالي في القناة الرابعة للتلفزيون البريطاني عنوانها "الكتائب الكبيرة"، ومعها يحتلّ العربي صورة "الآخر" بعدما كانت هذه الصورة مقتصرة على الهندي او الباكستاني، في معظم الاعمال السينمائية والتلفزيونية والمسرحية في بريطانيا. وفي عداد ممثلي "الكتائب الكبيرة" ممثلان عربيان: سعيد الفاضل في دور المهندس يوسف المولود في السودان من ام انكليزية والذي أنهى في بريطانيا دراسة الانتروبولجيا قبل ان يحترف التمثيل، ونديم صوالحة في دور احمد والد المهندس يوسف وهو ممثل اردني مهاجر الى بريطانيا. تدور احداث الدراما في ثلاثة خيوط: مشكلات رجل دين مسيحي - جمعية بريطانية تعمل في الحبشة الغارقة في عنف حروبها الاهلية - ابنة رجل الدين المقيمة في اسرائيل حيث تحب جندياً في الجيش الاسرائيلي في بدايات الانتفاضة الفلسطينية... وفي الخيوط الثلاثة للدراما يتحرك المهندس يوسف باحثاً عن هويته فيلقاها او لا يلقاها، عرض الرواية يستمر منذ ثلاثة اسابيع. اتى يوسف الى بريطانيا طفلاً صغيراً مع ابيه احمد الذي ترك فلسطين منفصلاً عن زوجته التي بقيت هناك، واقام الاب وابنه في مدينة برمنغهام تضم تجمعاً كبيراً للمهاجرين ما يجعل لأهلها حساسية خاصة تقارب العنصرية المضمرة، ويتخرج الفتى الفلسطيني مهندساً معمارياً ويعمل في برمنغهام، لكن علاقاته تبقى مضطربة مع محيط هو ايضاً مضطرب. ويحاول المهندس يوسف انشاء مركز للحوار بين الاديان لكنه يواجه صعوبة في الحوار ويقف امام جدران التعصب الصماء فيزداد اضطراباً الى حد الخضوع لعلاج نفسي: انها ازمة الهوية، وحين يترك يوسف مجتمع برمنغهام القلق ليسكن في لندن مع شبان فلسطينيين، لا تهدأ نفسه، فضلاً عن ان الشبان يشكون بدورهم في انتمائه الى فلسطين ويحسبونه جاسوساً فيضربونه، ولما خرج الى الشارع هائماً على وجهه في آخر الليل شك فيه الشرطي قلما تعترض شرطة لندن المشاة فأبرز يوسف جواز سفره البريطاني. أزمة هوية، يذهب بها كاتب الدراما هيو ستودارد الى حدّ تصوير المهندس يوسف ملتحياً لابساً ثوبه الابيض الفضفاض، اي انه عاد الى هويته الشرقية. * * * ونترك "الآخر" العربي الفلسطيني امام مشاهدي التلفزيون البريطاني، فدراما "الكتائب الكبيرة" يستمر عرضها، وهي مساهمة جديدة في سياق صورة العربي في الفنون المشهدية الغربية السينما والتلفزيون والمسرح. والصورة متنوعة تبدو ملامحها واضحة في السينما لانها الفن الاكثر انتشاراً وشعبية في هذا القرن، وقد رسم اكثر هذه الملامح فنانون غربيون وساهم العرب المهاجرون والمقيمون في رسم القليل منها. ففي هوليوود ظهرت صورة العرب في البدء "إكزوتيكية" كما في الافلام المأخوذة عن الف ليلة وليلة، وفي الفيلم الشهير لرودولف فالنتينو "كريم ابن الشيخ" حيث الفتى العربي الشهم والوسيم يغزو قلوب الفتيات. وبقيت هذه الصورة الباهرة حتى اواسط الخمسينات حين طغت صورة العربي "الارهابي" او الذي يملك مالاً ولا يعرف استثماره، وهذا التغير حدث في فترة الصراع مع اسرائيل وامتداد التأثير الصهيوني فأتت السينما التجارية لتنصاع الى التأثير الصهيوني، والواقع ان الافلام المتحاملة على العرب لم تحمل قيمة فنية مستمرة بل كانت عروضها التجارية تمرّ سريعاً ثم ينساها الناس. بل ان هوليوود والسينما الاميركية، بالتالي، كانت تتعامل قليلاً مع الموضوعات العربية. وفي بريطانيا كانت صورة العربي اجمالاً جيدة، بل ان تقاليد مدرسة كيبلينغ كانت تعتبر العربي بعيداً وغريباً لكنه شهم وفارس وكريم. لكن السينما البريطانية لم تخل من صورة "عصاباتية" للعربي كما في بعض افلام جيمس بوند، لكن العربي لم يدخل صورة الآخر كما هو حال الهندي والباكستاني في السينما البريطانية. اما في فرنسا فالعربي هو "الآخر"، لأن الوجود المغاربي ملموس في المجتمع الفرنسي ويطرح قضايا عدة على هذا المجتمع. لكن السينما الفرنسية وان شابتها احياناً صورة العربي "العصاباتي"، فانها واجهت العنصرية ضد الآخر العربي، فالعربي في هذه السينما نوعان: اما انه مدان لأنه يسبب لنفسه التخلف او انه ضحية العنصرية فتتعاطف معه السينما، خصوصاً في الافلام التي عالجت اوضاع العمال العرب في المصانع، وانطلقت من طفرة الحرية الشاملة في ايار مايو 1968. * * * صورة العربي في السينما الغربية ليست سلبية كلياً وبالقدر الذي يتخيله بعض العرب ويعلنه، من دون اسانيد، بعض الكتاب. انها صورة متنوعة، تتحدث احياناً عن "عربي ارهابي" وليس عن "العربي الارهابي". وحتى في اسرائيل عدوة العرب فان الصورة المشوهة للعربي ظهرت في الافلام الدعائية ذات المستوى الفني الرديء، لكن الصورة تبدو مقبولة الى حد ما في افلام جيدة فنياً حتى وان كان مخرجوها قريبين من الرؤية الصهيونية، وهذه الافلام معظمها مأخوذ عن روايات، نذكر منها الفيلم المأخوذ عن رواية "العاشق" لافراهام يهوشفاع الذي يقدم العربي باعتباره صاحب البلد الاصلي في فلسطينالمحتلة. ويتردد اسم يهوشفاع كمرشح لجائزة نوبل للآداب عن روايته المذكورة. ويبدو ان التحامل السطحي على العرب في الافلام يفقدها اي قيمة فنية، والحال ان السينما كفن مشهدي منتشر في عالمنا صارت تعنى بمشكلة الهوية والصراع الثقافي في المدن الكوسموبوليتية والمجتمعات المتعددة الثقافات، ولابد من حضور عربي حين تتناول هذه السينما مشكلات الحياة في المدن الاوروبية الكبرى، وبعض المدن الاميركية ايضاً. * * * ولكن أرقّ الافلام وأعذبها هي تلك التي أنجزها العرب انفسهم عن عينات من المهاجرين لم يكتسبوا هوية جديدة بالمعنى العميق للهوية، وفقدوا في الوقت نفسه هويتهم الاصلية وامكانية الانسجام مع مجتمعات اهلهم، كما في المأساة التي صورها المخرج رشيد بوشارب فرنسي من اصل جزائري في فيلمه "شاب". ويسجّل المراقب للسينما انها عموماً اقل الفنون عنصرية واكثرها انحيازاً الى الاجتماع الانساني المتنوع القائم على الاعتراف والتفهم والتسامح.