مفاوضات واشنطن تفيد عن حصول تقدم نحو السلام بين اسرائيل والدول العربية المشاركة في المفاوضات. لكن من الخطأ استباق الامور والجزم بنتائج المفاوضات الجارية. كذلك من الخطأ التعامي عن مجريات التطورات السياسية الدولية والاقليمية. فقبل حرب الخليج كانت امكانات السلام في المنطقة تبدو مؤجلة، وبعد الحرب لم يعد هناك من عذر للولايات المتحدة كي لا تضغط على اسرائيل في اتجاه السلام. لكن ما تحقق حتى الآن اضافة الى الامكانات المتاحة ناتج عن ادراك الدول والشعوب المعنية بأن استمرار أجواء الحرب يعني تأخرها جميعاً عن ركب التطور، وربما الحضارة، ولهذا السبب ونتيجة التعاون العربي - الاميركي خلال حرب الخليج، والحماية الاميركية بصواريخ الباتريوت لاسرائيل، تسارعت خطوات المفاوضات عن السلام وأصبح السؤال عن توقعات ما بعد السلام شرعياً وضرورياً، لكن ماذا على الصعيد الاقتصادي؟ قبل استعراض الخطوط العريضة للتأثيرات الاقتصادية لاتفاقية سلام على اسرائيل والدول العربية لا بد من تمهيد ضروري يركز على ما هو اهم من الجوانب الاقتصادية، اي على الجوانب النفسية والنظرة السياسية للاسرائيليين وشعوب البلدان العربية المحيطة باسرائيل. لقد عاش الاسرائيليون 44 عاماً في ظل الخطر العسكري المفترض، وخصصوا الكثير من الموارد التي توافرت لهم من الخارج لأغراض الدفاع، وأصبحوا في العصر الحديث كمواطني اسبرطة أيام الاغريق، لكن التشدد العسكري الاسرائيلي مع الفلسطينيين اضعف صدقية الانفتاح المفترض لدى مواطني دولة تقول بأنها تحترم الديموقراطية والحريات، ولم يكن غريباً ان تنشر المفتشية العامة للجيش الاسرائيلي تقريراً هذا العام يظهر التفسخ النفسي لدى الجنود الاسرائيليين وتدني مستويات الكفاءة والالتزام وانحسار الرغبة في الحرب والانتصار وزيادة التوق الى السلام. في المقابل، بررت المجتمعات العربية المواجهة والمتاخمة لاسرائيل سياسة التجنيد والانفاق والتعامل مع الحريات التي اتبعتها، بررتها بالنضال القوي ضد اسرائيل. لكن الاحباط العسكري العربي هيمن على نفسية مواطني الدول العربية المعنية الى درجة انهم اصبحوا يتقبلون، نفسياً، فكرة الانكسار، علماً بأن ساحة الانتصار كانت ولا تزال في مجالات الانجاز البشري، حيث العرب، وخصوصاً الشباب المهجر منهم، غير مقصرين في مختلف مجالات الانجاز. ان اتفاقيات السلام، اذا تحققت، ستمكن الاسرائيليين من التعاطي مع الواقع من دون هوس عسكري وبإدراك ان مجتمعهم تأخر عن التطور الايجابي سنوات بسبب الانشغال بالعسكريتريا، فيما المجتمعات العربية بررت سياسات قمعية وتوجهات متخلفة وانغلاقات في وجه بعضها البعض استناداً الى ضرورات المواجهة. اهم نتائج السلام، اذا تحقق، سقوط التشنج لدى الطرفين، وبالتالي تركيز الاسرائيليين والعرب على شؤون الانماء، وفي هذا المضمار لا بد للطرفين من درس امكانات التعاون وفوائده، إن وجدت، ويمكن تصوير الخطوط العريضة للوضع، في حال تحقق السلام، على الشكل الآتي بالنسبة الى اسرائيل. طبيعة السلام يفترض ان تكون اتفاقيات السلام شاملة وعامة تزيل مخاطر الهجوم من اي طرف عربي كما تقيد القدرات العسكرية الاسرائيلية، خصوصاً النووية منها ضمن التزامات مضمونة دولياً. بالمقابل يفترض ان تكون العلاقات بين اسرائيل وجيرانها طبيعية وتفسح مجال التبادل الديبلوماسي والتجاري والسياحي وفرص العمل لمواطني الدول المختلفة في ما بينها، في حال تحققت شروط معينة للسماح بالتبادل البشري للطاقات والمواهب. ان اسرائيل، بالتأكيد، تدرك منافع السلام اكثر من غيرها من الدول العربية المحيطة بها لأسباب عديدة اهمها انها تنعتق من ضيق العزلة عن الجيران، ولا شك ان اسرائيل حققت بعض الانعتاق براً نتيجة معاهدة السلام مع مصر، ان علاقاتها الوثيقة مع قبرص توسع مدى انعتاقها في المنطقة. وتبرز منافع السلام لاسرائيل على اكثر من صعيد، فمن جهة اولى نفقات التسلح التي تبتلع ما يزيد على حجم كامل الدخل القومي في لبنان يمكن تخفيضها تدريجياً الى نسبة 25 في المئة من مستوياتها الحالية خلال خمس سنوات، خصوصاً ان اسرائيل كانت ولا تزال حتى الآن تواجه مصاعب اقتصادية كبيرة بسبب تخصيصها جزءاً كبيراً من مواردها لقضايا التسلح ونفقات الجيش. وبما ان عدد سكان اسرائيل ضئيل نسبياً، فان السلام يتيح مجال زيادة نسبة الشباب المشتركين في عملية الانتاج بدل ان ينخرط هؤلاء في الجيش ويشكلوا عبئاً مالياً اضافياً. اما المنفعة الكبرى لاسرائيل فستظهر من تنشيط قطاع السياحة بقوة، فالسياحة الاوروبية والاميركية الى اسرائيل كانت معلقة دوماً على الظروف الأمنية في المنطقة وداخل اسرائيل، وكانت تتأثر الى حد بعيد بأجواء التشنج. وإتفاقيات سلام تمكن اسرائيل من استقطاب ما يزيد على مليوني سائح سنوياً من أوروبا والولاياتالمتحدة، وربما نصف مليون سائح من البلدان العربية، وقد يصبح بالامكان تنظيم رحلات الى البلدان العربية وإسرائيل في آن معاً للسياحة وزيارة الاماكن المقدسة. والدخل من السياحة بالغ الاهمية لاسرائيل التي تعاني عجزاً في ميزان المدفوعات تسده المعونات الخارجية، وهذه المعونات لا بد ان تخفض بعد توقيع اتفاقات السلام لأن المعونات كانت تبررها حاجة اسرائيل للصمود في وجه العرب الاغنياء ومعوناتهم لبعضهم البعض. لكن امكانات اسرائيل من الاستفادة من الاسواق العربية لن تكون في مجال صادرات الاسلحة التي تشكل نسبة ملحوظة من صادرات اسرائيل لأن اتفاقات السلام يفترض ان تقلص نفقات التسلح في اسرائيل والدول العربية المحيطة بها، كما ان صادرات اسرائيل من الماس الصناعي لا تجد لها سوقاً طبيعية في الدول العربية، الا في مجال البحث والتنقيب عن النفط حيث يستعمل الماس الصناعي في بعض جوانب هذه العمليات. وأفضل الفرص المتاحة لاسرائيل للاستفادة من واقع السلام اذا تحقق تتبدى في مجال تقديم الخدمات الفنية والمنتجات التقنية للزراعة الصحراوية حيث حقق الاسرائيليون تقدماً في هذا النطاق، كذلك فان اسرائيل تنتج معدات طبية متطورة يسهل استعمالها في المستشفيات المتزايدة في العالم العربي، لكن صادرات النسيج والمنتجات الزراعية، وهي تعتبر من الصادرات الاسرائيلية المهمة، لن تجد لها اسواقاً واسعة في العالم العربي لأن القدرات والطاقات العربية في هذا النطاق متطورة وأسعار منتجات النسيج والفاكهة ادنى في سورية والاردن ومصر منها في اسرائيل. ولا بد ان يوجه المخططون الاسرائيليون اهتمامهم نحو فرص الاستفادة الاقتصادية والاستراتيجية من ثلاثة موارد مهمة موجودة بوفرة في العالم العربي، وهي النفط ورأس المال والمياه. بالنسبة الى النفط فان الاهتمام الاسرائيلي على الحصول على امدادات مقابل اسعار تفضيلية، ان امكن، والمشاركة في انتاج النفط وتوسيع دور اسرائيل في نطاق نقل النفط وربما تكريره وتصديره كمشتقات، ومن المؤكد بعد حرب الخليج ان الدول الغربية الكبرى، وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا، ستحول دون وصول اسرائيل الى مراكز انتاج النفط. وبالمقابل فان عمليات نقل النفط لن تلقى معارضة من الدول الغربية لكن ذلك متوقف على التوصل الى اتفاقات سلام بين اسرائيل والدول العربية المعنية مباشرة بالنزاع معها. ويشكل الرأسمال العربي قطباً جاذباً للاسرائيليين، ذلك ان اسرائيل مدينة للولايات المتحدة ودول اوروبية بأكثر من 32 مليار دولار، وبعد السلام، وباستثناء فترة قصيرة قد تزاد خلالها مخصصات المعونات لاسرائيل، ستنقص الموارد المالية عن الحاجات وتصبح قضية استقطاب الرأسمال العربي حيوية للاسرائيليين. وحينئذ سيواجه الاسرائيليون منافسة على الرأسمال العربي الخاص من قبل بنوك يملكها مصرفيون يهود يحملون الجنسية اللبنانية وأبرز هؤلاء آل صفرا وآل ليفي، والبنوك التي يملكها هؤلاء متمركزة في جنيف ونيويورك وتبلغ ودائعها نحو اربعين مليار دولار هي في غالبيتها اموال عربية، وشروط التمويل من قبل هذه البنوك او المشاركة نيابة عن زبائنها هي شروط تنافسية متشددة. قضية المياه هي القضية الاكثر صعوبة وتعقيداً، فالمصادر المتوافرة لا يمكن وصفها بالوفيرة، سوى في ما يخص معدلات المطر في لبنان، فلبنان يحظى سنوياً بمليار متر مكعب من المياه، سواء من الامطار او من مجاري الانهار، وهو يستهلك نسبة 5 في المئة فقط من كميات المياه هذه والبقية تذهب هدراً الى البحر، وبالتالي اذا اشتملت ترتيبات السلام على التزامات تجميع بعض مياه لبنان في شبكة من السدود وإعادة توزيع هذه المياه بين لبنان وسورية واسرائيل يكون هنالك نفع كبير للدول المعنية، وهذا المشروع يمكن تنفيذه في حال توافر السلام او عدمه، لكن الحماسة الدولية والعربية للمشروع لن تتوافر الا ضمن ترتيبات السلام التي لا بد من انجازها ضمن الاتفاقات لتوفير ارضية تشابك المصالح لترسيخ الأمان في منطقة الشرق الاوسط. خارج هذه الامكانية تصبح قضية المياه معقدة للغاية لأنها تعتمد في المقام الأول على التوافق بين تركيا وجيرانها. ويمكن لسورية والعراق ان يواجها مصاعب في مجال توفير المياه اذا اقرت تركيا سياسات تخالف المواثيق الدولية، فالأنهر الاساسية في العراق وسورية منابعها في تركيا وتدفق مياهها معلق على المشاريع التركية القائمة لتجميع المياه وتخصيصها لمختلف أوجه الاستعمال. ان السلام في المنطقة يفيد اسرائيل والدول العربية على حد سواء، كما يفيد مناخ التوافق الدولي والارتياح الى تأمين مستوردات النفط من دون خوف من ازمات عربية - اسرائيلية. وبالمقابل فان منافع اسرائيل الاقتصادية من السلام، وهذه كانت محور البحث في هذا المقال، تتأتى في الدرجة الأولى من انخفاض النفقات على التسلح وزيادة اعداد الشباب المشاركين في الانتاج وتنشيط السياحة وزيادة صادرات تكنولوجيا الزراعة الصحراوية ومنتجات المستشفيات والمعالجة الطبية. اما المنافع الكبرى المتوخاة من صناعة النفط فهي معلقة على مدى افساح المجال لاسرائيل من قبل الدول الغربية، انما من شبه المؤكد ان تستفيد اسرائيل من نشاطات نقل النفط عبر اراضيها، لكن استقطاب الاموال العربية سيكون عملية مرتبطة باستعداد كبار المصرفيين اليهود العاملين على نطاق دولي للتجاوب مع حاجات اسرائيل. والاستفادة من المياه في زمن السلم معلقة على تنفيذ مشاريع سدود لحفظ المياه في لبنان ضمن اتفاق ينسق بين حاجات دول المنطقة برعاية دولية. بالمقابل فان الدول العربية المواجهة لاسرائيل لها منافعها المختلفة من السلام، باستثناء تخفيض نفقات التسلح. وسنعود الى هذه المنافع وشروط تحققها في مقال لاحق. * خبير اقتصادي لبناني.