ما من مرة أتى الإخباريون على ذكر غزوة، في المشرق أو في المغرب، إلا وأسرفوا في الحديث عن الغنائم والفيوء والجزى والسبايا. ولو كان العرب خرجوا من بلادهم بقصد إخراج الناس من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، لما وجدتهم يكسحون خيرات البلاد المغلوبة ويأسرون رجالها ويتفخذون نساءها ويتبطنون جواريها. وصدق الشاعر حكيم بن ضرار الضبي حين قال في ابنه الذي ذهب للغزو وترك أباه خلفه: فما جنة الفردوس هاجرت تبتغي ** ولكن دعاك الخبز أحسب والتمر وعلى كثرة كلام المؤرخين عن غنائم الفتوح، إلا أننا لا نكاد نسمع منهم ذكراً لفقهاء علّموا المغلوبين أصول الدين أو درّسوهم مبادئ اللغة العربية، بل إن العرب كانوا يكرهون دخول العلوج في دينهم مخافة أن تنكسر مداخيلهم من الجزية والضرائب. ولهذا كله، فإن قول بعض المستشرقين ومن لفّ لفهم بأن الإسلام انتشر بحد السيف هو قول خالٍ من الدقة وعارٍ من الصحة. فالعرب الأوائل لم يجبروا أحداً على الإسلام ولم يجرّوا أحداً بالسلاسل إلى الإسلام، ولكن أكثر أولئك المغلوبين أقبلوا على خلع أديانهم واعتناق الإسلام، أملاً في الخلاص مما هم فيه من القهر والذل والاستعباد، إلا أن إسلامهم لم ينفعهم بشيء، فلم تسقط الجزية عن رقابهم والخراج عن أراضيهم زمن حكم الأمويين، وظل الأمر على حاله إلى أن أمر الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز بإسقاط الجزية عن من أسلم، وقال قولته الشهيرة:"إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً"، ولكن ما إن مات حتى عادت الأمور إلى نصابها. وفي أيام الحجاج بن يوسف، رمى الفلاحون مسّاحيهم والتحقوا بالمدن والأمصار، فراراً من ثقل الجزية والخراج، لكن الحجاج أعادهم قسراً إلى مزارعهم وختم على أيديهم كما تُختم المواشي والبهائم، وقال لهم:"أنتم علوج وقراكم أولى بكم". وكتب عامل مصر إلى الخليفة سليمان بن عبدالملك يستأذنه الرفق بالرعية المطحونين المركوبين المحلوبين، فردَّ عليه الخليفة:"احلب الدر وإذا انقطع فاحلب الدم". ولقد رافق جباية الأموال من الموالي ألوان من الذل والهوان. يقول صاحب كتاب"الخراج"القاضي أبو يوسف:"بلغني أنهم يقيمون أهل الخراج في الشمس، ويضربونهم الضرب الشديد، ويعلقون عليهم الجرار، ويقيدونهم بما يمنعهم من تأدية الصلاة، وهذا عظيم عند الله شنيع في الإسلام". ولم يعانِ الموالي من ثقل الضرائب التي يدفعونها لأسيادهم فحسب، بل عانوا وقاسوا من احتقار الأمويين والعرب عامة لهم واستهتارهم بهم. قال أحدهم في وصف الموالي:"يكسحون طرقنا، ويخرزون خفافنا، ويحوكون ثيابنا". وقال بعضهم:"لو لم يكن منا على المولى عتاقة ولا إحسان إلا استنقاذنا له من الكفر وإخراجنا له من دار الشرك إلى دار الإيمان". وقدَّم عربي رجلاً من أهل الموالي يصلِّي به، فقالوا له في ذلك، فقال:"إنما أردت أن أتواضع لله بالصلاة خلفه". وزادوا في احتقارهم للموالي بأن قالوا:"لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة: حمار أو كلب أو مولى". وكانوا لا يكنونهم بالكَُنى ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب ولا يمشون في الصف معهم ولا يقدمونهم في الموكب، وإن حضروا طعاماً قاموا على رؤوسهم، وإن أطعموا المولى لسنه وفضله وعلمه أجلسوه في طرف الخوان، لئلا يخفى على الناظر أنه ليس من العرب. ما حملني على كتابة السطور أعلاه، هو ما أجده على الشبكة العنكبوتية من صفحات يتباكى وينوح أصحابها على زمن الفتوحات الغابر، وكأن الاستيلاء على أراضي العلوج واستصفاء خيراتها واسترقاق نسائها هي أشد لحظات التاريخ تألقاً وعنفواناً. إن شعوب العالم ما عادت تفاخر بماضيها الكولونيالي وأمجادها الإمبراطورية، بل انصرفت عوضاً عن ذلك إلى تطوير حاضرها وبناء مستقبلها، ولك أن تتخيل ما سيحدث في العالم لو اجتمعت أسباب القوة في أيدينا اليوم، أظن أننا سنبيد نصف البشر وسنجعل النصف الآخر عبيداً وإماءً لنا امتثالاً بما فعله الأسلاف! [email protected]