علمتني جامعة الحياة في محاضراتها ودروسها العملية القاسية، أنّه ليس كلُّ الذي يبرق ذهباً، وأنّ الصورة من بعد تبدو جميلة، بل في غاية البهاء والحسن، حتى إذا اقتربنا منها صدمت عيوننا نتوءاتُها وتعرُّجات خطوطها التي أوهمنا رسّامها أنّها مستقيمة. العجيب أنّ هذا الاكتشاف المؤلم قد يبدو أكثر ما يبدو في جوهر من نمنحهم إعجاباً أكثر مما ينبغي، فإذا هُمْ في واقع الأمر قد يحملون خفايا موحشة في غاية الإرعاب. فبعض الذين نتوهَّم أنّ لديهم الرحمة الملائكية، قد نكتشف داخلهم وحوشاً ذات أنياب ضارية لا يعنيها أن ترى نزف الدم يتدفَّق من ضحاياها. ومن توقَّعنا منهم الإنسانية ننفجع أنّهم إنّما كانوا تجّار شهرة، ولاهثين خلف بريق المادة لهاثاً لا يكاد ينقطع حتى تنقطع أنفاسهم المحمومة سبّاقة إلى رحلة الفناء الدنيوي. ومن كنّا نتلَّمس فيهم الحنان والدِّفء ورقيَّ الخلق، لم نجد لديهم إلاّ سراباً بقيعة يحسبه الظمآن ماءً وما هو بماء. فكلُّ تلك الأوهام تتبخّر من مبخرة الحقيقة المرّة التي تحوِّلها إلى رماد كئيب. فهل حقاً أنّ بعض بني البشر قادرون على تزوير حقائقهم تزويراً متقناً يصدم كلَّ من توَّسم فيهم الشفافية وعمق المثالية، حتى إذا كان ابتلاءُ القرب منهم تطالُنا جراحُهم ويقهرنا أذاهم؟ فما الحل مع أمثال أولئك؟ إلاّ أن نتذكَّر قول الخالق جلَّ شأنه: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا، فمعرفة أمثال هؤلاء حقاً فتنة وخيوطاً متشابكة بل معقَّدة يصعب حلُّها والخلاص من عقدها، وليس أمامنا إلاّ الأخذ بنصيحة رسول الهداية"صلى الله عليه وسلم"حينما قال:"الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم". أمّا دوركم يا من ابتليتم بمثل هذا الانفصام القوي بين ظاهركم وباطنكم أن تنزعوا عنكم تلك الأقنعة المزيَّفة، وكفاكم تلميعاً كاذباً لأنفسكم، لأنّها ضرب من النِّفاق الممقوت دنيوياً وأخروياً. ولكن لماذا كلُّ هذا الحجم من التباين بين الشخصية الواقعية والشخصية المصطنعة؟ وهل ذلك برهان على أنّ هذا النوع من النفسيات تندرج تحت مظلَّة الشخصية غير السويّة؟ أم تحت مظلَّة المقدرة الفائقة على التصنُّع والنِّفاق الاجتماعي؟ ليس المقصود بهذا الرأي أن نحكم على الآخرين من خلال مواقف قليلة أو تصرُّفات يسيرة، فالكمال لله وحده، إنّما أعني أنّ تكرار مثل هذه التصرُّفات المتناقضة والمواقف المتضادّة بين عشيّة وضحاها، والتذبذب في المشاعر التي تحتاج لتأمُّل عميق ودراسة نفسية مستفيضة، وذلك بعد أن نصحو من صعقة الاكتشاف المذهل لبعض نفسيّات البشر. لكن ليعلم هؤلاء وأمثالهم، أنّ شمس الحقيقة لا بدَّ أن يراها كلُّ من انخدع برؤية الجمال في ضوء الشموع الباهتة، إذ تنكشف حقائقهم المزيَّفة وأنّهم إنّما كانوا يتصرّفون بحسب مصالحهم الشخصية المغلَّفة بروح الأنانية المقيتة، متناسين أنّ الإنسان السَّويّ هو الذي لا يوجد تناقض بين سرِّه وعَلَنه، فهو دائماً وأبداً يبن يديْ رقيب عتيد. نايف الفارس [email protected]