يقدم الكاتب والقاص خالد المرضي، في"مصابيح القرى"، رواية حافلة باللغة الموحية والآسرة، مازجاً الواقع بالأسطورة، ومنتقلاً بسلاسة ورقة بين الماضي الأبعد والماضي القريب، حيث يدور الإنساني، وتتشكل الأحلام، وتنمو وتموت أيضاً."مصابيح القرى"هي الرواية الأولى للكاتب خالد المرضي، الذي سبق أن أصدر مجموعتين قصصيتين هما"ضيف العتمة"و"لا توقع الكراسة"."الحياة"التقت المرضي، وحاورته حول روايته وعوالمها الجمالية والموضوعية.. إلى نص الحوار: في البداية كان الإهداء موجهاً إلى أبطال الرواية حسنة وسعدي وابن رابعة، ومعهم الكاتب الكبير عبدالعزيز مشري، رحمه الله، لماذا المشري تحديداً؟ ولماذا وضعت اسمه بجانب أبطال الرواية؟ - كما هو معروف عبدالعزيز مشري ينتمي أولاً إلى البيئة والمنطقة الجغرافية ذاتها وإلى فترة معيشة تتقاطع مع بعض من زمن الرواية، ثم إن عبدالعزيز عاش تجربة حياة مؤلمة في صراعه مع المرض، رحل على إثره باكراً، بعد أن ترك لنا أعمالاً خلدت اسمه كروائي، صاحب تجربة رائدة، من هنا وجدت بعض التقاطعات بينه وبين شخوص الرواية، الذين شاركوه في الإهداء. ومن ناحية أخرى كنت ككاتب للرواية، أشعر بأن روح عبدالعزيز مشري ترفل بين السطور أثناء الكتابة، هل أحبت روح عبدالعزيز عوالم الرواية، في مخيلتي وربما في حلم يقظتي كان المشري يقرأ كل ما كتبت، بل إنني تخيلت عبدالعزيز كبطل من أبطال الرواية، إنه البطل الذي لم أكتبه صراحة، لكنني كتبته، لأن الرواية تنحاز إلى الإنسان البسيط بكل همومه وأوجاعه وقلقه. كان المشري حاضراً في الفرح وفي حكايات النسوة وفي الشعاب والجبال وفي الأودية. عبدالعزيز كان مصباحاً من مصابيح القرى. لغة الرواية كانت في نظري محلقة وشديدة التأثير، وعلى رغم أن الحوار بين شخصيات الرواية لم يكن بالعامية، إلا أنه كان مقنعاً ومؤثراً.. هل خطر في بالك أن تستخدم العامية في الحوار، أم أنه كان قرارك منذ البداية؟ كيف تنظر لمسألة اللغة، خصوصاً أن"مصابيح القرى"تحفل باللغة بطريقة مؤثرة؟ - حين قررت أن أكتب الرواية كان هاجس اللغة يشغلني، بمعنى أنني أرغب في الكتابة بلغة تختلف قليلاً عن لغة القاص، ان تكون لغة تجمع بين جماليات لغة القص، وفي الوقت ذاته لا تعطل انسيابية الرواية، لم أرغب في نحت التراكيب والمفردات التي ربما عطلت القارئ، كونه يقرأ نصاً روائياً طويلاً نوعاً ما، ولذلك حاولت خلق الموازنة بين جماليات اللغة، وتوالي الحكايات في انسيابية المسرود، حتى حين قررت كتابة الحوار، حاولت أن أجعل منه حواراً مفهوماً للقارئ غير المرتبط بمنطقة معينة، وفي الوقت ذاته لا أظن أنه ابتعد كثيراً عن لغة وبيئة المنطقة المحكية، بطريقة أخرى يمكن القول ومن خلال تجربتي القرائية بين القصة والرواية، إن الرواية التي تنشغل باللغة لتتجاوز إلى أن تكون هدفاً بحد ذاتها ربما تخفق في القبض على القارئ، بالطبع هذه وجهة نظر قد يرى غيري خلافها. اخترت أن تترك مساحة للقارئ ليشارك في تصور الحدث من خلال ترك بعض الأمور شبه معلقة مثالاً على ذلك وفاة أو مقتل المدرس الغريب ووفاة أو مقتل أو انتحار حسنة.. شخصية المعلم الغريب نفسها كانت غامضة.. هل هو عاشق أم هو أشبه بصياد لعلاقة مع حسنة؟ لماذا اخترت هذه النهاية للغريب وللفتاة؟ - لا أعرف إن كنت قد نجحت في ترك تلك الفراغات لتخدم النص، هل سأدعي أن بعض شخصيات الرواية تمردت واختارت سبيلاً آخر لمسارها وحياتها، هل كنت مسيطراً بدرجة كافية كخالق لحيواتهم المتخيلة؟ مع هذه الأسئلة وغيرها أجد أنني في النهاية ككاتب ربما انحاز إلى نهايات مؤلمة إنسانياً في سبيل أن ينجح العمل المتخيل، أصدقك القول إن نهاية حسنة الباكرة لم ترق لي كإنسان كونها رحلت بطريقة مؤلمة وغامضة، ومع ذلك ككاتب لم أرغب في تقديم حلول مباشرة وتفسيرات تقصي مشاركة القارئ في اقتراح تلك الحلول، إذ نحن في النهاية أمام نص أرى أن القارئ لا بد أن يشترك في كتابته أيضاً، أعتقد أن سؤالك يدل على أن التشويق حصل وهو ما بحثت عنه، صحيح أن الشخصيات التي ذكرت قتلت أو ماتت، لكنها ظلت حاضرة حتى نهاية الرواية في ما تركته من أثر يحفز القارئ على البحث والتساؤل وتتبع المسار الحكائي حتى النهاية. العلاقة مع الآخر بالنسبة للقرى التي تحكمها نظم وتقاليد شبه مقدسة تبدو دائماً حذرة. لكنها في الوقت نفسه حتمية، فإذا كانت القرى نجحت في طرد الغازي، فإنها وجدت نفسها مرغمة على استقبال الغرباء للتعليم واستقبال الشركة الصينية لمد خطوط الكهرباء.. شخصية الفتى عبدالحميد هنا هل تمثل الحلقة التي تربط بين الماضي والحاضر؟ - شخصية عبدالحميد تحاول قراءة الأحداث من زاوية الطفل، هو يرى تقلبات الأمور، ويقف على مسافة بين جيلين، فهو يعيش الماضي عبر ذاكرة الحكاية التي يتلقاها عن طريق الجد والجدة، وفي الوقت ذاته ينتظم في حياة جديدة تشرع فيها أبواب تلقي به في طريق يرسم له مساراً مختلفاً، فهناك التعليم النظامي، وهناك الغريب القادم، وهناك تبدل في أحوال المكان عبر شق الطرق وحلول وسائل جديدة للتنقل، لذلك يمكن القول إنه يعيش حلقة وصل بين جيلين، الجيل الذي عاش حياة اجتماعية تحكمها أعراف القبيلة، وتحد التضاريس الوعرة لسلسلة جبال السروات من قدوم الغرباء إلا في ما ندر، وعالم ينفتح على بيئات وثقافات مختلفة تكسر نمط المعيشة وتخلق تناسجات اجتماعية جديدة. المقطع الذي تحمل فيه الجثة على الدابة لتدفن في ديارها كان مؤثراً جداً.. كيف تربطه بالهجرة التي حدثت في ما بعد وحولت تلك القرى إلى أطلال أو شبه أطلال.. هذا ما لم تقله الرواية.. أو ربما سيقال في روايات قادمة.. لماذا تخلى أبناء أولئك القوم عن قراهم وهاجروا بعيداً؟ - نقل الجثة ربما ارتبط بحميمية المكان كموطن مقدس، وربما دل على علاقات ونسيج اجتماعي متماسك، فمن المعروف أن القرية تعتمد في علاقاتها قديماً على تعاون مشترك يرتبط بأعمال جمعية تقوي علاقة الفرد بجماعته وبأرضه، من هنا يمكن تفسير عملية الهجرة، إذ تخلت القرية عن أهم رابط اجتماعي وهو العمل الإنتاجي المشترك المرتبط بالأرض والزرع والحصاد حضور شخصية ابن رابعة المجنون كان جميلاً، على رغم أن هذا النموذج حاضر في الكثير من الأعمال الأدبية.. شخصياً قرأته من خلال أنه مجنون من وجهة نظر الآخرين فقط. ذلك أنه متصل بحياة أخرى لا يفهمونها.. أليس كذلك؟ - قد تختلف قراءة شخصية ابن رابعة من خلال الثقافة التي يمكن أن تفسر من خلالها شخصيته، هل هو مجنون أم متلبس بشيء من الجن كما قد تقرأ في ثقافات معينة، أم هو الدرويش صاحب الجنون الظاهر والكرامات الخفية، أترك للقارئ قراءة تلك الشخصية كما قرأها المحيطون به، على رغم اختلاف قراءاتهم لها أيضاً. ما اهتممت به ككاتب أن تكون تلك الشخصية مدخلاً لإسقاطات معينة تقوم على استحضار التاريخ والأسطورة والثقافة القروية التي تحفل بمثل هذه الشخصيات الغامضة. تنتهي الرواية عندما يتم إطلاق التيار الكهربائي في القرى، إذ تشتعل المصابيح"لم تحب جدتي لون الضوء الجديد وجدي لم يضع مصباحاً في غرفته"سؤالي هو هل انطفأت تلك القرى باشتعال المصابيح الجديدة؟ - تنتهي الرواية باشتعال المصابيح، لكنها مصابيح تحمل في ثقافة القروي مفهوماً جديداً للحياة لا يرتبط بالضوء فقط، لكنه يرتبط بتبدل نمط المعيشة، فالليل القروي بقي خلال التاريخ الطويل يتوافق مع الفطرة البشرية، كونه سكناً وجالباً للراحة بعد شقاء النهار، ولذلك كانت المصابيح كما هي التقنية الحديثة تحمل في حضورها قلقاً أيضاً، ربما ما عنيته أن الظاهر الجميل في الأشياء قد يحمل بؤساً متخفياً قد لا يدرك إلا بعد أن يستنزف الإنسان، الإنسان الذي يبحث عن الراحة، بينما يقع من دون شعور في متاهات من الأوجاع التي تأتي عادة في صور جميلة ظاهرياً، القرى تتبدل كما الإنسان وبعث حياتها القديمة قد يعني التفكر في حضور الإنسان في معيشته المتمدنة، القرية كما قال سعيد الكفراوي ليست فردوساً، كما أن المدينة ليست جحيماً، هل انتهت القرية؟ ربما تكون قد انتهت، فهي في هيئتها الحالية أقرب إلى المدينة الصغيرة!