أذكر دائماً أن أمي تحب الشعر والغناء وأبي - رحمهما الله - كان قليل الكلام كثير التأمل ربما لميوله التصوفية. هذه نقاط مؤثرة ولكن مدارس الفلاح بمكةالمكرمة والمكتبات الصغيرة التي كانت متناثرة إلى جانب الحرم المكي عند المسعى عملت على تشكيلي ودخولي إلى عالم القراءة في وقت مبكر جداً. لماذا هذه المدارس رغم بعدها عن البيت!؟ كان الوالد طالباً في مدارس الفلاح وزميلاً للسيد علوي مالكي - رحمه الله - ولهذا أصرّ على تسجيلي هناك رغم وجود مدرسة بالقرب من البيت في الحجون، فكنت أركب الباص إلى باب أجياد ثم أمشي إلى الشبيكة ذهاباً وإياباً. مدارس الفلاح الشهيرة حيث النظام الصارم وحصة المكتبة واستعارة الكتب وكذلك الشيخ محمد نور سيف الذي يجعل حصة المواد الدينية ممتعة لغرامه بالشعر وفنون اللغة العربية. بعد ساعة مراجعة مع أحد المدرسين في الحرم نخرج للعب. هناك اكتشفت الكتب والمكتبات الصغيرة منذ رابعة ابتدائي هكذا كنا نسميها. بدأت كقراءات عشوائية أذكر منها أحد مجلدات عنترة بن شداد. في المرحلة المتوسطة اكتشفت غرامي بالشعر وشاركت في الإلقاء في إحدى المناسبات بالمدرسة. صادفت في جريدة"الندوة"حواراً من ضمنه اقتراح للشعراء الشبان بقراءة المعلقات والشعر العباسي وشعراء المهجر وذكر عدداً من الكتب منها جواهر الأدب وديوان أبوالقاسم الشابي وعمر أبوريشة وإيليا أبوماضي وغيرها. في هذه اللحظة عرفت مكتبة الثقافة أشهر مكتبات مكةالمكرمة، ثم عرفت مكتبة في القبة منطقة جنوب حارة الباب تبيع كتباً رخيصة ومستعملة. أذكر كتاب أمراء الشعر العربي في العصر العباسي لأنيس المقدسي وهو كتاب رصين به دراسات ومختارات لثمانية من شعراء تلك المرحلة. هذا الكتاب أوصلني إلى المتنبي وأبي العلاء المعري وأبي نواس. وبقيت مغرماً بأبي القاسم الشابي وجبران خليل جبران الذي كنت أدور حارات مكة للبحث عن كتبه التي أرى عناوينها على أغلفة الكتب. كنت في الخامسة عشر وفي السنة الأولى الثانوية - لم يكن نظام الفصلين الدراسيين معمولاً به حينها - عندما طلبت من المدرس استعارة رباعيات الخيام من المكتبة. اعتذر ولكنه جاءني فيما بعد بدفتر كتبه بيده وقال:"رجّعه بكرة". أفرغت الدفتر كله بيدي على دفتر جديد لكي أعيده في اليوم الثاني. في تلك المرحلة كنت أكتب وأقرأ. عمر أبوريشة إيليا أبوماضي نزار قباني والملحق الأدبي في"الندوة"و"عكاظ". وأضع عشرة ريالات في البريد أرسلها إلى بيروت لكتاب أو كتابين. جاءتني منها مجموعة"أزهار وأساطير"للسياب على عنوان مدارس الفلاح، مكة. بعدها جاء مسؤول الإعلام الشاعر محمد عبدالقادر فقيه - والد وزير العمل المهندس عادل فقيه - إلى أبي وقال كنا نظنه مدرساً في الثانوية وأعارني بعض الكتب القيمة - رحمه الله. ولكنني توقفت عن الطلب بالبريد خجلاً منه. في الثاني الثانوي وجدت نفسي في الفصل الدراسي للقسم العلمي. أحد الزملاء قالها مباشرة:"أنا ما أبغى القسم العلمي"أجابه المدرس بأن المدير اختاركم للعلمي ومن أراد القسم الأدبي فليذهب إلى المدير لتسجيله أنتم مخيرون. أُسقط في يدي. كنت مندهشاً ومحتاراً هل أذهب للأدبي!!؟ وبقيت مندهشاً إلى اليوم. لا أنسى فضل السيد محمد رضوان، مدير مدارس الفلاح عليّ، فهو الذي دفع بي للقسم العلمي، فبعد ثلاث سنوات أصبحت طالباً في كلية البترول والمعادن بالظهران التي هي الآن جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في الظهران ولدت من جديد. ذهبت للكويت باستمرار من أجل الكتب. في بداية الأمر كانت هناك كتب بالبال وأسماء شعرية بحثت عنها وقرأتها مثل السياب أدونيس محمود درويش أمل دنقل سعدي يوسف. أعدت كثيراً قراءة أغاني مهيار الدمشقي لأدونيس، ثم في حفلة لطلاب الجامعة وقف الشاعر علي الدميني على المنصة وقرأ نصاً عنوانه"قصيدة حب إلى فتاة غامدية"كانت قصيدة مذهلة. لغة شعرية جديدة طازجة ومتدفقة. بعدها عرفت علي الدميني الشاعر والإنسان. كانت مرحلة ثرية بحق. قراءة وكتابة وصداقات. فقد عرفت خلالها مجموعة من كتاب المنطقة الشرقية منهم عبدالعزيز مشري وجبير المليحان ومحمد الدميني ومحمد عبيد الحربي الذي كان زميلي في الجامعة وتعرفت إلى زملاء النشاط الثقافي الجامعي، وبدأت النشر في مجلات الجامعة وملحق جريدة"اليوم"الأدبي حوالى 1974. ربما ارتكبت خطأ أنني لم أخض تجربة العمل في الصحافة، رغم أن الفرص كانت سانحة في الدمام، وفيما بعد سنحت فرص في الرياض. تدهور سجلي الأكاديمي فكنت أمام أحد خيارين إما أن أحوّل إلى كلية الآداب بجامعة الملك سعود أو أن أترك هذه الفوضى الجميلة الغائرة في طبعي التي كنت غارقاً فيها وأنكب على الهندسة. فذهبت للخفجي للعمل والقرب من المكتبات في الكويت وعلى أساس ابتعاث إلى اليابان. ثم عدت إلى الجامعة وأقفلت سجلي الأكاديمي وأصبحت موظفاً بالمؤسسة العامة للكهرباء في الرياض، حيث وعدوني ببعثة لإكمال دراستي الجامعية والحصول على تخصص في الهندسة المدنية وهذا ما حصل. * شاعر سعودي. أميركا ... واجتياح بيروت بعد عامين في بوستن بأميركا وقع اجتياح بيروت فخرجت من عزلتي وشاركت الطلاب العرب في فعالياتهم وتظاهراتهم. كانت تجربة فريدة وثرية، بعدها حضرت عدة جلسات لاتحاد الطلاب الفلسطينيين بمعية صديقي وأستاذي أحمد الربعي الذي كان يعد رسالة الدكتوراه في جامعة هارفارد أيامها. ولكنني بعد حضور اجتماعين أو ثلاثة لاحظت العداء السافر بين شباب منظمة فتح وشباب الجبهة الشعبية فتركتهم لتناحرهم وعدت لعزلتي. كتبت عدة قصائد في بوستن منها"الخزاف"و"المسافة"و"أشجار"و"أوراق الحلاج"و"بيروت 1982". الأخيرتان نشرتا في مجلة"اليمامة"، التي كنت مشتركاً بها وتصلني باستمرار. عندما عدت من أميركا زرت مجلة"اليمامة"ومن هناك انطلق بي الصديق الشاعر عبدالله الصيخان إلى الأستاذ عبدالله نور، الذي عانقني كأنه يعرفني منذ سنين وقال:"يجب أن تجمع قصائدك في كتاب". ومن خلال الصيخان تعرفت على بقية المجموعة الرائعة في الرياض الذين جميعهم دفعوا بي إلى النشر في الصحف. عرض عليّ صالح الشهوان وصالح الأشقر كتابة زاوية للملحق الأدبي بجريدة"الرياض"وخطر ببالي اسم"لوجه العاشقة"ولكنهم اقترحوا الضفة الثالثة فحذفت التعريف ونشرت الزاوية الأسبوعية"ضفة ثالثة"1986. واتخذت اسم"لوجه العاشقة"عندما عرض عليّ صديقي وعديلي فهد العتيق الكتابة لمجلة"الجيل". وفي عام 2000 و2001 كتبت زاوية"منازل"نصف شهرية لملحق جريدة"الجزيرة"الثقافي. صدرت مجموعتي الأولى"جلال الأشجار"أواخر 1993 التي كان يفترض أن تكون هي المجموعة الثانية وربما الثالثة لأنني كنت قد تخلصت من قصائدي القديمة التي كتبتها قبل الابتعاث 1980. نشرت بعضاً منها في الصحف ولكنني لم أحفظها. لا أعرف سبباً لعدم اكتراثي بالنشر في تلك المرحلة. في عام 2007 كانت لديّ مخطوطة مجموعة شعرية، وفي لقاء بإذاعة الرياض أتيت على ذكرها مع الصديق الشاعر عبدالله الوشمي فاقترح طباعتها. وتم الاتفاق على طباعة المجموعتين الأولى والثانية، وصدرت المجموعتان في كتاب واحد بعنوان"رقيات يليه جلال الأشجار"عن النادي الأدبي بالرياض والمركز الثقافي العربي، بيروت عام 2007. والآن 1 - 8 - 2013 أحدق وأتأمل بدهشة الأطفال كما هي عادتي التي لا أستطيع الفكاك منها. ما يحدث في مصر وسورية وغيرهما في هذه اللحظات الحيّة ما هو إلا دليل إضافي على أن العرب ما زالوا يعيشون ثقافة عصور الانحطاط التي لا يزالون يحاولون الفكاك منها منذ أكثر من مئة عام.