أجاب وزير خارجية البحرين الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة في مؤتمره الصحافي الذي عقده قبل انعقاد القمة الخليجية في دورتها ال33 بالبحرين عن سؤال حول مشروع الاتحاد الخليجي بقوله:"إن سيادة الدول في هذا الاتحاد المنشود لن تُمَسَّ. وهذا أمر يتردد منذ أطلق خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز دعوته إلى الانتقال بدول المجلس من مرحلة التعاون إلى الاتحاد". ويقود هذا التصريح إلى التساؤل عمّا كان يعنيه الوزير، لاسيما أنه ممن يبذلون جهوداً مميزة في سبيل تحقيق هذا الهدف النبيل منذ إطلاق هذه المبادرة. ومنبع هذا التساؤل هو الحرص على تجنب الوقوع في فخ التمسك بمفهوم السيادة الوطنية بأبعاده التقليدية لدى دول الخليج العربية. هذا المفهوم الذي عفا عليه الزمن بحكم ما جرى من تطورات وأحداث وتغيرات وتحولات محلية وإقليمية ودولية في جميع الميادين خلال العقود الماضية. إن التمسك بمثل هذا المفهوم سيعوِّق بلا شك التقدم نحو المستقبل المشترك لهذه الدول، ويسمح للمترددين بالتحجج به"ما يؤخر عملية الانتقال نحو الاتحاد. إن الدول لا تُنْقِصُ من سيادتها عندما تسعى لتحقيق تطلعات شعوبها الواحدة إلى بناء كيان يجمعها تلج به المستقبل بأمل وطمأنينة، بل تعززها وتحميها. والمنطق يقول إن كل من لا يستطيع أن يحمي نفسه ويصونها بمفرده في عالم اليوم، فسيادته منقوصة حتى لو تشدق بها، وفي مثل هذا الوضع، فإن الاتحاد الذي يحقق مثل هذا الهدف هو قيمة مضافة إلى السيادة الوطنية - إن كان لا بد من القول بها - إلى دول وشعوب كلُّ ما بينها على مر الأزمان يجمعُ ولا يُفرِّقُ. إن السيادة في عالمنا اليوم ليست مطلقة، ولا يمكنها أن تكون كذلك في ظل نظام عالمي متداخل ومتشابك في كل شيء. فالنظام العالمي الحالي، منذ نشأته في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وهو يتقدم على حساب مفهوم السيادة الوطنية. إن كل اتفاق دولي أو معاهدة أو عهد دولي أو بروتوكول في أي مجال تنضم إليه الدول هو على حساب سيادتها الوطنية. وكل معاهدة أو اتفاق في محيط إقليمي، أو في إطار منظمة إقليمية، هو كذلك مما ينتقص من السيادة الوطنية. وكل اتفاق أو معاهدة بين دولتين هو كذلك انتقاصٌ من سيادة الدولتين. لكنَّ هذا كله هو فعل إيجابي ومحمود لأنه يصب في الصالح الدولي أو الإقليمي أو المحلي"ومن ثَمَّ فإن سمو الهدف والمصلحة هو المُحَدِّدُ لما يمكن أن تتنازل عنه الدول من سيادتها"لأن السيادة ليست بذاك الثور المقدس. إن دعوة الانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد ما هي إلا تعبيرٌ عن رغبة شعوب المنطقة، واستشرافٌ للتهديدات الاستراتيجية التي تحيط بها، وتطلعٌ لمستقبل تكون فيه دول الخليج العربية قادرة على مواجهة التحديات التي تنتظرها في عالم متغير ومتقلب ومتحول"ما يعني أن أهداف هذه الدعوة تتجاوز السياسات الصغرى إلى السياسات الكبرى التي تضع الأساس لبناء كيان يكون قادراً على حماية نفسه، وفاعلاً في محيطه، ومشاركاً في عالمه نحو خير العالم وسلامه واستقراره. إن سمو هذا الهدف، وما يحققه من مصالح لجميع دول الخليج العربية، يتطلب أن نتجاوز بعض المفاهيم المعوِّقة، ونقفز فوق بعض الحساسيات غير المبررة"تلك الحساسيات التي أثبتت تجربة التعاون بين هذه الدول خلال ال30 عاماً الماضية أنها وهمية أكثر منها واقعية. لقد فقدت الكويت سيادتها في عام 1990، وعرَّضت المملكةُ سيادتها للخطر في سبيل استرجاع سيادة الكويت. ولو تحججت المملكة وشقيقاتها دول الخليج الأخرى بالمخاطر التي ستقع على سيادتها لما تحقق ذلك الهدف. وهذا دليل صُلْبُ على أن بقاء كل دولة وأمنها وتقدمها هو من بقاء الدولة الأخرى وأمنها وتقدمها. وفي السياق نفسه لو لم تضحِّ بعض إمارات دولة الإمارات العربية المتحدة بمفهوم السيادة في سبيل الوحدة لما كنّا رأينا اليوم دولةً فتيةً عزيزةً تتقدم باطراد في جميع المجالات التنموية، وينعم بخيرها جميع الإماراتيين. إن التجارب الاتحادية الناجحة كثيرة في العالم، ومنها تجربتنا في المملكة العربية السعودية، وتجربة الشقيقة الإمارات العربية المتحدة، والإرث القانوني غنيٌّ في مجال الوحدة والاتحاد وأنواعهما وضمانات تحققهما من دون تمييز بين كبير وصغير، وغني وفقير، وقوي وضعيف. وفيه أيضاً ما يضمن السيادة في جميع الشؤون الوطنية، لذا ينبغي التقدم نحو هذا الهدف السامي من دون أن نقع في استحضار مفاهيم قد تعوِّق مسيرتنا. إن ما يربط بين دول وشعوب الخليج العربية يتجاوز جميع المفاهيم. وهنا قد يكون من المناسب استدعاء موقف لذلك الرجل الحصيف الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، يرحمه الله، الذي يذكره الأمير تركي الفيصل، وهو أنه في إحدى زياراته إليه وقد جمع الشيخ أبناءه في اللقاء، وخاطبهم بأسلوبه البدوي الأصيل قائلاً لهم، وهو يشير إلى الأمير، ما معناه:"إن هؤلاء هم عزوتكم إذا ما جار الزمان". إن هذا القول يختزل كل مفاهيم السيادة في ما بين دول الخليج العربية"فهي عزوةُ لبعضها البعض في السراء والضراء. وعليه ينبغي ومن دون تردد العمل على تحقيق الهدف الذي يجسد ذلك، وهو الاتحاد قبل أن يجور الزمان، وهو لا بد جائر على من لا يستعد له. عوض البادي - الرياض مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية