السفسطائية هي كلمة كانت ذات معنى يدل على التحقير في عهد سقراط وأفلاطون، فلِمَ ذاك؟ لأن السفسطائيين ومن يسمون أنفسهم بعلماء الحكمة إنما كانوا في حقيقتهم يتاجرون بالعلم، فتجدهم من هواة الجدل والمغالطة، وحشر أنوفهم في ما لا يعنيهم، يفاخرون بتأييد القول الواحد، ثم وبنفس البساطة يناقضونه على حد سواء، وبلا أدنى تردد، بل وبكل ثقة وإيراد الحُجج، ولكنها طبعاً حجج واهية للعارف، إنما للعامة تنطلي عليها وتصدِّقها وإن نبهتها، فمن صفات السفسطائي أن يخدع الجماهير، ويخلب العقول بتأثير كلماته الخطابية المنمّقة، ومفرداته التي ينتقيها بدقة، وتمس قضايا الساعة بأنواعها، ومن هنا كان لا بد للسفسطائيين من إلمامهم بسائر المعارف والمستجدات، مروراً يساعدهم في استنتاجاتهم ومغالطاتهم، فتظنهم عالمين وليسوا بعالمين، وتظنهم مستوعبين ومحيطين، وليسوا أكثر من"فهلوية"عصر، إنه التبجّح والتظاهر بالمعرفة بكل عجرفة وانتقاد للسائد هو ما يضفي على السفسطائي سمة الفاهم والناشد للحقيقة، باختصار، بهذه الصورة البشعة، استغل السفسطائيون العلم وأنواع المعرفة، وهبطوا بهما إلى درك التكسّب المادي والمصالح الذاتية، وبالمناسبة لم يقف سقراط موقف المتفرج من هؤلاء المدّعين، فحاربهم ليظهر نفاقهم، فلا ينخدع بهم الناس، ولكنهم حاربوه بدورهم وبلا هوادة. والآن، ولكل من قرأ توصيف السفسطائيين، ماذا لو جلس مع نفسه لحظة تأمل، واستعرض الأسماء المعروفة التي عودنا حاملوها على حشر آرائهم في كل موضوع وبكل وسيلة ممكنة، فإذا عدّدنا هؤلاء المتحذّلقين، فكم من السفسطائيين نحن ابتلينا؟ كم عددهم؟ ليس صعباً حصر العدد، فأكثر أصحابها تناقضاً وتحريفاً لأقوالهم هم المرشحون المثاليون لطبقة السفسطائيين، ولأن الغوغاء والدهماء تجد راحتها في فكر يشبهها، فتجد أن سوق السفسطائيين في انتعاش مستمر وفي تأييد مستمر، ولكن لا بد في كل حضارة ولكل مرحلة من أن يحين الوقت الذي يتحتّم فيه بحث الأساليب العتيقة من جديد، إذا أريد بأمة تلك الحضارة أن تواكب التغيّرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التي لا يمكن مقاومتها بحال، هذه"الميكانيزم"الضرورية لاستبدال الجلد الرث بآخر، ستجعل المدّعي السفسطائي عاجزاً عن تلوين سياسته، بحيث تتماشى مع التغيير السريع ومن دون أن تنكشف حاله، بمعنى آخر التغيير حين يتم على فترات زمنية متباعدة، يتيح للمترزِّقين أن يتنقّلوا من الكرسي إلى الثاني من دون أن يكونوا موضع الملاحظة والرصد، أما وان عرض الفيلم انتهى، وأضيئت أنوار الصالة، فلم يعد التنقّل بالمقدور بين الكراسي كما لو أن الأنوار لا تزال مطفأة، فإن كان للربيع العربي الكئيب من ميزة، فهي هذه الحسنة. فماذا عنك؟ أنت الذي وصلت إلى الاستسلام والسكون والموقف السلبي من كل الفوضى حولك، فليس هذا بذنب السفسطائي للأمانة، ولكنه ذنبك، فأنت من سيّطر عليك الملل إلى أن تركت الميدان للمنسجمين مع ادعاءاتهم، بقي عليك الآن أن تنسجم مع حقائقك المعرفية وثقافتك التراكمية وقدراتك التحليلية وتزاحم، كي تطرد العملات الرديئة، وتطهِّر السوق من زيف بريقها، ومع مرور الزمن ستتطور أفكارك، وستحملها أجيال لاحقة تكون اقتنعت بها، وتبنّتها وأضافت إليها، ولكن الانعزالية والانهزامية اللتين أنت عليهما اليوم، فلن يحملهما سواك، ونعم هذه المقالة لكل محّبَط من الوضع العربي العام، صحيح ما كل من حط الرحال بمخفِق، ولا كل من شد الرحال بكاسب بحسب فلسفة ابن الرومي، ولكن بالأضداد أيضاً تتبيّن قيمة المعادن والأشياء، بل تخيل لوهلة لو أن كل ذي صاحب معرفة أو موهبة احتفظ بها لنفسه! فكيف كانت البشرية ستثرى وتتقدم؟ وهي فكرة لإعلان يعرض على إحدى القنوات بأية حال، ولكنها فكرة ذكية ومنطقية، ولن أجد أجمل من بيت شعر للمتنبي متفرِّد في معناه أختم به ويقول:"سبحان خالق نفسي كيف لذتها، فيما النفوس تراه غاية الألم". كاتبة سعودية [email protected]