يفتقد الفرد أو الجماعة أو العالم التوازن لأسباب مختلفة طبيعية ومكتسبة، إعتيادية وطارئة، تكونية أو تكومية، تقدمية أو تخلفية... وأياً كان السبب فضعف التوازن أو فقدانه يطرح أسئلة كبرى لاسيما أن الآثار الناتجة عن عدم التوازن تتجاوز الماديات إلى النفسيات التي ترتد بالمنجز الحضاري والكيان الإنساني كله. وليس الحديث عن الانسجام عموماً حديثاً ترفياً، وفي الوقت نفسه فهو حديث تحت الضغط، فكل ما هو غير منسجم فإنه يضغط بالطلب نحو الانسجام. لكن ما أريد الحديث عنه هو الانسجام في مفاصل اجتماعية لها معايشاتها اليومية: وأولها الانسجام العائلي: باعتباره المكون الأساسي للوجود، فالأسرة هي أهم مؤسسات الحياة. ففي أول الأمر يشكل الرجل والمرأة الزوج والزوجة إنسجاماً بعلاقتهما الزوجية، ثم يرزقان بطفل، ومن خلال هذا الطفل تفقد علاقتهما الزوجية بعضاً من إنسجامها حيث يتطلب الوضع الجديد إعادة تحديد الأدوار، فالزوجة تصبح أماً، والزوج يصبح أباً، فتتغير العلاقة من ثنائية الزوجية إلى النظام العائلي. إذ يصبح الإثنان ثلاثة. وهنا نفهم أن سبب ضعف الانسجام هو التطور والابتكار والتغير. لكن هذا النظام العائلي الذي أفقد الكثير من الانسجام الزوجي يحتاج إلى قانون إنسجام أكبر يفوق الإنسجام الثنائي إلى إنسجام عائلي ينتظم التغيرات التي حصلت، وهذا ما يعيد التوازن ويحقق العدالة. ضعف الوعي بمفهوم الانسجام وأهميته وقدرته كقانون في إعادة التوازن واستيعاب المتغيرات، يكون ذلك سبباً رئيساً في فشل بعض الحالات الزوجية والتفكك العائلي. ثانياً: على المستوى الفردي يحقق الانسجام للإنسان الرضا والثقة والوضوح والشفافية، وكلها تقود إلى الحب والوئام، وإمكان العيش الآمن من الهزات العنيفة أو العيش وفق قانون الطوارئ والتفكير المفاجئ. نحن نجد من غير المنسجمين من أتيحت لهم فرصة جمع الثروات وتكديس الأموال، لكنهم يفتقدون للبسمة والسعادة، ويشعرون بفراغ داخلي كبير، إذ انعدم الانسجام لديهم بين الحاجات المادية والروحية. كما نجد من يحقق النجاح على حساب صحته. فهو مدير لا يجد نفسه إلا كذلك، ولا يدرك معنى حياته وقيمة وجوده إلى أن تفترسه الأمراض ثم يعود إلى فراشه متلحفاً عن كل طموحاته! ثالثاً: على المستوى المجتمعي الإنساني نحن نرى أثر الانسجام في الحياة اليومية من التعاون والعطاء والإصلاح والقول السديد. إذ إن ما يعنيه الانسجام أن ينطلق الإنسان بالخير نحو الوجود وسيكون هو مصدراً ومورداً للخير الذي يحصل وتتحسن به الأحوال. فالخير الذي تجده هو الخير الذي تبذله. أما أولئك الأنانيون في تفكيرهم، والمنانون في عطائهم، المتشككون في علاقاتهم. فهم يقتلون الانسجام في أقوالهم وأفعالهم. ويفتقدونه في ذواتهم واستقرار شخصياتهم، ويفتقدونه في أسرهم وعوائلهم، كما يفتقدونه في أصدقائهم وفريق عملهم. وهكذا تبدو الحياة أمامهم ضيقة مكتئبة لا تحقق لهم الطموح ولا يشعرون أنها تمنحهم السعادة. أو لا يستحقون البقاء. فالانسجام يظهر على المدير في إدارته، وعلى الكاتب في كتابته، وعلى الشاعر في شعره، وعلى كل ذي مهنة في مهنته. إن دعمنا للانسجام على المستويات كافة هو دعم للحياة والبناء والتنمية والاستقرار، ودعم للإنتاج والفاعلية والأداء المميز، ثم هو أيضاً تخفيف للعنف والعنف المضاد، وشفاء لحالات الاكتئاب والإحباط. وبالاختصار الجامع: الانسجام فهم للحياة بسننها وقوانينها. ولذلك فنحن في التحدى عبر قانون الانسجام هل نحقق وجودنا. أم نفقد السيطرة ونتحول إلى هامش الحياة، ومجزرة الضحايا. هنا تأتي الدعوة إلى إنسجام في البيت، والعمل، والمدرسة، والمسجد، والسوق و... إنسجام في الأفكار ومدركات العقول، وإنسجام في السلوك وحركات الأجساد. وأساس ذلك إنسجام في الروح واستقرار في النفس لنتحول إلى منبع لا ينضب من الشعور الجميل والإحساس المرهف عبر الحب المتدفق نحو الحياة والأحياء. وما أن نفهم الانسجام ونقررالعيش وفق قانونه حتي تتغير كل مجريات حياتنا نحو الأفضل، وحينها نفك أحزمة الأمان. إذ نكون في أمان. وفي أمان الله لنلتقي ونحن في انسجام. [email protected]