زرت ذات يوم إحدى المدارس الابتدائية بمدينة الرياض وقضيت يوماً مع طلابها وشدني الشوق إلى أطفالها، وجذبني الهوى للصفوف الدنيا. وفي أحد فصول الصف الأول الابتدائي قضيت أكثر من حصة مع معلم ذلك الفصل، فقد جلست كالطالب مع تلك البراعم ورجوتُ المعلم أن ينسى وجودي، وأن يتجاهل حضوري، وصرت أرمق أولئك الصغار وأحنُّ لعمر مضى ولسنوات خلت، وتخيلتني قبل أربعين عاماً، وسرح بي الخيال وصار يعرض شريطاً دوَّنته الذاكرة، ويعيد فيلماً سجلته الخلايا، وباتت المناسبة تعرضه برفق، وصار الموقف يُبرزه بتؤدة. وحننت لتلك الأيام الخوالي حنين الواله إلى بكرها، أو ذات الفرخ إلى وكرها، أو الحمامة إلى إلفها، بل حنين الظمآن إلى الماء، والغريق إلى النجاة، والخائف إلى الأمن. وقلت ها أنت تعود القهقرى وصرت كساري الليل ألقى عصاه وأحمد سراه وقرّعيناً، وانعم بالاً. وكان الأستاذ يخالسني النظر ولعله يعجب من حالي ويتساءل عن سكوني فأنا حاضر غائب وأنا جالس سارح. وبعد هنيهة تنبهت وقلت للمعلم إنني عدت للطفولة ورجعت للماضي وتذكرت زملائي آنذاك. وتخيلت أساتذتي يوم ذاك. إنني أشاهد الأستاذ سلطان وقد حنى ولاطف، وأُبصر للمعلم محمد وقد رَقّ وابتسم، تلك صورهم ماثلة ما امحت، وهاتيك أطيافهم شاخصة ما غابت. إن هؤلاء الصغار كحالي وحالك يُسجلون ويُدونون، فأية صورة ترغب أن تسجل عنك؟ هل تودها مشرقة مضيئة؟ وهل ترغبها خيرِّة رقيقة؟ كن لها أباً يكونوا لها أبناء، أشعرهم بعطفك ورغبّهم في درسك، لاعبهم وداعبهم ورغبهم وأدبهم. وهيا ننشد معهم تحية العَلم ونشعرهم بالفخر والبهجة ونزرع فيهم الولاء والمحبة. وبتنا نراقصهم وظللنا نداعبهم وانتهى الوقت وما شعرنا ومضى الزمن وما علمنا. ألا ما أجمل الطفولة! وما أسعدكم معشر المعلمين! * مفكر تربوي.