باشر الإنسان النحت من الطين قبل تقدم أدوات الإنتاج من إزميل ومطرقة، فعصر النحت الطيني الفخاري سابق لعصر النحت الحجري، فالقرطاس ما يسجل عليه بدأ بالطين أولاً حتى وصل إلى لوحة الكومبيوتر لاحقاً، ولأن الطين قرطاس وشاشة الكومبيوتر قرطاس أيضاً من حيث الوظيفة، يمكننا القول بأن بداية فن النحت كانت معيشية بحتة، نظراً إلى حاجة الإنسان إلى ما يدوِّن عليه، ولكن مع تطور وعي الإنسان للنسب البعدية وتقدم وسائل الانتاج دخلت مواد أخرى على النحت غير الطين، كمثل الحجر والرخام، فهل كان لعرب شبه الجزيرة باع في النحت؟ كانوا بدائيين في فني الخط والرسم وكذلك النحت وإن كان متقدماً عنهما نوعاً ما، ومع ظهور الإسلام تطورت الطاقات الفنية تبعاً للتطور التاريخي للمنطقة وأهلها. عبّر النحت قبل الإسلام عن مفاهيم دينية اجتماعية في عقائد وثنية كانت قائمة على تعدد الآلهة، من حضارة ما بين النهرين والهند والصين إلى الحضارة الإغريقية والرومانية والفرعونية حين أخذت النواحي الجمالية تتشكّل، فبعد أن كان النحت كلياً، أصبح جزئياً بتفاصيل الجسم والوجه وتطابقها ونسب الطبيعة، ولأن الإسلام دين حضارة لم يمنع النحت مطلقاً، يقول تعالى:"أتعبدون ما تنحتون"ويقول عز وجل:"واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام"، فالموقف العقائدي الإسلامي صريح في تجنب عبادة الأصنام خاصة، والوثنية بصورة أعم بعبادة مظاهر الطبيعة من شمس وقمر ونهر وبحر وشجر وريح وصنم وحيوان، ولنلاحظ أن الاجتناب غير التحريم، والسؤال: إن كان هناك من يعبد البقر، فهل يعني هذا التخلص من بقر الدنيا أو تحريم لحومها؟ لقد جاء الإسلام بالحل الحاسم لهذه الفوضى البشرية بقوله تعالى:"فاجتنبوا الرجّس من الأوثان"، والأوثان غير الأصنام، فلم تذكر الأصنام هنا، لأنها أحد مظاهر الوثنية، وقوله تعالى"الرجّس"، هو من رجس أي اختلط الأمر، لهذا قال تعالى عن الخمر والميسر إنهما"رجس من عمل الشيطان"، فالإنسان يظن أن الخمر تنسيه الهموم، والميسر يجلب المال، فاختلط عليه الأمر، وهذا ما نفهمه من أمر الله باجتناب الرجّس من الأوثان وليس باجتناب الأوثان ذاتها التي يصعب اجتنابها تماماً، وقد أزال المسلمون معالم الوثنية في المسجد الحرام وأماكن التعبّد لكيلا تختلط الأمور على الناس أثناء العبادة. فتح المسلمون بلداناً كانت مهداً لحضارات أقوام سابقة تعج بتماثيلها، ومع ذلك لم تهدم آثارها، فيكفي ما وصلنا من الحضارة الفرعونية والرومانية والبيزنطية، علماً بأن الفتوحات الإسلامية كانت في السنوات التالية لوفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، أي أن الفاتحين كانوا من الصحابة ممن عاصروا الرسول من الجندي إلى القائد إلى الخليفة، إلاّ أن المسلمين الأوائل ليسوا شعباً همجياً، ولو كانوا كذلك لهدموا التماثيل التي صادفوها في المناطق التي فتحوها، ولكننا نجد في المقابل أنهم أغلقوا معابد النار في بلاد فارس وربما باستعمال القوة لأنها كانت تعبد من دون الله، فهل منعوا استعمال النار للطبخ والتدفئة؟ طبعاً لم يفعلوا، لأنه كان واضحاً في أذهانهم أن الله قد منع"الرجّس من الأوثان"، فالإسلام دين فن وجمال لم يحرّم النحت، وإنما حذّر من الرجّس والاختلاط في الأمور حتى لا يظن الناس في المنحوت النفع أو الضرر والعياذ بالله، أما الأحاديث النبوية فالغالب أنها قيلت في حينها واستوجبتها الظروف التي عاشها النبي لتثبيت الإيمان الصحيح، والذي هو أعلم الخلق أنها ليست من حدود الله، فهل من عاقل يعبد صنماً اليوم، وهل إن حصل، نهدم كل الأصنام، لأن معتوهاً عبد حجراً منحوتاً من دون الخالق؟ [email protected]