يعتقد كثير من الذين لا يتعمقون في الامور بأن الاسلام يكره الفنون ويحرمها، يستوي في ذلك فن الرسم والنحت، او فن الموسيقى والغناء، او فن التمثيل. ووصل الامر في سوء الفهم الى ان الكثير من الجماعات المتطرفة وانصاف المتعلمين يحاربون الفن باسم الدين. فيهاجمون دور السينما ويحرقون نوادي الفيديو والتلفزيون وكل وسائل اللهو البريء. وهذه الفكرة الخاطئة عن الاسلام مرجعها الى النظرة الجاهلة التي لا تميز بين الفن والفساد، او بين الفن الاصيل الراقي الذي يشجعه الاسلام ويعتبره هبة من الله وبين استغلال الفن في الفساد او الكفر والالحاد او الخلاعة، وهو ما يحاربه الاسلام. وهذا هو شرح لظهور هذه الفكرة الخاطئة وحقيقة الامر من القرآن والسنة. لم يكن العرب في الجاهلية اهل فن، فليس في جزيرة العرب انهار ولا خضرة ولا شجر وكانوا ينتقلون اياما كاملة من اجل قطرة ماء او عشب لرعي الغنم. وهذا ما جعل حياتهم جافة خالية من اي فن جاد ومتطور، فلا موسيقى ولا اغانٍ فردية او جماعية ولا تمثيليات ولا رسم ولا نحت ولا رقص شعبي او جماعي. والفن الوحيد الذي عرفه العرب وبرزوا فيه هو البلاغة من شعر ونثر، اما الفنون الاخرى فكانت بحالة بدائية. الى جانب هذا كانت هذه الفنون في خدمة هدفين رئيسيين: الاول هو عبادة الاصنام، والثاني هو حفلات المجون والخلاعة في الخمارات. ولهذا كان المجتمع العربي يحتقر الفن ويربط بينه وبين الفساد لأنه لا يتصور ان هناك فنونا حقيقية لها قواعد علمية واهداف انسانية راقية كما عند الشعوب ذات الحضارة العريقة. والمعروف انهم كانوا يصنعون التماثيل لآلهتهم كاللات والعزى ومناة واثاف وغيرها، وينصبونها داخل الكعبة وخارجها. وكانت هناك صور ورسوم داخل الكعبة للانبياء الاولين ابراهيم واسماعيل تظهرهم وهم يستقسمون بالاصنام. وفي وسط هذه الامة الامية البدائية بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالة كبرى لهداية الانسانية كلها، ومن اهم اهدافها الدعوة الى توحيد الله ونبذ الفكر الوثني الذي يسجد للصور والاصنام من دون الله، ويقدم لها الذبائح والقرابين والنذور. ومن اهم اهدافها ايضا الدعوة الى الفضيلة ونبذ الدعارة والسكر والخلاعة والمجون. ومن هنا كانت دعوة الاسلام الى هجر كل انواع الفنون المرتبطة بالجاهلية وعقائدها وسلوكياتها، فنهى عن صناعة التماثيل للعبادة، وعن رسم كل ما فيه روح، وعن اغاني الخمر والقيان والفجور، وعن الرقص الذي فيه عري وفساد. وبديهي ان هذا النهي لا يقصد به محاربة الفن، بل محاربة الكفر والفساد. والفن الاصيل الهادف ابعد ما يكون عن ذلك كله، فاذا انتفى ركن الشرك والفساد عن اي فن فهو بلا شك مقبول من الدين. وهناك امثلة عدة على امور نهى الاسلام عنها بسبب استعمالها في الجاهلية في الكفر والفساد، فلما زالت عنها هذه الاهداف عاد فأذن بها. ومن هذا ان الرسول صلى الله عليه وسلم نهى المسلمين عن زيارة المقابر في بداية الاسلام، والحكمة في ذلك ان اهل الجاهلية كانوا يقدسون الموتى ويبنون لهم مقابر فاخرة ويضعون فيها الاسرجة لانارتها ليلا ويزورونها ويتبركون بها. فنهاهم الرسول عن زيارة المقابر وأمر بتسوية هذه المقابر بالارض، فقد جاء في صحيح مسلم عن ابن ابي طالب "كان رسول الله في جنازة فقال ايكم ينطلق الى المدينة فلا يدع بها وثنا الا كسره ولا قبرا إلا سواه ولا صورة الا لطخها، فقال احدهم انا يا رسول الله. فانطلق فهاب اهل المدينة فرجع، فقال علي بن ابي طالب: انا انطلق يا رسول الله: فلما عاد قال يا رسول الله: لم ادع بها وثناً الا كسرته ولا قبراً الا سويته ولا صورة الا لطختها. فقال رسول الله: من عاد لصنعة شيء من ذلك فقد كفر بما نزل على محمد" رواه مسلم والنسائي وابن حنبل. وقد فعل الرسول مثل ذلك في فتح مكة، فقبل دخوله ارسل عمر بن الخطاب ليحطم تماثيل الآلهة ويلطخ صورها التي في الكعبة ويسوي القبور بالارض. فنجد ان التحريم جمع بين التماثيل والصور والمقابر، وان النهي هنا لم يقصدها لذاتها، ولكنه نهى عن سوء استعمالها في الشرك بالله. وعندما زالت العادة الجاهلية في تقديس الموتى، واتخاذ اضرحتهم مزارا وتبركا الى الله، عاد الرسول فأذن للمسلمين بزيارة المقابر، وقال: "كنت قد نهيتكم عن زيارة المقابر، الا فزوروها فإنها تذكر بالموت" متفق عليه. والخلاصة ان الاسلام لا يحارب الجمال ولا يحارب اي فن من الفنون الانسانية، طالما لا يكون وسيلة للشرك او الفساد. واذا كانت هناك احاديث صحيحة عن تحريم الصور والتماثيل وكراهية الموسيقى والغناء، فإنما يقصد بها النوع الذي كان سائدا في الجاهلية من اتخاذها وسيلة لعبادة غير الله. اما اليوم وقد انتفى هذا الغرض واصبحت لكل فن من هذه الفنون اهداف انسانية واسعة ورسالة نبيلة وسامية، فلا تنطبق عليها هذه الاحاديث. فدين الاسلام لا يؤخذ بالحرف واللفظ ولكن بالمعنى والهدف. ومن الثابت في الاحاديث الصحيحة انه كان في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة تمثال للزينة يمثل طائرا وتماثيل لعرائس الاطفال، وكانت هناك اقمشة عليها رسوم، وان الرسول استمع في بيته للجواري وهن يعزفن ويغنين في الاعياد، وانه اصطحب زوجته عائشة لتشاهد رقص الاحباش واغانيهم. وبذلك كانت انواع الفن النظيف البريء موجودة في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم الى جانب الامور الجادة كالعبادة والفقه والقرآن. لقد جاء ذكر التماثيل في القرآن في موضعين حسب الغرض من استعمالها، الموضع الاول هو النهي والاستنكار والتدمير اذا كانت صناعة التمثال لعبادته من دون الله، ومن ذلك قول سيدنا ابراهيم لقومه في سورة الانبياء 51- 58: "ما هذه التماثيل التي انتم لها عاكفون. قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين، قال: لقد كنتم انتم وآباؤكم في ضلال مبين". ولم يكتف سيدنا ابراهيم بمجرد النقد والاستنكار باللسان بل قال: "وتالله لأكيدن اصنامكم بعد ان تولوا مدبرين، فجعلهم جذادا الا كبيرهم لعلهم اليه يرجعون". والجذاد هو القطع الصغير اي حطمهم ودمرهم. اما الموضع الثاني فهو الاستحسان والرضا اذا كان الهدف هو الزينة والجمال في غير كفر ولا شرك بالله. ومن ذلك ما جاء في سورة سبأ عن تسخير الجن لسيدنا سليمان يعملون له التماثيل الجميلة للزينة فيقول تعالى: "يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات. اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور" سبأ 12. وفن النحت هنا يعتبر من انعم الله على الانسان طالما انتفت عنه نية الشرك بالله، وطالما كان لإظهار موهبة الفن والنحت التي وهبها الله للبشر وللجان الذين يعملون بأمر سليمان. واقتناء سيدنا سليمان لهذه التماثيل في بيته احله الله له من قبيل الزينة والجمال وحب الفن، وجاء في تفسير القرطبي عن هذه التماثيل انها كانت تصنع من زجاج او نحاس او رخام وانها تمثل تجسيدا للاحياء من طير وحيوان وايضا لبعض الاشخاص كالعلماء والانبياء السابقين والصلحاء. وعلل ذلك بعض المفسرين بأن صناعة التماثيل كانت مباحة في شريعة سليمان، فلما بدأ الناس بستعملونها في الشرك بالله نسخ ذلك، فالاباحة والمنع هنا حسب الهدف الذي يستعمل فيه التمثال وليسا أمرا مطلقا. كان هذا عن موقف القرآن الكريم حول فن النحت، فماذا جاء في السنة النبوية المطهرة في هذا الشأن؟ في هذه الظروف الموغلة في الشرك بالله وعبادة التماثيل والصور جاءت الاحاديث النبوية عنها وعن صناعتها واقتنائها نهيا قاطعا من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه تماثيل او تصاوير" متفق عليه. وقوله "من صور صورة عذب يوم القيامة حتى ينفخ فيها وليس بنافخ" مسلم والبخاري. وقوله: "اشد الناس عذابا يوم القيامة يضاهون بخلق الله" متفق عليه. وقوله: "كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس تعذبه في جهنم" رواه ابن حنبل. وقوله: "اشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون". والمقصود بالصورة هنا هو الرسم او التمثال. ولنا وقفة مهمة عند الحديث النبوي الاخير ومغزى قوله صلى الله عليه وسلم ان المصورين اشد الناس عذابا يوم القيامة، وقد فسرها الامام النووي بان المقصود بذلك "من فعل الصورة لتعبد وهو صانع الاصنام ونحوها فهذا كافر وهو اشد الناس عذابا". واتفق الائمة والفقهاء على هذا المعنى بقولهم "ليس من المعقول ان يكون المصور العادي اشد عذابا يوم القيامة من القاتل والزاني وشارب الخمر والمرابي وشاهد الزور وغيرهم من مرتكبي الكبائر والموبقات". فالمقصود هنا بأشد الناس عذابا من يصنع هذه الصور والتماثيل لكي يعبدها الناس من دون الله. فهو من اشد الناس كفرا واثما وعليه يقع وزر من يتبعه، فالله تعالى قد يغفر للزاني والمرابي وشارب الخمر ولكنه لا يغفر لمن يشرك به. وهذا يؤكد ما ذهبنا اليه من ان جميع الاحاديث النبوية الصحيحة في النهي عن التمثال والصورة انما تنصب على من يفعل ذلك بقصد الشرك بالله وعبادة التمثال او الصورة، فاذا انتفى هذا الغرض فلا اثم ولا تحريم. وقد يقول قائل ان هذه الاحاديث جاءت مطلقة على النحت والرسم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم "كل مصور" ولم يأت فيها استثناء المصور العادي الذي ينحت او يرسم للفن والزينة وغيرها. والرد على ذلك بسيط وواضح وهو ان هذا الفن البريء لم يكن معروفا عند العرب وكانت كل الصور والتماثيل للعبادة والشرك بالله فقط. ولم يكن هناك فن لذات الفن او فن لاي غرض اخر مما يدخل في خدمة الانسانية والحضارة والنفع العام. فهذه الفنون الانسانية البريئة والراقية لم تعرفها البشرية الا منذ عهد قريب. واكبر دليل على صدق هذا الرأي انه كان في بيت الرسول نفسه تماثيل ورسوم تستعمل للزينة ولم يمنعها الرسول ولم يأمر بتدميرها. 1- روى مسلم عن عائشة في باب تحريم الصور قالت: "كان لنا ستر فيه تمثال طائر وكان الداخل اذا دخل استقبله، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "حولي هذا فإني كلما دخلت رأيته ذكرت الدنيا". وكلمة الستر معناها الخزانة او المخدع الموضوع على الارض. وكانت هذه الخزانة كما هو ظاهر من الحديث في مدخل البيت وبداخلها او فوقها التمثال فطلب الرسول من السيدة عائشة ان تنقله من مكانه في المدخل الى مكان اخر ولم يطلب تحطيمه او اخراجه من المنزل. 2- كذلك كان في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم تماثيل للعرائس، كانت السيدة عائشة في صغرها تلعب بها، اذ تقول: "كنت العب بالبنات العرائس وكان لي صواحب يجئن لي فيلعبن معي. ودخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وانا العب بالبنات فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: خيل سليمان، فضحك". رواه البخاري في الادب. ومعنى هذا ان هذه العرائس كانت تشمل كل المخلوفات الحية ومنها البشر والخيل. وفي الحديث عن الصور في بيت الرسول هناك اكثر من رواية: فعن عائشة "خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر اسود" رواه مسلم في كتاب اللباس والزينة، ومعناه ان الرسول لبس رداء من صوف عليه صور رحال الابل. وعن عائشة قالت "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد اشتريت نمطا اي ثوبا فيه صورة فسترته على سهوة بيتي والسهوة هي الطاقة فلما دخل صلى الله عليه وسلم كره ما صنعت وقال اتسترين الجدر يا عائشة فطرحته فقطعته مرفقتين اي وسادتين فقد رأيته متكئا على احداهما وفيها صورة" رواه ابن حنبل. وعنها ايضا انها سترت كوة في بيتها بقماش فيه صور وانها كانت في موضع مقابل للرسول اثناء الصلاة، فقال لها "اميطي عنا قرامك فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي" ابن حنبل. من هذا نجد ان الرسول لم يعترض على الصور عندما صنعت في الوسادة بل اتكأ عليها واستعملها وفيها الصور. وفي المرة الاخرى كان اعتراض الرسول على الرسوم لانها وضعت امامه اثناء الصلاة فطلب تغيير مكانها حتى لا تشغله عن صلاته، فلما نقلتها في موضوع آخر من البيت اباحها. وهذا الامر يحدث لاي انسان منا في بيته في العصر الحاضر، فاذا وقف يصلي والتلفزيون امامه فإنه يغلقه او ينتقل الى غرفة اخرى حتى لا ينشغل بالصور وحتى يمكنه التركيز في الصلاة.