التفكير باليومي والاشتغال على أهم القضايا التي تخترقه من العمق، هو إحدى أهم التوجهات الفلسفية المعاصرة. وهي توجهات تهدف إلى التخلص من مأزق الفلسفة الذي وصلت فيه إلى طريق مسدود، بسبب ما ينسب إليها من نظريات ومناهج ومقولات تتعالى فيها على ما هو يومي ومتغير وآني وجزئي، لمصلحة ما هو كوني وشمولي وأنساق ثابتة، حتى غدت منطوية على نفسها تعيد طرح مواضيعها وتعيد كذلك فرز توجهاتها، بينما الواقع اليومي بهمومه وقضاياه يتنفس هواء مختلفاً ويطرح تحديات على الفكر ليس بوسع الفلسفة ومناهجها التي تولدت في القرن ال 19 أن تجيب على مثل هذه القضايا والتحديات. لذلك مقولة موت الفلسفة بالمفهوم الميتافيزيقي، هي إحدى المقولات التي استشعر أصحابها بأهمية تجديد الأسئلة النقدية حول الحاضر. فميشيل فوكو على سبيل المثال يرى أن مهمة الفلسفة هي تشخيص الحاضر وذلك وفق قراءته التأويلية لنص كانط"ما هو التنوير"، وهناك غيره من الفلاسفة الذين ركزوا على هذه المهمة كآلان تورين وشارلز تولير وهابرماس لكن اختلافهم هو في مفهوم الحاضر وعلاقته بمفهوم الحداثة، ولسنا هنا بصدد الحديث عن هذه النقطة الآن. عموماً من جانب آخر نجد أن تحلل مفهوم الأمومة كما تشهد عليها ظاهرة ما يسمى بالأمهات البديلات المنتشرة في الهند بسبب الفقر، وعلاقة ذلك بالتغيرات الاجتماعية والأخلاقية، وما يتصل بها من مفهوم التبني الأسري في المجتمعات الحديثة هي إحدى تجليات مثل هذه القضايا المعاصرة والملحة على الفكر. ربما يتساءل المرء هنا أننا في المجتمعات العربية بمنأى عن هذه الظواهر، لذلك لا حاجة إلى طرح مثل هذه المسائل على الفكر والفلسفة لأنها ببساطة لا تمس هموم الإنسان العربي ولا قضاياه من العمق. قد يبدو هذا صحيحاً من وجهة نظر تتعامى عن فهم الانزياحات الثقافية بالمفهوم الانثروبولوجي التي تطاول جميع المجتمعات. فعولمة نمط العيش، وعولمة المشاعر الإنسانية كذلك هي واحدة من أهم هذه الانزياحات. أليس سمة الاستهلاك هي ما تحكم حياتنا اليومية في جميع جوانبها المختلفة: من الأكل واللباس وقيادة السيارة واستعمال التقنية والسير في شوارع المدن المختلفة وارتياد المقاهي والمنازل والأعمال، إضافة إلى توسيع رقعة المشاعر المشتركة بين شعوب العالم من قبيل ردود الأفعال حول الكوارث الإنسانية التي تصيب الإنسان جراء الطبيعة أو العنف البشري. هذه الكوارث توحد المشاعر وتوحد ردود أفعالها من غضب وفرح وحزن بفضل تقنيات الاتصالات العالمية. إذن جميع هذه الاعتبارات تقودنا إلى القول من وجهة نظر أخرى أننا مدعوون جميعاً لتأمل تحولات هذا العالم، الذي نعيش فيه بوصفنا متورطين إنسانياً في صنع حياة مشتركة تحفظ للإنسان كرامته على هذه الأرض. لذلك انفتاح الفلسفة على مجرى الواقع اليومي يلبي مثل هذا التورط الإنساني، التي تسعى إليها المعرفة من العمق. أليس إعمال الفكر في ظواهر اجتماعية من قبيل مفهوم النجومية وعلاقته بالعوالم التي تفرخه، مثل السينما والرياضة والسياسة والإعلام والموضة والغناء والأزياء والدين هي حصانة ضد السقوط في فخ تعالي الفكر وانفصاله عن الهم اليومي. ألم يتحدث رولان بارت عن الرياضة والموضة بوصفهما إحدى أهم مثيولوجيات الواقع اليومي؟ وفي ذاكرتي العديد من المفكرين والفلاسفة الذين أخذوا الفلسفة ومناهجها في العلوم الإنسانية إلى الارتباط بالفكر اليومي: من ميشيل فوكو وجيل دولوز وجاك ديريدا ورولان بارت إلى جان بودريار ومورلوبونتي. إلى واحد من مؤسسي علم اجتماع اليومي وهو الفرنسي مشيل مافيزولي. يقول في كتابه:"تأمل العالم"من خلال مقدمة مترجمه فريد الزاهي":"...أن الغرب يشهد منذ ثمانينات القرن الماضي انهياراً متواتراً للبنيات المؤسسية الكبرى التي كانت تمنح معنى للمجتمع. فقد انتهى الغرب إلى ضرب من الإشباع في مجال الظواهر التجريدية والقيم الكبرى والآليات الاقتصادية والإيديولوجية. في المقابل، ثمة انبثاق للكيفي واللهوي وتجذّر للصورة وثورة في مجال التواصل، وبدأت الجماهير تركّز وتتمركز حول اليومي والحاضر والأنشطة التي لا غائية لها". هذه التأملات العميقة في التحليل للمجتمع الغربي يقف خلفها ثراء معرفي في المصادر والرؤى والمناهج، وإحساس عميق يعي تماماً زمنيته إزاء ما يحدث للبنية الاجتماعية والثقافية من شروخ تمس عمق الشعور الإنساني. لذلك من يحاول أن يفهم المجتمعات الغربية عليه أن يوجد الصلة الوثيقة بين النصوص الفكرية والفلسفية والأدبية من جهة، وبين علاقتها بالواقع اليومي التي اتكأت عليه تلك النصوص في نتاج مفاهيمها وتصوراتها ونتائجها. لا يجدي أن نفهم النصوص بمعزل عن ارتباط تشكلها بالحياة اليومية في الغرب، وهذا بالتأكيد يتطلب معرفة دقيقة بالتاريخ الغربي في أدق تفاصيله. لكن للأسف لم يحاول الفكر العربي أن يقبض على مثل هذه اللحظة، فهو بالكاد يترجم النصوص. وحتى يتفاعل معها نجده يعزلها عن سياق تشكلها وظروف نشأتها مفوتاً الفرصة عليه لتجديد فكره النقدي. وهذا ما تنبه له جملة من المفكرين العرب الذين حاولوا أن يركزوا على أهمية التجديد في قضايا الفكر والفلسفة، من خلال السعي في إظهار أهمية ما هو يومي في فهم المجتمع وقضاياه وخلق وعي مغاير لمشكلاته. يقول الدكتور فتحي التريكي في مقدمة كتابه"فلسفة الحياة اليومية":"أريد أن أتناول بالبحث إشكالية علاقة الفلسفة الحالية بالواقع المعاش، ومطمحنا في كل ذلك هو التأكيد على ضرورة التفكير الملح في مجتمعنا الحالي، تلك التي هيمنت عليها النظريات الإقصائية التي ترتدي تارة ثوب التكنولوجيا، مؤكدة أن الفلسفة ما هي إلا أضغاث صالونات وتارة أخرى ثوب التدين لتعلن أن الفكر الفلسفي يعادي في كنهه الإيمان". بالتأكيد هذا البحث له وجاهته لأنه سيثير قضايا ظلت غير مفكر فيها أو على الأقل مهمشة في محيطنا الثقافي العربي، الذي لا يزال تفكيره يركز على اللغوي والبنيوي والمؤسساتي رامياً بالجزئي والمتخيل والجسدي خارج المطلق على حد تعبير فريد الزاهي. وتنصب وجاهته أيضاً على مفاعيله في تحريك المعرفة باتجاه الوعي بكل ما هو تاريخي. يقول عبدالسلام بنعبد العالي في هذا الصدد:"عندما تنصب الفلسفة على اليومي، وعندما تهتم بالصحافة واللباس والرياضة والمأكل والمشرب والإشاعة والإشهار والكليب. فذلك سعياً وراء الفصل بين الطبيعة والتاريخ والبحث عن الجديد في المستجدات، وعن الغريب في الألفة، وعن التاريخي في الأسطورة".