عاد من جديد إلى اللوحة الزيتية المعلقة فوق الحامل، تأمل الجثث المرمية بفوضى وعبث، سمع باب الشقة ينفتح ببطء، ثم ينغلق، وخطوات بطيئة تسير إلى المطبخ المكشوف على الصالة الصغيرة، وماء ينسكب في كأس، ثم قرقرة الماء تندلق داخل جوف عطش، وصوت ارتطام خفيف لقاع الكأس على طاولة المطبخ، وصوت سعيد على بعد خطوات وهو يتأمل:"هايل يا فهد، بجد أنت فنان كبير!"التفت فهد نحوه بحاجبين معلَّقين:"هلا، من وين دخلت؟"ضحك سعيد وهو يشير إلى اللوحة:"دخلت من الباب، لكن أنت الظاهر محتاج تطلع من اللوحة!" دخل سعيد لينام، بينما واصل فهد العمل، وبدأت تظهر معه معالم رجال ملثمين وجنود وعسكر، وما أن اقتربت الساعة من الواحدة صباحاً، حتى أحس بضيق في صدره، كأنما عشرون جندياً يطرحونه ويجلسون فوق قلبه، حتى تضطرب أنفاسه، غسل الفرشاة التي بيده، ونظَّف السكين بسرعة، ثم غسل وجهه برشق متوالٍ من حوض المطبخ، لبس ثوبه وخرج دون شماغ، أدار محرِّك السيارة وسار بها على غير هدى. يكاد الخدر يتسلل إلى جسد الرياض وهي تنام مثل امرأة غامضة، أضواء الشوارع خافتة وهي تصارع أعمدة الغبار التي تصب جحيمها فوق المدينة، الجسر الصغير في برج المملكة كان غائباً في ظلمة الغبار الثقيل، وكذلك الكرة البلّورية فوق برج الفيصلية، سيارات يقودها شبان عابثون تقف عند الإشارات، يقف قرب إحداها، وفي المقعد الخلفي ثلاثة رؤوس ترقص بصخب، بينما صوت المطرب راشد الفارس يشق غبار الليل:"عزًّاه يا قلبي من الهم عزّاه، ومن يواسي دمعتي قال خيره"، ينظر فهد نحوهم بابتسامة، وفي المقعد الأمامي شاب بشعر مربوط من الخلف، يشير إلى فتيات خلف نوافذ مظللة بالسواد، لسيارة كاديلاك سكاليد لؤلؤي، فتفتح إحداهن نافذتها وتقوم بحركة بذيئة بإصبعها الأوسط تجاههم، ليضجّوا بزعيق عالٍ مصحوباً بأزيز العجلات تطارد السائق الهندي المدرَّب على الجولات الليلية. مرَّ فهد من أمام سوق الأندلس ثم العليا مول، وتوقف عند إشارة تقاطع العروبة والعليا، نظر باتجاه محل قصر الأحذية، وفكَّر أن يزور أمه وأخته، لكن الوقت كان متأخراً، فانعطف يميناً سالكاً طريق الملك فهد، وفتح زجاج النافذة لعل الجنود العشرين الذين يرقدون فوق صدره ينزاحون تباعاً، لكن الغبار المتدافع مثل رذاذ مطر هائج، قد جرح وجهه وآذى عينيه، فعدل عن طلب الهواء، وأغلق زجاج النافذة. **** كان يوماً عاصفاً كالحلم، يمرُّ خطفاً أمام عينيّ فهد، الذي تراوحت أيامه بين رائحة الزيت، والقماش الخشن ذي الحبيبات، والفرش المتنوعة، ومذكرات الكلية، وممرات جامعة الملك سعود، والمكتبة المركزية، ومركز سوق غرناطة، وسوق لي مول، وصديقه سعيد، وصديقاته نهى وثريا وطرفة، كانت أيامه بسيطة ونمطية، يجلس في مقهى الشلال على طريق الدمام، أو في مقهى طريقتي بشارع العروبة، يحب فيروز وخالد عبدالرحمن، ويحب الرقص والرسم، ويتابع معارض التشكيل في قاعة شدا أمام بنده العزيزية بالمربع، وقاعة الشرقية شمال مستشفى التخصصي، جولاته مع سعيد لا تتعدى شارع التحلية والعليا، ومطاعمه تتراوح بين بيت الفطيرة الدمشقي بشارع ليلى الأخيلية، وزيت وزعتر في شارع التحلية، ولا يحب من مطاعم الوجبات السريعة سوى ماكدونالدز. صحيح أن ثمَّة علاقات عابرة عقدها مع من حوله، قبل أن يستولي العم على بيتهم، مثل عبدالرزاق الهندي في تموينات السليمانية الذي فتح باسمه حساب مؤجل الدفع، وأبو ريَّان صاحب مخابز السفراء في شارع العروبة، لكن العلاقة كانت سريعة وعابرة، أما الآن فقد تجاوز عالمه الصغير الحميم، كأنه فجأة سقط من مروحية صغيرة في أحراش غابة مظلمة وموحشة، جعلته ينظر في الشجر الكثيف أول مرة، ويسمع أصوات كائنات جديدة ومخيفة، ويرى أعيننا حمراء مشبوبة بالخديعة. هو الآن في منام سيصحو منه ذات صباح، ولا يجد منه سوى أوراق يابسة في ممر زهير رستم تدفعها ريح خفيفة يقودها أيلول، وسيقف في الشارع والشمس الصفراء النابتة من الخلف قد بدأت تصفع الجسر العالي لبرج المملكة الضخم، ثم يمطُّ ذراعيه على اتساعهما ويقول:"يا الله صباح الخير"فيمضي محتذياً نعله الزبيري المتهتك والذي يسحبه ببطء حتى يجرح وقعه المنتظم على الإسفلت سكون الصبح، يتسلمه شارع سيدة الرؤساء الموازي لشارع العروبة، ثم يتجه شرقاً هابطاً من أمام مبنى شرطة العليا القديم، واقفاً ناعساً أمام فحيح التنُّور، بينما الجذع المربوع للخبَّاز الأفغاني عبدالمولى يتمايل وهو يضرب بخفَّة جدار الفرن بحاملة العجين المستديرة، ثم يمسح عرق جبينه بفوطة متسخة تتدلى فوق كتفه الأيمن. لم تكن لحظات المستشفى والإسعاف وموت الأم معذَّبة وصراعه مع عمِّه وابنه، وحواره مع المحقق وموضوع التنازل والقاضي والمحكمة والثلاجة والمغسلة والجامع والمقبرة، هي لحظات معروفة ومألوفة لديه، بل كانت لحظات رعب وقلق وخوف، لحظات جديدة ومريعة تشبه لحظة من خرج من عتمة شقة صغيرة في المصيف، إلى فضاء وحشي سديمي ثقيل ومؤلم يجلب الريبة في تفاصيله. كان نقيَّاً ووديعاً، يدمن رائحة الزيت، ويحب الورد والموسيقى والفنون والحياة البسيطة الواضحة كالشمس، ويحب طرفة أيضاً، لكنه الآن بدأ الخطوة الأولى في عالم غامض وغريب يحاكمه ويتآمر ضدَّه، كان في مشهد رومانسي حميم من فيلم طويل جداً تلته فجأة جلبة وقع حوافر خيل وسيوف وطلقات رصاص ومعركة ورؤوس وأشلاء تتطاير في الأنحاء. **** رفع فهد بصره إلى النافذة الزجاجية المضببة، لعله يلمح طيف أخته، لكنه لم ير سوى الصمت والموت البطيء، ولم يجد سوى حوض النبتة المتيبسة هناك. أدار محرك سيارته ومضى منعطفاً يساراً، ماراً بجامع شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، ناظراً نحو الدرج الجنوبي، حيث أرفف النعل فارغة، لكنه لمح نعلاً على الأرض، نعلاً زبيرياً متهالكاً يشبه نعل أبيه، نعل أبيه الأخير، الذي قاده إلى حتفه في رحلته المشؤومة. بعد أن تجاوز الجامع ضج قلبه بالقلق، فاستدار وأوقف سيارته، نزل خائفاً ومرتبكاً، خلع نعله عند الباب، وتأمل قليلاً مقاس النعل الزبيري المركون أمام الباب، وضع قدمه اليمنى بداخله:"هذا مقاس أبوي"! حين مد يده ليفتح الباب أحس بقشعريرة تسري في جسده كماء بارد، وتحفزت شعيرات جسده، فتح الباب ببطء شديد، فرأى في أقصى الجامع جهة الغرب، قرب المحراب، جسداً ملتفاً بمشلح وبري كما لو كان نائماً، وجهه متوجّه القبلة، فكَّر أن يمشي بهدوء كي يرى الوجه، خاف أن يستيقظ، لكنه عزم، وخطا بإيقاع بطيء، محاذراً أن يحدث ثوبه حفيفاً ما. حين وصل قرب المحراب تطلَّع في وجه الرجل النائم، لكنه كان يغطي وجهه بشماغه، فكر أن يحدث ضجة كي يستيقظ، لكنه تراجع ثانية، وسار نحو الباب متلفتاً كل بضع خطوات نحو القبلة، حيث الرجل النائم. راح يتأمل النعل قليلاً، كان يشبه النعل الذي تناوب لبسه أبوه وأبوسعيد أيام المعتقل، كلما ذهب أحدهما إلى التحقيق، حتى جاء ذلك الفجر الثقيل، فلبس أبوسعيد النعل الزبيري، وخرج ولم يعد هو، ولم يعد النعل أيضاً.ً هل هذا النعل الراقد كشاهد أمام باب الجامع، هو النعل ذاته الذي انتعله أب سعيد قبل ربع قرن؟ خرج من الحارة نحو طريق محال باعة الورد، وسار جنوباً حتى أسواق الجزيرة، ثم انعطف يساراً متجهاً صوب شارع إبليس، حيث محال الباعة البنغال، الذين يبيعون سرَّاً أقراص الفضاء ومستقبلات الإرسال الفضائي، وبطاقات القنوات الجنسية المشفَّرة، ثم تسلل إلى طريق صغير خلف أسواق السدحان، وتوقف أمام شركة إصدار تأشيرات السفر إلى بريطانيا، في تمام العاشرة صباحاً، حاملاً أوراقه المطلوبة، وتذاكر السفر. مقطع من رواية تصدر قريباً بالعنوان نفسه عن المركز الثقافي العربي - بيروت