لم تكن لديه سوى سيارته التويوتا كريسيدا، موديل 76م التي يقتحم بها الشوارع المضاءة والمحفوفة بالأشجار، كان لونها أبيض قبل أن يدهنها بالأصفر، ويثبّت فوق مقصورتها علامة الأجرة، ويرتاد بها الأسواق ومواقف صالة المطار القديم، ينقل بها الغرباء والنساء والأطفال والشباب في كل وقت، منذ الصباح الباكر حتى منتصف الليل، ويمتد به التجوال إلى خيوط الفجر الأولى أيام العطل الأسبوعية. سيارته بمصابيحها الدائرية المدبّبة، وهي تجوس في طرقات الحارات القديمة تشبه خفّاشاً يتلمّس طريقه ويصطدم بالجدران. يحب سيارته كثيراً، يرعاها ويجمّلها ويحنو عليها، على التابلوه الخلفي وضع مخدّتين مطرّزتين بمرايا دائرية صغيرة جداً، كأنها أقمار صغيرة تكسر ضوء شمس الظهيرات العمودي. على التابلوه الأمامي ثبّت قماشاً زيتياً تتدلى من أطرافه أهداب خيوط من اللون ذاته. ومن مرآة السائق المثبّتة على الزجاج الأمامي تتدلّى كرة تنس طاولة مغطاة بأقراص التنتر الملوّنة المثبّتة بدبابيس، حتى أن التماعاتها تبرق كلما تهادت أو تهزهزت سيارة الكريسيدا. على باب السائق الجانبي من الداخل ألصق صورة الفنانة سعاد حسني في لقطة مغرية، بشفتين مفتوحتين، وبشعر معقوص على شكل ذيل فرس، وهي ترفعه بيد وتنظر نحو الكاميرا بدلال، وكلّما نظر إليها لحظات انتظار الراكبين والعابرين شعر أنها تنظر نحوه، ثم تأوه طويلاً وصمت ونظر إلى النساء العابرات في الشارع. ركبت معه نساء كثيرات، ونقلهن في شوارع المدينة المزدحمة، واختصر الطريق بالدخول إلى طرقات ودهاليز ضيّقة وخالية في الحارات، ولم يفكّر فيهن، على رغم أن رائحة عطور بعضهن تدوّخ رأسه، على رغم أن بعضهن يتكلّمن بغنج، ويقمن بحركات موحية ولافتة، لكنه حسم الأمر بأنه يبحث عن المال لا عن إهداره. ذات مغرب صيفي حارّ ودبق، بينما يقف بسيارته الكريسيدا الصفراء في طابور سيارات الأجرة، المقابل لمبنى المحكمة وسط البلد، ركبت امرأة في المقعد الخلفي، قبل أن يصل دوره، إذ بقي أمامه ثلاث سيارات أجرة، التفت نحوها: لم يصل دوري يا خالة!! قالت له بلهجة نزقة، وصوت دقيق وناحل جداً: أنا لست خالة، ثم إنني ركبت ولن أنزل!! قال لها باستحياء: ما كنت اقصد، لكن لا أستطيع أن أتحرك إلا بعد أن تتحرك سيارات التاكسي الثلاث!! على اليمين رصيف، ويسار فيه الحاجز!! كان يشير وهو يشرح لها، لكنها باغتته بلهجة هادئة، وصوت يشبه قطرات مطر ناعمة: ما يهم، سأنتظر معك!! ثم فتحت نصف زجاج النافذة اليدوية، وهي تتأفف من سطوة الحرّ الشديدة. بعد أن تهادت سيارته في الشارع خارجاً من ازدحام السوق التجاري، وحدّدت له المكان المقصود، طفرت من روحه أسئلة بدأت تؤرجح بعنف كرة التنس المزيّنة بالتنتر، ما الذي جعلها تتجاوز السيارات الثلاث، وتنتقي سيارتي تحديداً، على رغم أن إحدى السيارات أمامي من نوع الكابريس الجديدة، وهي أكثر فخامة من سيارتي الرخيصة، بل يكفي منها مكيّف الهواء الذي يساوي وحده سيارة أخرى في قيظ هذا البلد. قاطعته وقد تزحزحت إلى المقعد خلفه مباشرة: أوووه... والله حرّ!! ثم طلبت منه أن يتخذ طريقاً أخف ازدحاماً، فالتقط طريقاً جانبياً في أحد الأحياء الجديدة، متجهاً ناحية الغرب، حيث ضوء الشمس الأصفر ينكسر على زجاج السيارة الأمامي، ثم شعر فجأة بحركة خلفه ضاعفها ارتطام ركبتها في ظهر مقعده، نظر في المرآة، فلمح عينيها المرسومتين بعناية، وقد أزاحت غطايتها السوداء عن وجهها لتمسح بمنديل ورقي أبيض قطرات عرق تجمّعت فوق جبينها. نظرت نحو عينيه في المرآة ولم تنكسر عينيها أبداً، سألته عن اسمه ووظيفته وأشياء سريعة، استجاب لها كما لو كان مخدّراً أو مسحوراً. وقبل أن تغادر سيارته دفعت له بيد بيضاء وبضّة ورقة من فئة الخمسين ريالاً، لكنه أقسم ألاّ يأخذ منها شيئاً، أصرّت هي، لكنه امتنع، لتلقي بالورقة في المقعد الجانبي، وتغادر. نظر إليها وهي تمضي جهة باب منزل حديث، لم يكن منزلاً طينياً أو شعبياً، بل كان منزلاً حديثاً تفيض من وراء سوره شجرة الجهنميّة بزهرها الناري، كان جسدها فارعاً، وهي ترفع عباءتها إلى منتصفه، لتضيء من تحته تنّورة صفراء بورود سوداء وعسلية، وقبل أن تغلق الباب وراءها نظرت نحوه وقد نزعت غطاء رأسها وهي تهزّ بشعرها الأسود الداكن على الجانبين مثل فرس محموم. ابتسم وتنهّد قبل أن يضع ناقل السرعة على الرقم واحد، ويدوس على كابح البنزين ببطء، وهو يتأمل المنزل ونافذتيه الأماميتين وأشجاره وأسلاك الكهرباء التي توازي سوره، وما إن انعطف تجاه الشارع العام حتى مدّ يده إلى المقعد الأمامي متحسّساً ورقة الخمسين ريالاً، قرّبها من أنفه ليشمّها، وقد سقطت من وسطها وعلى حضنه ورقة علامة تجارية لأحد الملابس، قلبها إلى ظهرها فهاله أن رأى رقماً هاتفياً، وأسفل منه رقم 12ماء.. قرأها أولاً: ماء، ثم قال لنفسه ربما مساء، وليست ماء، فقد أهملت كتابة سنن السين، لم يكن في المنزل المتواضع الذي يعيش فيه مع زميل عمل خط هاتفي، وأين يجد هاتفاً بعد منتصف الليل، قرّر أن يزور صديقاً قديماً، لديه شقة في وسط البلد وبها هاتف، كان صوتها ليلاً هائلاً وأكثر دفئاً وحناناً، كانت صغيرة ومطلّقة، تعيش مع أبوين عجوزين، أحدهما مقعد فتتولى العناية به. قالت انها أحبته منذ الوهلة الأولى، وقالت له كلاماً كثيراً: ما أنهيت مشترياتي ذاك اليوم، كنت متجهة بسرعة إلى محل بيع ملابس جاهزة أريد استبدال بلوزة حمراء فضفاضة، ما صارت على مقاسي، كنت أنوي أرجّعها قبل آذان المغرب، وقبل ما تقفل المحلات، لكنني مررت بمواقف التكاسي، ولمحتك تلعب بشاربك، أحسست بشيء داخلي، شيء تكهرب، ثم رجعت بعدما تجاوزت سيارتك بخطوات وركبت.. يمكن تقول إني جريئة، لكن والله أول مرة تصير لي، شيء غصب عنّي رجّعني لسيارتك.. ما صرت أتحكّم بتصرفاتي. قالت له كلاماً ليلياً ساخناً وجامحاً، انساق معها من دون أن يشعر بما حوله، تحوّل إلى شقة زميله، وصار يسهر حتى وجه الفجر، أحبّها كثيراً وأحبته بجنون، لم يعد يهتم بسيارته ولا يجمّلها، صار يجمّل وجهه ويعتني بملابسه، ويسهر على صوتها المنخفض الذي يغسل به وحدته وكآبة الليل. أول مرّة قابلها بعد اتفاق هاتفي، ركبت من أمام مكتبة الفرزدق في الشارع العمومي القريب من منزلها، واتخذت مكانها في المقعد الخلفي كما لو كانت مع سائق أجرة. بعد أن تحرّكت سيارته في الشارع قليلاً طلبت أن ينعطف داخل شارع فرعي، وما إن لاذت سيارته الصغيرة حتى أشارت له بأن يقف. توقّف، فنزلت وركبت بجواره وهي تمدّ يدها البيضاء الرقيقة لتصافحه، غاصت يدها داخل ضخامة يده، ودارى ارتباكه بأن سألها كيف يستطيع أن يمشي في الشوارع وهي بجواره ؟ قالت له إنني زوجتك، هل يمكن أن تركب زوجة صاحب الأجرة في الخلف كأنها امرأة أجنبية؟ أعجبه كلامها ومنطقها وليونة يدها الممتلئة وهي تنام بوداعة داخل يده، ثم تتشابك أصابعها الرفيعة ذات الأظافر المصبوغة بالأحمر بأصابعه.. حتى أنه يتذكّر الشارع الفرعي الخالي الذي رفع فيه يدها إلى شفتيه وقبّلها، يتذكّر المنازل التي تحفّه من جهة، وسور المدرسة الذي يحفّه من الجهة الأخرى. يتذكّر أغنية يا صاح أنا قلبي من الحب مجروح التي غنّاها محمد عبده وهي تناوله أول قبلة في حياته، بعدها أحس أن البلد اختلفت، بدأ يرى أشياء كثيرة في طريقه، يرى البنات في الشوارع، ويطالع في الأشجار، ويتأمل لوحات النيون، ويمازح باعة المحلات التجارية، ويقرأ الجرائد، ويشتري المجلات الملونة، ويبحث عن كتب الشعر الشعبي، ويتابع جديد الأغنيات، ويتفهّم كلماتها، من دون أن يتمايل مع ألحانها فحسب كما كان سابقاً. بعد أن غرقا معاً في بحر غرام لا قاع له، وبعد أن تجوّلا في الشوارع والطرقات والحارات، وهي تضع طرحتها وغطايتها السوداء على رأسها ووجهها في الشوارع العامة، وتزيحها إذا دلفا مثل لصّين أو خفّاشين ليليين في دروب فرعية خالية، لتنهب منه قبلة، على رغم أنها حاولت أن تفعلها في شارع عام ومملوء بالمحلات التجارية، بحجّة أنه خاوٍ ونحن في آخر الليل، لكنه صدّها بحذر، على رغم أن يدها اليسرى لا تكفّ عن الذهاب إلى مكانها المعتاد. بعد أن ضجّ جسدها ونضج مثل ثمرة ذات ليل، قادته إلى مكان مهجور على أطراف البلد، وما إن استوت سيارته الأجرة في نهاية طريق ترابي مهجور في أحد الأحياء الجديدة، وأطفأ نور سيارته، حتى اندفعت نحوه وطوّقته، ثم جذبته نحوها في مقعدها، وجعلته يقيس حزنها ووحدتها ووحشتها، كان مثل حيوان برّي صغير، لا يعرف كيف يدلف أبواب الغابة، كان يجرّب بحذر وفضول ورغبة، وهي تفعل معه بصبر وبحنان، تقوده من يده مثل جاهل، وتساعده حتى أدرك غايته، وبلغ المتعة كلها. قالت له ستتزوجني، قال لها سأتزوجك، أحبّها كثيراً، وأدمنت حبّه، واستمتعا مراراً، حتى بكت ذات يوم معه وهي مثل عصفور ذبيح. قالت ان ثمرة حبنا تكبر في رحمي، فاضطرب ووعدها بأن يحسما الأمر سريعاً، بعد أن يشرح لأهله رغبته بالزواج، ذكر لهم اسم عائلتها، فضحكوا طويلاً، وأكدت له أمه في قريتها أنها ستبحث له عن عروس مناسبة، لكنه اعترض، قالوا له أنت ابن القبائل، أنت الحرّ ابن الأحرار، تتزوج ممن لا أصل ولا فصل لها، وحين لاحظوا إصراره هدّده أخوه بالقتل، وشهر في وجهه بندقية صيد إن فكّر، مجرد تفكير، في هذه المرأة الوضيعة. لم يكن الأب المقعد ينتبه للبطن الذي تكوّر، ولم تكن الأم ببصرها الشحيح تلتفت أو تملك أن ترى البطن الذي كبر، مخفوراً بالقمصان البيتية الواسعة، كان الجنين يرجف بنزق، وقلبها يرجف برعب، كانت تبقى الليل كلّه تنتظر الهاتف اللعين، الذي أدمن الصمت الأبدي، حاولت أن تبحث عن طريق يوصلها إليه، كي يساعدها في هذه الورطة، كي يدفنا هذا السرّ معاً إلى الأبد، لكنه لم يترك أي شيء، لم يترك أثراً، كانت تبكي الليل كله، تلعن الهاتف والقبائل وسيارات الأجرة والشوارع والشهوة والحب والسوق والدكاكين والبلوزة الحمراء الفضفاضة وأغنية يا صاح والأغاني كلها والقصائد الشعبية. بعد أن تكوّرت قررت أن تبحث عن صديقة الطفولة، أيام الابتدائي والمتوسط، أن تتصل بها وتبحث معها عن حل سريع وعاجل لهذه الورطة والفضيحة، حتى لو كان هذا الحل هلاكها، وبقاء والديها من دون عائل، كم فكّرت بأن تعبر طريقاً سريعاً كي تدهسها سيارة مسرعة، لا يهم حتى لو كانت سيارة أجرة، تتدلّى من مرآة سائقها كرة تنس مزركشة بأقراص التنتر الصغيرة الملوّنة، المهم أن أضع حدّاً لهذا الكابوس الطويل. ذهبت مع صديقتها في لحظة المخاض إلى امرأة عجوز قابلة في حي العدول، الحي الشعبي الفقير، كان سائق العجوز وشريكها في العمليات تلك قد نقلهما من مكان محايد، حدّدتاه له هاتفياً، بعد أن وضعت صبيّاً قمحي البشرة، وضعته العجوز بمشيمته والدم المصاحب داخل كرتونة موز معدّة لهذا الغرض، وبداخلها كيس نايلون ممزّق، حملها السائق باعتياد بعد أن غطّى الكرتونة بقماش ضاف، ومضى بعد منتصف الليل، مخترقاً الشوارع والحارات، حتى إذا دخل حي السدّ الغربي، متجاوزاً مغسلة الملابس المطفأة اللوحة، وتموينات السدّ المركزية، ليصل إلى الساحة المجاورة لمسجد ابن الزبير، أوقف سيارته الماركتو البيضاء في صمت الليل، ونزل منها متلفّتاً في المخارج التي تفضي إلى الساحة، ليفتح الباب الخلفي ساحباً كرتونة الموز بغطاء القماش المشجّر، ليضعها لصق جدار المسجد، قريباً من الباب الرئيس للمسجد، ثم يفرّ بسيارته إلى الطرقات الواسعة الخالية قرابة الفجر. لم يكن طراد يقرأ تلك التفاصيل في الملف الأخضر العلاّقي، وهو في محطة حافلات السفر، كان يقرأ مستندات رسمية، قبل أن يغرق في تخيّلات طويلة متشعبة، انتهى منها بآهة طويلة وعميقة، وهو يهمس في داخله: مسكين أنت أيها الحبيب اللقيط ناصر، هل كان اسم أبيك صاحب سيارة التويوتا الكريسيدا الأجرة عبدالإله، وهل كانت أمك ذات البلوزة الحمراء الواسعة، والتنورة الصفراء ذات الورود السوداء والعسليّة اسمها صالحة؟ هل كان عليك أن تنام يومك الأول في الشارع، وأن تفقد عينك بهجوم قطط متوحّشة في الليل، وهي تراك مجرّد لحمة حمراء رجراجة؟ لماذا لم تكن داخل بيت حديث تفيض من سوره شجرة جهنّمية بزهر ناري؟ لماذا لم تتجوّل في سنواتك الأولى داخل سيارة أجرة تناغي داخلها أبيك وأمك؟ اللعنة على آفات القبائل وأعرافها، ماذا وجدت أنا يا صاحبي ناصر من القبيلة؟ لا شيء، كانوا يصفونني بالمخروم، وهم يصفونني بأنني بلا أذن، بعد أن كانت سمعتي وشجاعتي تسبقانني في البراري الموحشة!! هذا أبوك يا لقيطي تركك، وفرّ من حياة أمك لأجل القبيلة، لم يهتز قلبه المحبّ لبكاء أمك التي لم تتبع القبائل، ولم يصغِ لانتفاض جسدها الصغير الذي علّمه الحب، وأراه الحياة الجديدة، بعد أن كان فظّاً جلفاً، لا يعرف من العالم غير ابتسامة سعاد حسني وعينيها وشعرها المرفوع كذيل فرس. * كاتب سعودي. والنص من كتاب "فخاخ الرائحة" الذي سيصدر عن دار رياض الريّس.