عندما استفاق إبراهيم كانت الغرفة غارقة في ظلام دامس، فيما استولى عليها صوت مطبق، بدا له كأنه توأم ملاصق لتلك العتمة الخانقة. متنفساً بثقل حدق في ما حوله، غير أنه لم يستطع تبيّن أي شيء. كان على يقين تام بأنه لم يكن يحلم ولكن لدهشته فإن أياً من وساوسه المعتادة لم تراوده. وكان من دأب إبراهيم كلما نهض من النوم ان يلفى نفسه نهباً للمخاوف، فيتذكر على الفور أسوأ ما حدث له بالأمس من الأمور. لم يسره ذلك على الاطلاق، بل ظن للوهلة الأولى أنه فقد القدرة على الإحساس وان جسده تحول إلى قطعة من جماد وأضحى جزءاً من ذلك الليل الهائل السواد الذي ملأ الغرفة. مذعوراً رفع جسده ببطء أولاً، كأنما ليطرد عن نفسه تلك الفكرة المريعة، ثم عندما تبيّن أنه ما زال قادراً على الحراك هبّ واقفاً. الآن أحسّ بالهواء البارد من حوله، وكان جسده مبتلاً بالعرق. وما فتئ ان لمح خطاً من الضوء يلتمع أسفل الباب. فكر ان يعود إلى الفراش لكنه كان يدرك أن النوم لن يواتيه بتلك السهولة. وكان يعلم أنه لا بد أن يكابد ساعة أو ساعتين من الارق قبل ان يتمكن من النوم. غادر الفراش وسار في حذر كمن يخاف ان يوقظ أحداً على رغم انه كان يعيش وحيداً. متحسساً طريقه إلى المطبخ راق له الخطو على أرض الغرفة العارية الباردة. لم يعلم ما الذي جاء به إلى المطبخ، ظل هناك حتى الفت عيناه الظلام. انحنى ملتقطاً كوباً فارغاً أدار الحنفية بحذر وملأه بالماء. لم يشأ العودة إلى الغرفة، فحمل كوب الماء وخرج إلى المصطبة التي امتدت أمام البيت، وكان فتح الباب بتسرق وتركه مشقوقاً، ويظن أن هناك من يراقبه ويرصد تحركاته. كانت المصطبة مغمورة بضوء النجوم الشاحب. وضع الكوب على الأرض وقرفص بمحاذاة الباب ورفع يده وراح يمسح وجهه المتعرق. وبأسرع مما أمل وتوقع هبّ نسيم بارد انعش جسده المتصلب. أخذ نفساً عميقاً وانشأ يرتشف الماء رشفات سريعة متقطعة. حينما أتى على كل ما في الكوب، مكث جالساً هناك عاقداً ذراعيه فوق ركبتيه محدقاً في الفراغ. فكر أنه يود البقاء هنا إلى ان ينبلج الفجر ولكنه كان قلقاً مما سيظنه الذين لا يكفون عن مراقبته. كانت فكرة النوم بعيدة كل البعد عن نفسه. "ولكن لماذا لا يتركوني وشأني؟" تساءل بيأس ونهض عائداً إلى الغرفة، ارتدى ثيابه ببطء وخرج. كان على يقين لا يخالطه أدنى شك بأنهم سيتبعونه على الفور. لم يكن ثمة اثر للحياة في الطريق المجاورة. كان كل شيء ساكناً على وجه مريب. راح يخطو بتردد مسترقاً النظر إلى نوافذ البيوت الممتدة على طول الطريق. كانت مظلمة جميعاً، وبدا كأن أهلها هجروها تحت جنح الظلام. لكنه كان يعلم أنهم هناك يراقبونه من خلف شقوق النوافذ. وأثار انتباهه ألواح الصفيح التي صنعت منها السقوف. للحظة راودته الرغبة بأن يدنو من أحد البيوت لكي يتأكد أن ليس من أحد هناك يراقبه، غير ان الشجاعة لم تواته، ثم أيّ مصير سيلقاه لو قُبض عليه متلصصاً، فكر لنفسه وغذّ الخطى كأنما فار من اغواء تلك الفكرة الجريئة. مقترباً من رأس الشارع، لمح شبح رجل مسلح. كان يعلم أنه الحارس الليلي يذرع بخطواته المنتظمة عرض الطريق، غير أن ذلك لم يحل دون احساسه بالخوف. فقد غشته على الفور تلك التصورات المظلمة حول الرجال المسلحين. كان إبراهيم مسكوناً بالظن ان اطلاق النار بالنسبة إلى هؤلاء ببساطة الضغط على الزناد. فقد يكون المرء ماراً في طريقه بسلام فيبرز له فجأة رجل مسلح يأمره بالركوع ويوجه بندقيته إلى صدغه ويضغط على الزناد: طاخ وينتهي الأمر. ولطالما استولت عليه تصورات كهذه وجمدت الدماء في أوصاله، خصوصاً حينما كان يلمح رجلاً مسلحاً في الطريق. وهو ما جعله يتجنب الاقتراب من المسلحين ما أمكنه ذلك. وفكر للحظة ان يستدير ويعود ادراجه، إلا أنه خشي أن يكون الحارس رآه. مستجمعاً شجاعته جعل يقترب من الحارس محاولاً قدر الإمكان اخفاء ارتباكه وخوفه. "إلى أين أنت ذاهب؟" جاء صوت الحارس، حازماً جافاً ما جعل إبراهيم يحس بأنه لا بد أن ينهار أمامه لا محالة. ومن الأفضل له ان يشرع في البكاء متوسلاً الحارس ان يعفو عنه ولا يقتله. "لن تصدق ذلك" اندفع قائلاً بصوت تصنّع فيه الاستهجان. "ماذا؟" هتف الحارس بجفاء. "ابحث عن ضيفي". "ضيفك؟". "نعم، ضيفي. إنه أحد أقربائي، جاء لزيارتي. استيقظت فجأة ولم أجده، فحسبت أنه ذهب لكي يتمشى". "يتمشى؟" سأل الحارس بإستهجان، وأردف بصوت أعلى: "أفي هذا الوقت من الليل"؟ هزّ رأسه بإستنكار، وقال كمن يشاء إنهاء الموضوع بأنه لم ير أحداً يمر من هناك. واستدار لكي يتابع سيره المنتظم. "غريب" همس إبراهيم، كأنه يتحدث إلى نفسه "وأين تعتقد بأنه ذهب؟" سأل متوجهاً إلى الحارس. ونظر هذا الأخير إليه بدهشة من لم يكن يتوقع سؤالاً غبياً كهذا. وكاد للوهلة الأولى أن يأمره بالانصراف على الفور، إلا أنه عوضاً عن ذلك انفجر ضاحكاً، وقال بصوت ساخر: "اعتقد ان الريح سرقته". واتجه إلى مقعد بحذاء الجدار وأراح نفسه عليه. لم ينزعج إبراهيم من سخرية الحارس. بل على العكس من ذلك أحسّ بشيء من الانتصار لأنه استطاع أن يستدرجه إلى حوار كهذا. ولكن سرعان ما اعتراه القلق والضيق. إذ تنبه إلى أن الذين يتعقبونه لا بد يعرفون أنه كاذب وقد يظهرون في أية لحظة ويفتضحون أمره أمام الحارس. لم يكن يعلم ما الذي ينبغي عليه فعله، هل ينسحب بهدوء أم يُصر على استئناف سيره بحثاً عن ضيفه المزعوم. ولم ينقذه من حيرته سوى صوت الرجل يدعوه إلى الجلوس بمحاذاته. استغرب إبراهيم هذا التودد المفاجئ من رجل مسلح، وهو الذي لم يعتد من المسلحين إلا نظرات الكراهية والاحتقار، أو هذا ما كان يظنه على الدوام. صمم على أن يكون حذراً بما يتفوه. غير أنه بعد وقت قصير، واستجابة منه إلى طلاقة لسان الحارس الذي جعل يخوض في شتى الأمور، شرع إبراهيم يفضي بهواجسه إليه، لا سيما خوفه الدائم من الرجال المسلحين. ولم يتنبه إلى أنه أسرف في افشاء ما يقلقه على الدوام إلا حينما لاحظ أن الحارس ممعن في الاصغاء إليه بمزيج من الدهشة والسخرية وليس بقسط من التعاطف الذي وطّن الأمل على الظفر به أخيراً. وافلتت من الحارس ضحكة كان جهد في كبتها. وسرعان ما انطلق مقهقهاً بصوت رجراج ساخر: "إذن كنت تظن انني يمكن أن اقتلك؟" وكفّ عن الضحك بشكل مفاجئ وغمرت وجهه سيماء الجديّة. أراد إبراهيم ان يشرح له ما عناه بالضبط، إلا أنه أحسّ بأن لا جدوى من فعل ذلك، فلاذ بالصمت على مضض مواطناً املاً أن يستأنف تبادل حديث ودي معه بما يتيح له الاعتذار والانسحاب بهدوء. "ولمَ لا؟" قال الحارس بصوت هامس كمن يتحدث إلى نفسه، "كان بوسعي ان اقتلك واسحب جثتك إلى البستان المجاور. لن يدري بمصيرك أحد". كان في صوت الحارس نبرة جادة بعثت الرعشة في أوصال إبراهيم. فحاول تصنّع الابتسام أملاً بأن يحوّل الأمر إلى محض دعابة، إلا أن احساساً عميقاً بالخوف استبد به مثيراً الهواجس التي تسنى له استبعادها بعض الوقت. وراح يستعيد كلمات الحارس كلمة كلمة، مسلماً بأن الرجل كان جاداً في كل ما نطق "نعم ماذا لو اطلق عليّ النار في هذه اللحظة بالذات وحمل جثتي إلى البستان المجاور؟ ما الذي سيحول دونه وفعل ذلك؟" مرتاعاً حدث نفسه في ما راح يرمق البندقية المسندة إلى الجدار بطرف عينيه. لكن ذلك لم يحدث. وكانا اطرقا صامتين بعض الوقت، ولم يبدر عن أي منهما سوى نظرات عابرة نمّت عن خوف متبادل. لم يجرؤ إبراهيم على النطق بأي كلمة مخافة أن يؤدي ذلك إلى عكس ما يشتهيه، وآثر التريث منتظراً صدور الحركة الأولى عن الحارس نفسه. أكثر من أي وقت مضى تنبه الآن إلى أن المنطقة مهجورة فعلاً وأن كل ما يمكن ان يحدث فيها قد يبقى طيّ المجهول. أما بالنسبة إلى أولئك الذين ما انفكوا يقتفون اثره، فما كان في وسعه التعويل على نجدتهم. ولكن لحسن حظه، فإن الفرج لم يكن بعيداً، إذ سرعان ما نهض الحارس متثاقلاً طالباً من إبراهيم أن يمكث هناك ريثما يصنع شاياً لكليهما. سعل بتقطع في ما كان يعلق البندقية إلى كتفيه وخطا نحو باب إلى اليسار. لم يصدق إبراهيم عينيه، وحسب ان انقلاب الموقف على هذا الوجه أقرب إلى المعجزة. ناظراً إلى الباب حيث اختفى الرجل هبّ واقفاً وشرع يعدو من غير تردد. بيد ان الظن أن ثمة من كان يتعقبه لم يزايله. وداخله ارتياب بأن أحدهم قد يقبض عليه من الخلف صارخاً "إلى أين؟". ولعل أشد ما راعه من فكرة كهذه ان الصوت المتخيل بدا أقرب إلى صوت الحارس نفسه. وما كان لهذا التصوّر إلا أن حضه على مواصلة الجري بسرعة لم يعهدها في نفسه، حتى بدا كأنه كان ملاحقاً من جيش بأكمله. لم يتوقف أو يتمهل حتى تراءى لناظريه زقاق على الجهة اليمنى للطريق. انعطف إليه على الفور وشرع يمشي بخطوات واسعة. كان الزقاق أشد ظلمة من الطريق بفعل وقوعه أسفل صف من أشجار السرو أحس للحظة أنه قد أمسى كائناً غير مرئي، ما ادخل بعض الاطمئنان إلى نفسه. سائراً في ذلك الزقاق حدس إبراهيم بما سيكون عليه أمر الحارس حينما يؤوب فلا يعثر له على أثر. وألفى نفسه أسير الهواجس ثانية. وكاد ان يبلغ نهاية الزقاق إلاّ أنه سرعان ما انعطف باتجاه ممر قصير يفضي بدوره إلى زقاق آخر أضيق وأكثر تعرجاً. كانت أرضه مغطاة بالقاذورات وبدا كأنه لا يفضي إلى أي مكان محدد. غير ان نسيماً بارداً هبّ على حين غرة فأنعش وجهه الحار بفعل إقباله على الركض، واستبشر في الأمر خيراً وقرر ان يمضي إلى حيث يقوده ذلك الزقاق. غير ان سعادته لم تدم، إذ أطل شبح رجل مسلح من أحد المنعطفات المفضية إلى الزقاق فعاوده الاحساس بالقلق "لا بد من مواجهة مسلح آخر" حدث نفسه بيأس، "ولا مناص من مواصلة السير أياً كان المصير الذي ينتظرني في النهاية". وبدا كأنه سلم أخيراً بأن ليس ثمة مهرب من قدره المحتوم. وللحظة فكر لربما قد أفلح في التخلص من كافة هواجسه فأمسى رجلاً جديداً غير هياب بما سيواجهه من متاعب. لكنه كلما كان يزداد اقتراباً من الرجل كلما أدرك أنه أسرف في تقدير الشجاعة التي انتابته لوقت قصير. وندم على تصميمه غير الحكيم بمواصلة السير. وايقن بأن تصميمه هذا لم يكن إلا من قبيل العناد والعبث، وانه قد بدد فرصة نادرة في تجنب مواجهة كهذه. كان جسده مبتلاً بالعرق وراح قلبه ينبض بعنف. ولم يعد في وسعه السير بخطوات ثابتة. لا ريب في أن المسلح لاحظ تردد إبراهيم. إذ ما أن دنا منه حتى تريث وراح يرميه بنظرات ارتياب. وانزل السلاح عن كتفه وأمسك به على وجه ينم عن استعداد مفاجئ للمواجهة. "إلى أين أنت ذاهب؟" سأل بصوت صارم. ثبت إبراهيم في مكانه حيال ذلك الصوت الفظ الآمر، ورفع عينين مترددتين متوسلتين إلى المسلح الواقف على مبعدة خطوات قليلة منه بصلابة وعداء، موجهاً فوهة بندقيته إليه. كان إبراهيم عاجزاً عن النطق، ولم يبدر عنه سوى حركة من يده لا معنى لها. وبدا له الموقف مطابقاً لذلك الموقف الذي لطالما اطبقت صورته على مخيلته. ووجد نفسه فريسة الظن بأن المسلح قد يطلق عليه النار في أي لحظة، وليس ثمة من قوة قد تحول دونه والإقدام على فعل ذلك. "لا بد أنك جاسوس" جاءه الصوت المعادي ثانية. مرتجفاً، كمنت ألمتّ به حمى مفاجئة، لم يتبيّن إبراهيم كيف قيض له أن يلقي بنفسه أمام المسلح المنتصب أمامه طالباً الرحمة "ارجوك لا تقتلني، ارجوك!" توسل إبراهيم وقبض على يد المسلح محاولاً تقبيلها. أثار ذلك السلوك المفاجئ دهشة الرجل المسلح. وظن للوهلة الأولى بأن إبراهيم إنما يتصنع الخوف هزءاً به. نتر يده بعنف وراح ينظر إليه من أعلى باحتقار في ما تراءت عيناه الغاضبتان كأنهما عينا عفريت من الجحيم. "أرجوك لا تقتلني، لم ألحق بك أي أذى". استأنف إبراهيم توسله وانحنى مقبلاً يد المسلح. "وهل تظن ان في هذا ما يفيدك؟" هتف المسلح بنفاد صبر متراجعاً خطوتين إلى الخلف. "قف!" أمره بعد لحظات صمت بدا خلالها كأنه يزن الأمر لكي يصل إلى حكم سديد. مذعناً لمشيئته، نهض إبراهيم على قدميه وراح يحدق في الرجل المسلح محاولاً ان يتبيّن ما يبيّت له من شرور. وجعل ينتظر بفارغ صبر صدور حكمه، بينما راح هذا يطلق سعلات خفيفة كمن يستعد للنطق بأمر بالغ الخطورة. ولكن، لدهشة إبراهيم سأله المسلح إذا كان متزوجاً أم عازباً. لم يستطع إبراهيم إخفاء دهشته، وكاد للوهلة الأولى ان يرد قائلاً: "ما علاقة هذا بما نحن فيه؟" بيد أنه استدرك ان في الأمر فرصة للنجاة، فسارع إلى القول: "نعم، انا متزوج ولدي ثلاثة أطفال". هزّ المسلح رأسه بإشارة تفهم. "أرجوك لا تقتلني لخاطرهم!" طفق إبراهيم يتوسل من جديد، وهمّ بالركوع ثانية، غير أن المسلح استوقفه بإشارة حازمة من يده. "انظر! سأمنحك ساعة واحدة لكي تذهب وتراهم قبل أن اقتلك". قال المسلح بلهجة خلت من أي اثر للمزاح أو السخرية. ثم استأنف محذراً: "يجب أن تكون هنا بعد ساعة واحدة فقط. مفهوم! ساعة واحدة لا أكثر" أكدّ بحزم هازاً سبابته في وجه إبراهيم، "والآن، اذهب!". حار إبراهيم: هل كان ينبغي عليه ان يستأنف توسله كي يُعفى عنه أم ينتهز الفرصة ويسارع إلى الفرار من دون تلكؤ. وكان من الواضح له انه لم ينج تماماً، وان لهذا المسلح صلة وثيقة بأولئك الذين ما انفكوا يترصدونه، فهو لئن اطلق سراحه الآن فلأنه واثق أنه قادر على النيل منه اينما شاء. غير ان سماعه كلمة "اذهب!" جعلته يتناسى الأمر ويطلق ساقيه للريح من غير تردد. على غير هدى جعل يعدو من زقاق إلى ممر ومن ممر إلى زقاق. ممرات مهجورة وأزقة لا يسلكها إلا من ضلّ سبيله. وانقضى وقت طويل قبل أن يتمهل محاولاً التقاط أنفاسه. مضمخاً بالعرق، أحس بأنه يكاد يختنق وانطلق في نوبة سعال حاد. في النهاية نفذ إلى ميدان صغير. وما عتم ان راوده الظن بأنه كان في هذا الميدان من قبل. وأثار انتباهه على نحو خاص بيت صغير ارتفع منفصلاً عن صف البيوت المتلاصقة. ولاح له ذلك البيت مألوفاً لديه إلى حد أنه سلّم بأنه لا بد مرّ أو حتى أقام في هذه المنطقة من قبل، بل انه لم يستبعد ظناً طارئاً ان هذا البيت مقصده منذ البداية، وان ما كابده في الأعوام الماضية لم يكن سوى عقابٍ له على ابتعاده عنه. مدفوعاً بهذا الظن الآسر، اتجه تلقائياً نحو ذلك المنزل، وتراءت له خيوط الضوء المتسربة من النافذة العليا كأنها خيوط سحرية تشده إلى الدخول. منحنياً بين وقت وآخر لكي ينفض الغبار عن ثيابه، اطمأن بأن هواجسه السوداء زايلته. طرق الباب وراح ينتظر على مبعدة خطوات وكأن ثمة سكون مريح اكتنف المكان لم يقطعه سوى صوت دنو خطوات منتظمة. انفتح الباب عن رجل في منتصف العمر بملابس النوم. ما ان وقعت عيناه على إبراهيم حتى اضاءت وجهه نظرة ارتياح. وتراجع إلى الخلف مفسحاً له سبيل الدخول. وجعلا يرمقان أحدهما الآخر بفضول وما فتئا ان تعانقا كأنهما شقيقان يلتقيان للمرة الأولى بعد فراق طويل. غير ان أياً منهما لن ينطق بكلمة. في الداخل كانت الغرفة شحيحة الاثاث. مضاءة بمصباح غاز استقر على طاولة صغيرة في الزاوية بين أشياء أخرى. "أكان من العسير المجيء إلى هنا؟" سأل صاحب المنزل متقدماً إبراهيم نحو مقعد مريح بجوار الطاولة. أومأ إبراهيم بالايجاب وألقى بنفسه إلى المقعد متنهداً بعمق. "لا بد انك جائع؟" قال الرجل ناظراً إلى إبراهيم بعينين متفحصتين. كان إبراهيم مرهقاً وجائعاً، فأومأ بالايجاب ثانية. حمل الرجل المصباح وخطا نحو المطبخ مسبوقاً بظل أشبه بظل عملاق. ولكن قبل أن يختفي تمهل مستديراً، وسأل إبراهيم إذا يود مساعدته في صنع وجبة طعام له. وعلى رغم ان إبراهيم كان متعباً، إلا أنه لم ترقه فكرة البقاء وحيداً. فنهض بتثاقل وتبعه. وكان يريد أن يستكين إلى الظن بأنه قد بلغ في النهاية برّ الامان، غير أنه ما لبث ان فكر في أن هذا لا بد وأن يكون واحداً منهم أيضاً.